الفكر اللغوي عند اليونان وسبل انتقاله إلي السريان

تقديم:

  دعا فلاسفة اليونان وحكماؤهم إلى الأخذ بأساليب معينة، وطرق خاصة، للهيمنة على التفكير الإنساني، والسيطرة على ما يدور في الأذهان. وقد جعلوا تلك الأساليب والطرق في صورة بديهيات لا تقبل النقاش، ولا يصح أن تكون موضع جدل أو نزاع، ثم اتخذوا من تلك البديهيات مقدمات لقضايا عقلية، ينتهون منها إلى حكم خاص، لا يتردد العقل في قبوله. وكان من نتيجة هذا النهج العقلي في الأحكام أن ابتدعوا لنا علما سموه المنطق بينوا حدوده، ونموا موضوعاته، حتى أصبح على يدي أرسطو علماً، واضح المعالم، يتدارسه الناس، ويفيدون التفكير بحدوده، فلا يكاد الحكيم منهم يتعدى تلك الحدود، بل يلتزمها في تفكيره ويتمسك بها في كل نواحي النشاط الذهني (1).

  ولم يتخذ أرسطو، ومن نحا على نحوه من المناطقة لهذا العلم رموزا، كالرموز الرياضية والهندسية. ولكنهم صاغوا قضاياه ومسائله على نهج لغوي شبيه بكلام الناس، اعتقادا منهم أن أساليب اللغة ليست إلا وسيلة للتعبير عما يدور في الأذهان، ومثل الفكر الإنساني قبل النطق بمضمونه مثل الصورة الشمسية قبل تحميضها، فإذا عولجت بقدر خاص من الأحماض، اتضحت معالمها، وتكشفت خطوطها وملامحها. وهكذا شأن التعابير اللفظية مع العمليات الذهنية، ولا يكاد يعدو مهمة التوضيح، وإبراز المعالم والملامح للأذن الإنسانية. ولما انتهى أرسطو من تأسيس منطقه، وتحديد تعاليمه، رغب في حمل عامة الناس على انتهاج هذا المسلك في التفكير، والتزام تلك الحدود بعد أن صب تعاليمه في قوالب لغوية، وصاغها في صورة ألفاظ وأصوات، كالتي يألفها الناس في أحاديثهم (2).

  وهنا بدأت الصلة بين اللغة والمنطق، وظل المفكرون بعد أرسطو قروناً طويلة يربطون بين اللغة والمنطق، ويحاولون صب اللغات في تلك القوالب المنطقية التي ابتدعها لنا أرسطو: طورا يوثقون هذه الصلة فينكرون من كلام الناس ما لا يتفق وحدود المنطق، وأخرى يقتصدون في هذا فنرى، منهم من يجعل للمنطق حدوده وللغة حدودها. ولكن الحدود مشكلة متداخلة. فهناك ناحية من المنطق تنطبق تمام الانطباق على ناحية من اللغة، كما أن هناك من المنطق ما لا يمت للغة في صورتها المألوفة الشائعة على الألسنة بصلة ما. ولبث المنطقي يغزو ببحوثه بعض مناطق اللغات، كما ظل اللغوي يقتحم ببحوثه بعض نواحي المنطق.

  ولو أن أرسطو قد اتخذ لعلمه رموزا أخرى لا شأن لها بما يدور على الألسنة من ألفاظ وعبارات، ما احتاج المنطقي إلى البحث في اللغة، ولا احتاج اللغوي إلى النظر في المنطق، ولما كان ذلك الصراع بين المناطقة واللغويين في بعض العصور المتأخرة، فقد استطاع أرسطو أن يقرب بين منطقه واللغة اليونانية، إن لم يكن قد جعلهما منطبقين تمام الانطباق، متآلفين تمام التآلف؛ وأعجب المفكرون في الأمم الأخرى بمنطق أرسطو، وحاولوا صب لغاتهم في تلك القوالب موفقين في هذا تارة، وبعيدين عن التوفيق تارة أخرى، يجدون من لغتهم ما يواتيهم ويطاوعهم حيناً، ويتعثرون ويتكلفون حينا آخر (3).

  وهنا نحاول في هذه الورقة أن نحلل الفكر اللغوي عند اليونان وسبل انتقاله إلي السريان، وذلك علي النحو التالي: –

أولًا: علاقة المنطق بالنحو عند اليونان وسبل انتقالها إلي السريان:

  تعد قضية العلاقة بين المنطق والنحو من أدق موضوعات فلسفة اللغة وأصعبها تناولا، ويهتم بها المناطقة، والفلاسفة، والنحاة منذ أقدم العصور، بل من قبل أن يصيغ أرسطو المنطق، ويضع قواعده، فلقد نشأ المنطق مرتبطا بالجدل، الفكري والنحوي الذي ساد القرن الخامس وشطرًا من القرن الرابع قبل الميلاد عند كل من المدرسة الأيلية وجماعة السوفسطائيين، إذ اهتموا بالجدل، وبقوة الكلمة، عن قوة الفكر، وبفن الإقناع الذي هو بعينه فن التفكير، وكان بحثهم في اللغة بحثا منطقيا (4).

  والعلاقة بين المنطق والنحو علاقة قديمة وحميمة، إذ يلتقيان في مصطلحيهما، وفي غايتهما. فالنحو آلة يعرف بها صواب تراكيب ألفاظ اللغة ومعانيها من خطئها، والمنطق آلة يعرف به صحة المعني وتصديقه من خطئه. وكل منهما يعتمد طرق الاستقراء والاستنباط. غير أنهما لا يتطابقان تماما، فالمنطق يستند إلى الأدلة العقلية، مفترضا وحدتها وشمولها، والنحو يستند إلي معطيات اللغة الوصفية معترفا بأن قواعدها قابلة للاستثناء والتخصيص (5).

  ومن جهة أخرى فإن العلاقة بين النحو والمنطق تعد من الموضوعات العريقة التي تناولها العلماءُ منذ زمن بعيد، إذ لا نجد من العلماءِ القدامى أحدًا ضرب سَهمًا في مجال اللغة، أو البلاغة، أو النقد، إلا والعلاقة بين النحو والمنطق، كانت إحدى أغراضه ومراميه. ولذلك فإنه إذا ما درسنا هذه العلاقة من منظار تاريخي نصل إلي أن لفلاسفة اليونان نظراتٍ تتعلق بهذه العلاقة.

  ومن يتتبع تاريخ الدراسات اللغوية في الفكر اليوناني سيدرك أن هذا الفكر قد افترض اللغة اليونانية مقياساً للغات العالم، وبنى علي ذلك اعتقادا تُخطئه الدراسات اللغوية الحديثة، وهو أن دراسة اللغة اليونانية في تراكيبها وطرقها صادقة علي كل لغات العالم، إذ أن هذه اللغات تجري علي مقياس اليونانية. وهذه الدراسات اللغوية القديمة تختلط إلى حد كبير جدًا بالنظريات المنطقية والميتافيزيقية، ولقد وصف كُتاب اللغة من الإغريق الجملة حكما منطقيا، وعدوا بها طرق الإسناد النحوي بالطريقة نفسها، ولقد عدوا الموضوع والمحمول في المنطق (6).

  ويصادفنا في مجال التفكير اللغوي- المنطقي أعمال السوفسطائيين الخاصة بالنحو والتي حملت في ثناياها بذورا منطقية أكيدة، فقد أرجعوا التصور (المعني) إلى اللفظ مما يسر لهم أن يجعلوا من الجدل وسيلة للانتصار على الخصم ؛ ومعنى هذا أن السوفسطائيين قد بحثوا في النحو فأدى بهم إلي المنطق (7) ؛ و” لقد قام بروتاجوراس Protagora ببعض الدراسات الأولية في النحو كأساس للمنطق” (8)؛ حيث يعد أول من تحدث عن أجناس الأسماء gene onomaton ؛ أي المذكرة arena والمونثة thelea وما نسميها المحايدة وسماها هو skeue (= الأشياء غير الحية). واستخدم أرسطو نفس هذه المصطلحات، وإن كان يستخدم أحيانا metaxy (= ما بين) بدلًا من skeu ” (9).

  وإذا انتقلنا إلي العلاقة بين النحو والمنطق عند أفلاطون ( 429 – 347 ق. م )، نجد أنه علي الرغم من أنه لم يسق آراءه اللغوية بشكل مترابط، ولم يجمعها في مكان واحد، فقد عده الباحثون ” رائد الدراسات النحوية وأول فاحص للمشكلات النحوية ” (10) ؛ فهو يُعد واحدا من أهم وأشهر فلاسفة اليونان الذين جاءوا بعد السوفسطائيين والذين شغلوا أنفسهم بالبحث في أقسام الكلام.

  أما رأيه في أقسام الكلام، فنجده أنه كان أول من صاغ لنا تعريفًا للجملة، إذ يقول: “إن الجملة هي تعبير عن أفكارنا عن طريق أسماء Onomata وأفعال Rhemata، وهذه الأسماء والأفعال تحكي أو تعكس أفكارنا في مجرى النفس الذي يخرج من الفم عند الكلام، ثم يعرف الاسم علي أنه اسم لفاعل الفعل، أما الفعل فاسم ” للفعل نفسه”. ومن الاسم والفعل تتكون الجملة. وواضح من هذا أن أقسام الكلام عند أفلاطون اثنان هما الاسم والفعل، وهما قسما الكلام في الجملة الخبرية، ولم يكن لأفلاطون وأرسطو من بعده اهتمام بغير هذا النوع من الجمل، لأن هذا النوع من الجمل، هو الذي يستحوذ اهتمام الحكماء والمناطقة دون غيره من جمل الدعاء والسؤال والأمر (11).

  وهنا يرى بعض الباحثين أن أفلاطون يعد بذلك أول من فرق بين الاسم والفعل، كما أنه أعطانا تقسيمًا ثلاثيا للأصوات يمكن أن يكون: أصوات العلة – الأصوات الساكنة المهجورة – الأصوات الساكنة المهموسة. وأقر أرسطو تقسيم أفلاطون للكلمة، إلي اسم، وفعل، وزاد عليها قسما ثالثًا سماه رابطة، وذلك أنه شعر أن الأفعال والأسماء تؤدي معاني مستقلة، في حين أن سائر الكلمات ليس لها إلا الوظيفة النحوية فقط (12).

  وبصفة عامة كان منطلق أفلاطون الاقتناع بأن الكلمة هي الشكل المادي للفكرة، وأنها تمكن بدايات معرفتنا عن العالم. وقد تولدت المحاولات الأولى لتعريف المحاولات النحوية الأساسية من هذا الموقف الفلسفي وتطبيقا للمعايير المتصلة بعمليات المنطق عرف أفلاطون “الاسم بأنه شيء يخبر عنه، وعرف الفعل بأنه ما يخبر به عن الاسم “(13).

 وقد كان أرسطو هو الذي دخل تاريخ الدراسات اللسانية علي أنه المؤسس الحق للنحو الأوروبي التقليدي، وخلال القرون التالية لم يتغير فكره حول أقسام الكلم إلا في تفاصيل لم تمس جوهره الأصيل. وللمقاربة التقليدية للنحو جذورها الضاربة في الطرق التي اعتمدها ارسطو لرصد ظاهرة اللغة، ولا سيما في مجال بنية الجملة. وقدم أرسطو – في الحقيقة – ضمن تأملاته عن اللغة معايير خاصة يلبي البحوث الفلسفية حين صنف الأشكال النحوية وفقاً لما تشير إليه من مادة، وكيف، وكم وعلاقة، ووجود، وتغير. . الخ. وقد أثبت هذا الميراث الفكري الفلسفي أنه ميراث بلغ الغاية من بعد النظر والثبات علي الزمن فيما تلا ذلك من تطور في مجال اللسانيات (14).

 وكان أرسطو هو أول من حاول تصنيف أقسام الكلم، فجمع كلًا من الأسماء Onoma والأفعال Rhema معا؛ حيث رأى إن هذه الكلمات هي وحدها التي تحمل معاني مستمرة في ذاتها، في مقابل كل الكلمات الأخرى التي لا تفيد إلا في ربط العمليات المنطقية الأخرى للتفكير Syndesmoi، وقد اتضح فيما بعد ثبات الأساس الخاص بتقسيمه، على الرغم من أن الترتيب الفعلي لأقسام الكلم المتعينة داخل هاتين المجموعتين قد تغير إلى حد ما (15).

  وتختلف الأفعال – تبعا لطريقة أرسطو في التفكير – عن غيرها من أنواع الكلم بسبب خصائصها المتعلقة بتشكيل الزمن. ومن هنا كان الإسناد هو الوظيفة الأساسية للفعل. وعلي الرغم من ذلك عـدَ أرسطو المسند ذا وظيفة أكثر اتساعا من الفعل: فالمسند يتضمن كل ما يعطي معلومة عن المسند إليه. وبالنظر إلي أن البشر يمكن تعيينهم تبعًا لما يطلق عليهم من نعوت، لذا فإن هذه النعوت – التي يعبر عنها نحويًا بالصفات – هي ليست أفعالا علي الحقيقة، ولكنها من قبيل المسند. وهذا يعني شيئين: أحدهما- أن هناك جملا بلا أفعال، والثاني- أن المسند لا يلزم أن يكون فعلا علي الحقيقة (16).

  وقد عرف أرسطو الجملة بأنها تركيب مؤلف من عناصر صوتية تحمل معني محددا قائما بذاته، ولكن كلا من مكوناته يحمل – في الوقت نفسه – معني خاصا به أيضا. غير أن نظرية أرسطو في الجملة كانت مرتبطة في عمومها بنظريته في الحكم المنطقي، التي أدت به إلى أن يضفي علي قضية الإسناد أهمية خاصة (17).  

  ومن جهة أخرى يقال إن أرسطو قد توصل إلى كثير من التصنيفات المنطقية خلال دراسته للنحو اليوناني ؛ حيث ذهب إلى أن الكلام يعبر بدقة عن أحوال الفكر، وأن المرء في وسعه أن يستعين بالقوالب النحوية لكي يكشف عن أحوال الفكر، فالنحو ينظر إلى الألفاظ من ناحيتين: من ناحية وجودها مفردة؛ فيقسمها إلى أسماء، وأفعال، وحروف، ومن ناحية ارتباطها في جملة معينة. ونفس الشيء يقال عن الفكر الذي ينقسم إلى الأفكار المفردة وهي تصورات، والأفكار المرتبطة وهي القضايا أو التصديقات، وعلى هذا فتقسيم أرسطو للأفكار إلى تصورات وتصديقات هو تقسيم مأخوذ أصلا من النحو (18).

  كما ميز أرسطو بين الاسم المفرد، والاسم المركب، واسم الذات، واسم المعني، والاسم الإضافي أو النسبي، كما قسم الاسم إلي اسم حقيقي واسم مستعار، ومن ناحية أخري قسم الاسم إلى المذكر، والمؤنث، والمحايد، وقدم تعريفا لكل من الاسم والكلمة (الفعل). كما بحث أرسطو في الألفاظ ومعانيها، فقسم الألفاظ إلي المتفقة، والمتواطئة، والمشتقة، وكذلك قسم المقولات إلى عشرة أقسام هي مقولة الجوهر، والكم، والكيف، والإضافة، والأين، والمتي، والفاعل، والمفعول، وأن يكون له، والوضع، معتمداً في هذا كله علي منطق القياس (19).

  بل إن البعض يري أن قائمة المقولات الأرسطية قد أخذها أرسطو أيضا من النحو، والدليل على ذلك أن مقولات أرسطو تقوم علي تقسيم الكلام إلى أجزائه: فالجوهر يقابل الاسم، والكيف يقابل الصفة، والكون يقابل العدد، والإضافة تقابل صيغ التفضيل، والأين والمتي يقابلان ظرفي المكان، والزمان، والفعل، والانفعال والوضع تقابل الأفعال المتعدية، والمبنية للمجهول، واللازمة على التوالي، والملك يقابل صيغة الماضي في اليونانية Para Fait إذ يدل على الحالة التي يملكها الشخص نتيجة فعل فعله (20).

  كذلك كان لبعض أفكار أرسطو المنطقية تأثيرها عندما حاول اللغويون ـ فيما بعد ـ تطبيقها على الدرس اللغوي. من ذلك مثلًا أفكاره في التعريف المنطقي؛ إذ وجدت آثارها في التطبيقات المعجمية (21)، وأفكاره عن “معنى جزء الكلمة بالنسبة للكلمة، ومعنى جزء الجملة بالنسبة للجملة، وقد أخذها النحاة بعد ذلك لتكون أساسا لتقسيم النحـو إلى البنيـة morphology والتركيب syntax” (22). كما كان لأفكـاره فـي “المعنى” تأثيرهـا الواضح في النظريـة العقليـة mentalistic وهي إحدى النظريات الرئيسة في تفسير المعنى (23).

 ولعلنا سنكشف في طوايا هذا الكتاب عن المزيد من الجوانب اللغوية في منطق أرسطو، وكذلك عن الأفكار المنطقية الأرسطية التي كان لها تأثير في الفكر اللغوي.

  وإذا انتقلنا إلى البحث المنطقي عند “الرواقيين” (24)، فإننا نجد اهتماما متزايدا بالجوانب اللغوية، وبالنحو على وجه أخص ؛ حيث ميز الرواقيون بين أقسام الكلام، وهي الاسم، والفعل، والأداة، والحرف، والظرف، كما تطورت المصطلحات الفنية بشكل كبير علي يد الرواقيين، وقدموا تفسيرا لبعض المصطلحات الأرسطية وزادوا عليها. وبالإضافة إلى ذلك، وضع الرواقيون تصنيفا دقيقا لحالات الإعراب، ووضعوا تعريفات محددة لبعض المصطلحات مثل المضارع، والتام، والرفع والنصب (25).

  وعلى أيدي الرواقيين زيد قسم رابع، ثم قسم خامس إلى أقسام الكلمة الثلاثة عند أرسطو، كما قدمت شروح مستفيضة لآراء أرسطو اللغوية. كذلك يبدو أن الرواقيين كانوا أول من درس العدد والمطابقة بين الاسم والفعل، وحالات الاسم الإعرابية، وحالات الفعل من حيث الصيغة والزمن (26). كذلك فرق الرواقيون “بين الفعل المبني للمعلوم والمبني للمجهول، وبين الفعل المتعدي والفعل اللازم” (27).

  ومن جهة أخري أراد الرواقيون في دراساتهم اللغوية من خلال علم الاشتقاق Etymology تتبع الأسماء علي أصولها، ويمتد ذلك بالطبع إلي تتبعها في اللهجات، واللغات الأجنبية، وإن كانت مقارنة اللغات لم تحظ باهتمامهم أو باهتمام النحويين اللاتينيين بعدهم، وذلك لصعوبة الدراسة في هذا المجال ؛ حيث أدى الأمر إلى معرفة أجنبية. أما في مجال النحو أو التركيب، فقد تصور الرواقيون مفهومًا معينًا للجملة المركبة، وناقشوا في هذا المجال وظيفة الروابط، كما ميزوا أيضًا بين أنواع مختلفة من الجمل ( المبتدأ في حالة الرفع، وكذلك الحالات التي تنحرف عن هذه الحالة، والخبر المتعدي واللازم )، كما أنهم توصلوا إلي مفهوم التطابق (28).

 وإذا انتقلنا إلي العصر الذي يلي عصر الرواقيين، نجد أن انتشار اللغة اليونانية قد بدأ في منطقة الشرق الأدنى في أعقاب غزو الإسكندر الأكبر لها، إذ كان دخوله للشرق وما تلاه من تكوين إمبراطورية يونانية في غرب البلاد اليونانية بمثابة نقطة تحول في التاريخ السياسي، والاجتماعي، والفكري بها ؛ حيث دبت فيه حياة جديدة من الحضارات المختلفة والتي تتكون منها الحضارة الشرقية عامة، والتأم شملها في وحدة جديدة تحمل طابع الروح اليونانية، وصارت اليونانية لغة الإدارة العليا والمهن، ولغة الرقي الاجتماعي، وأصبح تعليم اللغة اليونانية لغير اليونانيين أول مرة نشاطًا واسع الانتشار له أساليبه ومتطلباته (29).

 ومنذ ذلك الوقت اشتهرت اللغة اليونانية في البلاد السريانية، وأصبحت لها منـزلة اللغة الرسمية، ففي الإسكندرية بلغ علم اللغة عند اليونان أوج ازدهاره في الفترة الهلينستية ( اليونانية – الشرقية “334 – 531 ق.م “) في الإسكندرية في مصر وفي منطقة ( بيرجام ) في آسيا الصغرى، وفي جزيرة رودوس قام قواعديو الإسكندرية بجمع كلمات اللغة ووضعها في معاجم، كما قام ( ديسكولوس ) بوضعِ نحو وصفي للغة اليونانية. ففي جميع أنحاء العالم الهلينستي الشرقي وفي كل مكان، له أية صبغة ثقافية، كانت اللغة اليونانية مستعملة أولًا بوصفها نوعا من اللغة المشتركة بين المثقفين، في حين ظلت الطبقات الدنيا في المجتمع تتحدث اللهجات الآرامية ( السريانية مثلا) أو القبطية.

 ولكن سرعان ما ظهرت مراكز ثقافية مستقلة تزايدت أهميتها بقدر اضمحلال قوة المراكز اليونانية نفسها، ومن بين هذه المراكز، وأهمها: الإسكندرية في مصر، وأنطاكية في سوريا، ثم في فترة تالية – تزايد عدد المدن ذات الجامعات والنظم التعليمية الخاصة (30) ؛ ففي الإسكندرية كان حظ البطالمة أوفر من حظوظ سائر الدول اليونانية في الشرق في ترقية شئون العلم والفلسفة. وكان بطليموس الأول الملقب بسوتير أو المنقذ 367 -283ق. م، أول البطالمة عادلًا محبًا للعلم ( حكم من سنة 305-285ق.م.)، فتقاطر إليه العلماء والفلاسفة من بلاد اليونان علي اختلاف القبائل والأماكن، فأكرم وفادتهم ونشطهم في مواصلة البحث والدرس، وأطلق لهم الأموال فزادوا احترامًا له ورغبة في العلم. وكان في جملة المقربين إليه خطيب أثيني اسمه “ديمتريوس فاليروس” Valerius Demetrios، أشار عليه بإنشاء مكتبة يجمع إليها الكتب من أنحاء العالم، فأجابه إلى ذلك، وهي مكتبة الإسكندرية. وبإشارته أيضًا أنشأ “سوتر” المتحف أو النادي Museum على هيئة مدارس أوربا الجامعة، يجتمع فيه العلماء والأدباء والفلاسفة للدرس والبحث وهو مدرسة الإسكندرية الشهيرة (31).

  وتؤكد المصادر أن مدرسة الإسكندرية قد أسهمت في نقل علوم اللغة والمنطق إلى العرب، ففي سنة 500م، كان العرب يعرفون اسم ” يحي ثامسطيوس – 317-390م “؛ حيث يقول “جمال الدين القفطي”: ” وذكر عبيد الله بن جبرائيل بن عبيد الله بن بختيشوع، أن اسم يحي ثامسطيوس كان قويا في علم النحو والمنطق والفلسفة “(32) ؛ كما عرف العرب ” أمونيوس بن هرمياس ” Ammonius Hermiae ويعرفون تلاميذه: سنبلقيوس simplicius ويحيي النحوي أو يحيي فيلوبولونس الشخصية الكبيرة في مدرسة الإسكندرية علي الأقل إن لم يكن رئيسها ؛ ففي النصف الأول من القرن السادس الميلادي، وضع يحي النحوي شرحه لكثير من كتابات أرسطو، وبالذات كتب المنطق. ويقال إن النشاط الفكري الذي كان في القرن السابع كان استمرارًا للعصر السكندري الذهبي، وكان التعليم الفلسفي قد اقتصر علي دراسة النحو، والبيان، والطب والموسيقي، وعلى أجزاء من منطق ارسطو ؛ حيث يذكر ” إرنست رينان” أن ” الترجمات السريانية للأورجانون في مدرسة الإسكندرية كانت تقف دائما عند الفصل السابع من التحليلات الأولي، كذلك فعل اليعاقبة مثل “سرجيوس” أسقف العرب الذي لم يترجم ولم يشرح إلا هذا الجزء ” (33)، ويذكر “ابن أبا أصيبعة” أن ” يوحنا ابن حيلان كان قد امتنع أولًا عن قراءة كتاب التحليلات الثانية، مع تلميذه أبو نصر الفارابي (34).

  وكانت الأماكن التي إزدهرت فيها علوم النحو، والمنطق، هي مدرسة الرها، ونصيبين، وأنطاكية؛ حيث يؤكد بعض الباحثين أنه ” لما تمدن اليونان واستنبطوا الفلسفة والمنطق وغيرهما، نضجت علومهم وانتقلت بفتوح الإسكندر إلي العراق والشام، تلقاها السوريون ونقلوها إلى لسانهم، وأضافوا إليها بعد انتشار النصرانية الآداب النصرانية اليونانية، وحفظوها مع الفلسفة اليونانية في أديرتهم، ثم كانت مصدرًا للعلم والفلسفة إلى بلاد الفرس والهند وغيرهما. وكان السوريون في دولة الفرس الساسانية الواسطة الكبري في نقل علوم اليونان وطبهم وفلسفتهم إلي الفرس. ولــما بني الإمبراطور الفارسي كسري أنـوشـروان ( ت 587 م) جند يسابور لتعليم الطب والفلسفة، كان جل اعتماده في ذلك على نصاري العراق والجزيرة، ناهيك بما حفظ من الآداب السامية على صبغته الوثنية في حران، لأن أهلها ظلوا على ديانتهم القديمة ” (35).

  ولقد قدم كسرى أنوشروان المأوى في بلاطه لهؤلاء الفلاسفة الذين كانوا بلا وظيفة بعد أن أغلق الإمبراطور الروماني ” جوستنيان” الأكاديمية الأثينية ( 229 بعد الميلاد)، وكان من بين هؤلاء الفلاسفة: سيمبليقيوس. وفي هذه المراكز الثقافية والعلمية كانت الفلسفة اليونانية تُدرس، والكتب اليونانية تترجم إلي السريانية والفارسية. وفي هذه المنطقة القريبة من ” جند يسابور” – كان ظهور العلامات الأولي للتأثير اليوناني، ولعل المناقشات الاعتزالية الأولى حول خلق القرآن ومشكلة حرية الإرادة والنظرية المتعلقة بصفات الله، ولعل كل ذلك يحمل دليلًا على الاتصال بين الثقافتين في مختلف المجالات قبل بدء الترجمة (36).

 ثانيًا: النحو اليوناني وسبل انتقاله إلي السريان: –

 بدأ انتشار اللغة اليونانية في منطقة الشرق الأدنى في أعقاب غزو الإسكندر الأكبر لها، إذ كان دخوله للشرق وما تلاه من تكوين إمبراطورية يونانية في غرب البلاد اليونانية بمثابة نقطة تحول في التاريخ السياسي، والاجتماعي والفكري بها ؛ حيث دبت فيه حياة جديدة من الحضارات المختلفة والتي تتكون منها الحضارة الشرقية عامة، والتأم شملها في وحدة جديدة تحمل طابع الروح اليونانية، وصارت اليونانية لغة الإدارة العليا والمهن، ولغة الرقي الاجتماعي، وأصبح تعليم اللغة اليونانية لغير اليونانيين أول مرة نشاطا واسع الانتشار له أساليبه ومتطلباته. ومنذ ذلك الوقت اشتهرت اللغة اليونانية في البلاد السريانية وأصبحت لها منزلة اللغة الرسمية (37).

  وتشير بعض المصادر إلى أن الترجمات السريانية عن اليونانية ترجع إلى القرن الثاني الميلادي، على أقل تقدير ؛ حيث تبنت الحضارة الرومانية الحقـائق اللغوية التي وصلت إليها الحضارة الإغريقية، ولاعجب فقد تتلمذ الرومان على يد اليونانيين، فنقلوا علوم اللغة اليونانية إلى غيرهم من الأمم، فتعلموا اللغة اليونانية، ونهلوا الكثير من آدابـها، ورغم ذلك فقد أسهمت الحضارة الرومانية ولو بقسط قليل في تطوير الدراسـات اللغوية ؛ وخاصة ما تعلق بالجانبين الدلالي  والبلاغي (38).

 كما تشير مصادر أخرى إلى أن الترجمات السريانية عن اليونانية بدأت منذ أواخر القرن الرابع الميلادي، وكانت ترجمات الكتاب المقدس تحتل مكان الصدارة، تليها شروح العهد الجديد من اليونانية إلى السريانية. وفي القرن السادس نشطت حركة الترجمة واتسع نطاق الأعمال التي نقلها السريان ولا سيما في الفلسفة والطب (39) ؛ كما اهتم السريان بنقل بعض ما كتب باليونانية في النحو، مثل ترجمة كتاب فن النحو للعالم اليوناني ديونيسيوس ثراكس( 170– 90 ق. م) (40).

 وكان ديونيسيوس من تلاميذ مدرسة الإسكندرية التي غلب عليها الفكر الأرسطي والرواقي، ومن ثم استفاد التراث الفلسفي واللغوي السابق، وتأثر بالأفكار الأرسطية والرواقية معا. وقد وصلت أقسام الكلام عند ديونيسيوس إلى ثمانية أقسام، هي: الاسم – الفعل – المشترك – الضمير – الأداة – الحرف – الظرف – الرابط، ورغم أن هذه الأقسام الثمانية كانت معروفة عن أريستارخوس (41)، فإنها لم تظهر فى مؤلف نحوي منظم إلا عند ديونيسيوس، ولهذا يعد ديونيسيوس أول نحوي يضع كتابًا متخصصا في النحو يصف فيه قواعد اللغة اليونانية بهذا الشكل (42).

  وتؤكد معظم الدراسات التي تناولت تطور اللغة السريانية ونحوها أهمية ترجمة كتاب “فن النحو” الذي وضعه ثراكس ؛ إذ ينظر إليها على أنها كانت بمثابة عمل تأسيسي في قواعد اللغة السريانية. ويعد كتاب ديونيسيوس ثراكس، أول عمل نحوي منظم وضع في اللغة اليونانية ؛ حيث يقدم فيه المؤلف تعريفه للقواعد، ودور الدراسات اللغوية ككل، والهدف من إجراء مثل هذه الدراسات (43).

  وتشير المصادر اليونانية المختلفة إلى أهمية كتاب ديونيسيوس أن هذا الكتاب كان بمثابة حجر الأساس للدراسات النحوية في العصر الروماني، ثم في العصور اللاحقة؛ حيث راح النحاة الرومان مثل “فارو “، و”بريشيان”، و” أبوللونيوس يسكولوس” و”سكستوس أمبريكوس” وغيرهم يسيرون على نهجه، وكان النواة الحقيقية لأعمالهم (44). وقد احتفظت الكتابات النحوية في العصور الوسطي والعصر الحديث بالوصف الذي وضعه “ديونيسيوس” لدور القواعد ودور الدراسات اللغوية ككل، وللهدف من إجراء مثل هذه الدراسات. وقد ظل هذا التعريف مقبولا دون اعتراض في الأعمال النحوية المتأخرة لليونانية واللاتينية. كما ترك هذا التعريف أثرا كبيرا على التوجه العملي للدراسات اللغوية في أوروبا (45).

 ويقع كتاب فن النحو في حوالي خمس عشرة صفحة، ويقدم فيه الكاتب وصفًا موجزًا لبنية اللغة اليونانية، يبدأ بتعريف الدراسات النحوية، كما يراها النحاة الاسكندريون، فيقول إن: ” القواعد هي المعرفة العملية باستعمالات كتاب الشعر، والنثر للألفاظ، وهي تشتمل على ستة عناصر: الأول: القراءة الصحيحة مع مراعاة الأوزان العروضية، والثاني: تفسير التعابير الأدبية في المؤلفات، والثالث: تقديم الملاحظات حول أسلوب ومادة الموضوع، والرابع: اكتشاف أصول الكلمات، والخامس: استنباط القواعد القياسية، والسادس: تقدير قيمة الـتأليف الأدبي. ثم ينتقل الكاتب إلى الحديث بشكل موجز عن النبرات، والتنقيط، والحروف، والمقاطع، وقد حظي العنصر الخامس، الخاص باستنباط القواعد، بالاهتمام الأكبر من المؤلف، إذ إنه يتناول القضايا الأساسية للنحو، ولذلك يفرد له عرضًا أكثر تفصلًا عن سواه من العناصر، وهذا هو الجزء الذي نقل إلى اللغة السريانية (46).

 ويحدد “ديونيسيوس” وحدتين أساسيتين للوصف، أولاهما: الكلمة وهي أصغر جزء في تركيب الجملة، ثانيتهما: الجملة وهي حد مركب من الكلمات التي تعبر عن معنى تام. ثم يذكر أن أقسام الكلام ثمانية، ويعرف كل قسم منها علي النحو التالي: –

1- الاسم وهو قسم من أقسام الكلام، يتصرف حسب الحالة، ويدل على شيء مادي أو مجرد ومحسوس. وهو يقصد بالمادي اسم الذات والمحسوس وهو اسم الذات أو المصدر. كما يقسم الاسم إلى اسم عام وآخر خاص، فالمقصود بالاسم العام هو اسم الجنس والاسم الخاص هو اسم العلم، ومن ناحية أخرى فهو يقسم الاسم العام إلى اسم عام وآخر غير عام، وهو يقصد بالاسم العام الاسم الذي يأتي مرة مذكرا ومرة مؤنثا ولكن يغلب عليه صفة التذكير. والاسم غير العام هو الاسم الذي يأتي مؤنثا فقط وليس له مذكر، أو يأتي مذكرا فقط وليس له مؤنث (47).

2- الفعل وهو قسم لا يتصرف حسب الحالة، بل حسب الزمن، والشخص، والعدد، ويدل علي حدث (48).

3- المشترك، وهو قسم يشترك في ملامح الاسم والفعل، ويتصرف كما الاسم والفعل وهو يقصد به أسماء الفاعل والمفعول (49).

4- الأداة: وهي قسم من أقسام الكلام يتصرف أيضا حسب الحالة وتسبق الاسم في الوضع أو تليه (50).

5- الضمير: فهو كلمة تحل محل الاسم، ويتميز بالإشارة إلى الشخص(51).

6- حروف الجر: وتقع قبل كلمات أخرى في تركيب الجملة (52).

7- الظرف: وهو قسم مرتبط بالفعل (53).

8- الروابط: وهي تربط بين معاني الكلام المتناثر وتعمل علي شرحه وتفسيره (54).

  يتبع المؤلف كل قسم من هذه الأقسام ببيان للخواص الصرفية والاشتقاقية التي تنطبق عليه، ويطلق عليها اسم ” الخصائص”. فالاسم يصرف حسب خاصية الجنس من حيث المذكر، والمؤنث والمحايد. وخاصية النوع من حيث أنه اسم أصلي مثل الأرض، أو اسم مشتق مثل الأرضي، وهو يقصد بالاسم الأصلي أصل الاسم دون أن يدخل عليه أية تغييرات، والمشتق هو كل اسم يلحقه تغييرات، أو علامة من علامات النسب، أو التصغير، أو المقارنة، أو التفضيل، أو الاشتقاق. وخاصية الشكل من حيث إنه اسم بسيط أو مركب. وخاصية العدد من حيث هو الإفراد والجمع والتثنية. وخاصية الحالة من حيث حالات الفاعل والمفعول والنداء والإضافة والمفعول غير المباشر (القابل). ويعرض المؤلف أنواع الاسم مثل اسم العلم، واسم الذات، والاسم المترادف، والاسم المزدوج، والاسم المتجانس، واسم الإشارة، واسم الاستفهام، واسم الجمع، واسم الفاعل، واسم العدد، وغيرها، ويعرف كل منها مع تقديم أمثلة لتوضيح مقصده (55).

  وبالمثل، يصرف الفعل حسب ” الصيغة “، مثل الصيغة الخبرية، والصيغة المصدرية، وصيغة الأمر، وصيغة الطلب، وصيغة التمني. وخاصية ” البناء للمعلوم أو المجهول”، وخاصية ” النوع”، من حيث إنه أصلي، أو مشتق، وخاصية ” الشكل “، من حيث إنه بسيط أو مركب، أو أكثر من مركب. وخاصية العدد، من حيث الإفراد والجمع والتثنية، وخاصية ” الشخص”، من حيث إنه يدل علي المتكلم أو المخاطب أو الغائب. وخاصية ” الزمن ” من حيث إنه مضارع أو ماضي أو مستقبل. ويحدد المؤلف أربع صيغ للفعل الماضي، وهي المتناقض، والتام (البعيد)، والتام (القريب)، والبسيط. وخاصية ” التصرف”. أما الأداة فتصرف حسب خصائص ” الجنس”، و” العدد “، و” الحالة” فقط، بينما تصرف الضمائر حسب خصائص ” “الجنس “، و ” العدد”، و ” الشخص”، و” النوع “، و” الحالة”، و “الشخص”، و “الصيغة”(56).

  وينتقل المؤلف إلى الحديث عن الحروف، فيذكر أنها ثمانية عشر حرفًا، ستة منها بسيطة أي تتكون من مقطع واحد، واثنا عشر حرفًا مركبًا؛ أي تتكون من مقطعين. وفيما يتعلق بالظروف، يذكر المؤلف أنها غير معربة، ولكنها تتبع الفعل، ومنها البسيط والمركب. ويهتم المؤلف بالمعاني المختلفة التي تدل عليها الظروف، فيعرض له ستة وعشرين معني، مثل دلالتها علي الزمان، والمكان، والكم، والعدد وما إلى ذلك، ويسوق أمثلة توضح هذه المعاني والفروق فيما بينها. ويقسم الروابط إلي سبعة أقسام، يؤدي كل منها وظيفة دلالية خاصة في الجملة، مثل أدوات الربط، والفصل، والسببية، والنتيجة، وأدوات التحسين، وغيرها. ويقدم أمثلة توضيحية لكل من هذه الأقسام (57).

  وقد قام “يوسف الأهوازي”، أستاذ مدرسة نصيبين ( المتوفي 580م )، بترجمة كتاب ” فن النحو ” لديونيسيوس ثراكس (58) إلى اللغة السريانية، ومن الواضح أن ترجمة الأهوازي لكتاب “ديونيسيوس” إلى اللغة السريانية كان الغرض منها أن يجعل النص فى متناول القراء السريان الذين لا تتوافر لديهم المعرفة الكافية بالخلفية الفكرية التي استند إليها “ديونيسيوس”، بالإضافة إلى الاستفادة من وضع قواعد للنحو السرياني، وهو الأمر الذي كان السريان فى ذلك العصر فى أمس الحاجة إليه (59).

 وأشارت الدكتورة “زاكية رشدي” إلي أن: “يوسف الأهوازي” أستاذ مدرسة نصيبين يعد صاحب أقدم مؤلف سرياني عُرف فى النحو” (60).

 وقد وُجدت نسخة من مؤلف “ديونيسيوس”، الذي ترجمه “الأهوازي” ملحقة بأحد كتب “سرجيوس الرأس عيني (ت:536م) “، الذي ألف “مقالا فلسفيا في أجزاء الكلام”. وهو ما يؤكد أيضًا تأثره بالمعطيات الفلسفية اليونانية، وبخاصة عن طريق مدرسة الإسكندرية التي تلقن “سرجيوس”، فيها العلم. كما أن أشهر علماء النحو السرياني: يعقوب الرهاوي (ت: 708م) اعتمد على أشهر النحاة اليونان: ثراكس وثيودوسيوس (61).

 وتذكر أكثر المصادر أن كتاب يعقوب الرهاوي ( المتوفي 708م ) صاحب كتاب “غراماطيقي”، هو أول مؤلف فى النحو السرياني، وقد استعمله السريان كثيرا في التدريس، وقد عده السريان أول كتاب فى النحو لديهم، إلا أنه قد ضاع، ولم يبق منه سوى شذرات، ورآه ” مار يعقوب ” واضع علم النحو السرياني وصاحب أول مؤلف نحوي  منظم (62).

 كانت اللغة السريانية حتى أواخر القرن السابع للميلاد تُكتب دون تشكيل، ثم استعمل السريان حروف العلة الثلاثة: الألف، والواو، والياء، كحركات لضبط اللفظ، ولكن هذه الطريقة كثيرًا ما تربك القارئ حيث لا يميز فيما إذا كانت الحروف قد استعملت في الكلمة، كحركة أم حرف. أما التنقيط فقد استعمل قبل القرن السابع كتشكيل للكلمات، ولـ “يعقوب الرهاوي” رسالة في ذلك يوضح فيها طريقة وضع النقط تحت الحرف، أو فوقه، ضبطًا للمعاني، وتمييزًا بين المرادفات وما إليها. ولعل السريان الغربيين هم الذين استنبطوا طريقة التنقيط لأنها لا تشتمل على الشدة المستعملة في لهجة السريان الشرقيين، ولا يزال السريان الغربيون يستعملون أحيانا طريقة التنقيط القديمة، وهي الطريقة الوحيدة في ضبط اللغة لدى السريان الشرقيين (63).

  وقد استنبط “يعقوب الرهاوي” علامات الحركات آخذا بعضها عن اليونانية التي كان يجيدها ؛ حيث إنه رأى أن جميع أصوات الصوائت السريانية كما ينطقها الرهاويون يمكن أن تمثلها حروف يونانية، وكطريقة للإشارة يمكن أن تكون أكثر وضوحًا للقارئ من مجموعة النقط الصغيرة، فأخذ من اليونانية حرف الألف وجعله للفتح، والهاء للكسر، والعين مع الواو للضم، والحاء للكسر المشبع، والعين وحدها للضم الممال إلى الفتح، وجعل صورة هذه الحروف اليونانية صغيرة. وكان أسلوبه في تشكيل الكلمات كتابة الحركات (الحروف الصوائت) مع الحروف الصوامت على السطر، ولم يكتب لهذه الطريقة الـبقاء طويلا، وتطورت بعدئذ فوضعت الصوائت، كعلامات صغيرة فوق الحروف، أو تحتها. كما أن السريان الغربيين لم يتركوا طريقة التنقيط، بل سارت الطريقتان جنبًا إلى جنب أجيالا عديدة، ثم فضلت الحركات لوضوحها وسهولتها، فاستعاض السريان بها عن التنقيط (64).

 وإذا كنا قد قلنا من قبل إن النحو السرياني قام معتمدًا على النحو اليوناني، فإن من المهم هنا أن نشير إلى أن هذا النحو اليوناني، قد استمد من تراثه المنطقي والفلسفي كثيرًا من الأسس الفكرية التي شكلت خلفية معالجاته لقضايا النحو واللغة. ولقد أكد ثراكس – في تقسيمه السداسي لوظائف النحو، كما يذكر “روبنز”على وظيفة استنباط النظام القياسي في اللغة، هذه الوظيفة أصبحت الوظيفة الأساسية للنحو” (65).

  في هذا السياق التاريخي إذن نستطيع أن ننظر إلى جهود نحاة العرب لنبرز أنه قد كانت الثقافة العربية في علاقة تفاعل مع الثقافة المنطقية اليونانية، والسريانية، منذ أمد بعيد قِبل هؤلاء النحاة، وبين أيديهم. والدليل على ذلك هو تشابه اللغتين السريانية والعربية واضح في بناء الجمل، وفي دلالة الألفاظ، وفي الضمائر، والأعداد، وغيرها، مثل تقسيم الكلمة إلي ثلاثة أقسام هي: الاسم، والفعل، والحرف، ومثل المركب المزجي الذي كان يطلق عليه السريان: Eskima، Merakabe، ووجود مصطلح التصغير الدال علي التقليل في النحو السرياني والنحو العربي بعد سيبويه، والتصرف مصطلح عند السريان يقصدون به تصريف الفعل مع الضمائر ويسمونه: Surafa بمعني فرع أو غصن. والعطف عندهم ويسمي عندهم eTufya، أي العطف، والفتح يسمي عند السريان Petaha أي الفتح، وكذلك مصطلحات اسم الفاعل، واسم المفعول، واسم المرة، واسم النوع، واسم الزمان، والمكان (66).

 وهذا التشابه الواضح بين اللغتين يجعلنا نقول: إن اللغة العربية، واللغة السريانية من فصيلة واحدة، إن لم تكن إحداهما هي الأصل والأخرى فرع منها، وقد وجدت صلات طيبة بين العرب والسريان قبل الإسلام وتوثقت هذه الصلات بعد الإسلام، فاتخذ منهم الأمراء العرب الكتاب في الدواوين والأطباء واستعانوا بهم فيما بعد في الترجمة والنقل حتي اشتهر منهم في العصر العباسي عدد غير قليل لعل من أبرزهم: حنين بن إسحق (67).

  وقد دعا النبي صلي الله عليه وسلم أصحابه إلى تعلم اللغات الأجنبية في أكثر من مناسبة، وقد حث زيد بن ثابت على تعلم السريانية ؛ فقد جاء في الأثر أن زيدا بن ثابت قال: قال لي النبي صلي الله عليه وسلم: إني أكتب إلي قوم فأخاف أن يزيدوا علي أو ينقصوا، فتعلم السريانية، فتعلمها في سبعة عشر يوما (68).

أ.د محمود محمد علي

 

الهوامش

([1]) د. إبراهيم أنيس: من أسرار اللغة،،  مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1978م، 132.

(2) نفس المرجع، ص 133.

(3) نفس المرجع، ص 134.

(4) د. عبد الرحمن بدوي: المنطق الصوري والرياضي، ص33.

(5) د. محمد المختار ولد أباه: تاريخ النحو العربي في المشرق والمغرب، دار الكتب العلمية، بيروت، 1996م، ص 577.

(6) أنظر د. تمام حسان: مناهج البحث في اللغة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1990م، ص 14.

(7) د. عبد الرحمن بدوي: نفس المرجع، ص 33.

 (8) ج. ف دبسون: خطباء اليونان، ترجمة أمين سلامة، القاهرة، 1963م، ص 17 ؛ وللمزيد من آراء بروتاجوراس اللغوية ينظر:

Robins:: A Short History Of Linguistics، Longman، London، 1979، PP. 25- 27.

(9) ماجدة محمد أنور: فن النحو بين اليونانية والسريانية ترجمة ودراسة لكتابي ديونيسيوس ثراكس ويوسف الأهوازي، مراجعة وتقديم د. أحمد عتمان، مطبوعات المجلس الأعلي للثقافة، عدد 197، القاهرة، 2001م، ص 10-11.

 (10) د. أحمد مختار عمر: البحث اللغوي عند العرب، عالم الكتب، القاهرة، ط6، 1988م، ص 61-62.

 (11) د.محمد محمد غالي: أئمة النحاة في التاريخ، دار الشروق، السعودية، 1976م، ص 76-78.

(12) نفس المرجع، ص 61-62.

(3[1]) ميلكا إفيتش: اتجاهات البحث اللساني، ترجمة عن الإنجليزية د. سعد عبد العزيز مصلوح – د. وفاء كامل فايد، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000م، ص 11.

(14) نفس المرجع، ص 11.

(15) نفس المرجع، ص 12.

(16) نفس المرجع، ص 12.

(17) نفس المرجع، ص 12.

(18) د. حسن عبد الحميد: مقدمة المنطق، الجزء الأول ( المنطق الصوري )، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، 1979 – 1980 م، ص 16.

(19) د. ماجدة محمد أنور: فن النحو بين اليونانية والسريانية، ص 23.

(20) د. عبد الرحمن بدوي: المرجع السابق، ص33-34.

(21) د. محي الدين محسب: الثقافة المنطقية في الفكر النحوي – نحاة القرن الرابع الهجري نموذجاً، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، السعودية، 2007م، ص 31 وما بعدها.

(22) نفس المرجع، ص 13.

(23) حول هذه النظرية والنظريات الأخرى، أنظر كتاب ديفيد كوبر:

  1. Cooper: Philosophy and the Nature of Language، D. Reidel Publishing Company، Dordrecht، Holland، 1981. PP. 14-15.

(24) الرواقية: إحدى الفلسفات التي شاعت في الفترة الهلينستية ـ الرومانية، أسسها زينون في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد. وتستمد اسمها من “الرواق”(وهو بهو ذو أعمدة) حيث كان يعلم في أثينا. ومن أهم أعلامها: كريسبوس وسنيكا وابيكتيتوس، ومن أهم الدراسات العربية عن هذه المدرسة كتاب الدكتور عثمان أمين: الفلسفة الرواقية.

(25) د. ماجدة محمد أنور: فن النحو بين اليونانية والسريانية، ص 24

(26) أحمد مختار عمر: نفس المرجع، ص 62-63.

(27) D. Cooper: op، cit.، p. 13

(28) د. محمود جاد الرب: علم اللغة نشأته وتطوره، مؤسسة المعارف للطباعة والنشر، القاهرة، 1985، ص 11.

(29) ينظر: د. ماجدة محمد أنور: مقدمة فن النحويين اليونانية والسريانية، ص 15-17.

 (30) كيس فرستيج: الفكر اللغوي بين اليونان والعرب، ص 10.

 (31) جورجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، ج3، مطبعة الهلال، القاهرة، 1902، ص 141 -142.

(32) الفقطي (جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف المتوفى: 646هـ): أخبار العلماء بأخيار الحكماء، تحقيق إبراهيم شمس الدين، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، 2005م، ص 155.

(33) إرنست رينان: ابن رشد والرشدية، نقله إلي العربية، عادل زعيتر، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1957م، ص 15-16.

(34) ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص 605.

(35) جورجي زيدان: نفس المرجع، ج3، ص 163-164.

(36) كيس فرستيج: الفكر اللغوي بين اليونان والعرب، ص 10-11.

(37) د. ماجدة محمد أنور: نفس المرجع، ص 15-16.

(38) جورج مونان: تاريخ علم اللغة منذ نشأتها حتى القرن العشرين، ترجمة بدر الدين القاسم، وزارة التعليم العالي، طبعة جامعة حلب، 1981م، ص83.

(39) د. ماجدة محمد أنور: نفس المرجع، ص 17-18؛ وينظر أيضاً:

Robins، R.H، A short history of linguistics، London 1967، P. 37

(40) ينحدر ديونيسيوس ثراكس من أسرة ثراكسية، ولد حوالي 160 ق.م.، وهو من تلاميذ العالم اللغوي أشهير أريستارخوس (166ق.م.)، واشتهر كمدرس للنحو والأدب، وأصبح بعد ذلك من أهم علمائها. ولم يقتصر اهتمامه علي اللغوية فحسب، بل امتد إلي الأدب والفنون ؛ حيث كتب تفسيرًا للإلياذة والأوديسة، كما ينسب إليه أنه صاحب أول كتاب في النحو اليوناني، وهو كتاب فن النحو: أنظر: د. ماجدة محمد أنور: نفس المرجع، ص22.

 (41) جورج مونان: تاريخ علم اللغة منذ نشأتها حتى القرن العشرين، ترجمة بدر الدين القاسم، وزارة التعليم العالي، طبعة جامعة حلب، 1981م، ص83.

(42) د. زاكية رشدي: السريانية نحوها وصرفها، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة 1978م، ص 29.

(43) ينظر مقدمة د. ماجدة محمد أنور لكتاب فن النحو بين اليونانية والسريانية، ص 18-19.

 (44) نفس المرجع، ص 24.

(45) نفس المرجع، ص 25.

(46) نفس المرجع، ص 37.

(47) دنيسيوس ثراكس: فن النحو بين اليونانية والسريانية، ص 48-49.

(48) نفس المصدر، ص 60 وما بعدها.

(49) نفس المصدر، ص 65.

(50) نفس المصدر، ص 65-66.

(51) نفس المصدر، ص 66.

(52) نفس المصدر، ص 68.

(53) نفس المصدر، ص 69.

(54) نفس المصدر، ص 72.

(55) نفس المصدر، ص 73.

(56) نفس المصدر، ص 74.

(57) نفس المصدر، ص 75.

 (58) نفس المرجع، ص 24.

(59) نفس المرجع، ص 143.

(60) د. زاكية محمد رشدي: السريانية نحوها وصرفها، ص 44.

(61) محي الدين محسب: المرجع السابق، ص 19.

(62) ألبير ايونا: أدب اللغة الآرامية، الطبعة الأول، بيروت 1970م، ص 373.

(63) نينا بيغولفيسكايا: ثقافة السريان في القرون الوسطى، ترجمة الدكتور خلف الجرّاد، دار الحصاد للنشر والتوزيع، سوريا، بدون تاريخ،، ص 161.

(64) نفس المرجع، ص 162.

(65) Robins: A Short History Of Linguistics. p. 31

(66) شعبان عوض محمد العبيدي: النحو العربي ومناهج التأليف والتحليل، منشورات جامعة قار يونس، ليبيا، 1989م، ص272.

(67) نفس المرجع، ص270.

(68) ابن حجر أحمد بن محمد العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، ج3، تحقيق علي

مقالات أخرى

إبراهيم مشارة : فؤاد زكريا والحركة الإسلامية

العنف الديني : مقاربة ثقافية

الإمام عبد الحميد بن باديس رائد النهضة العربية الإسلامية  في الجزائر – بقلم الدكتور علي القاسمي

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد