مقدمة :
بدأت حركة التحليل الفلسفي بظهور مقال ” جورج مور ” G.moore (1873-1958) – ” تفنيد المثالية ” (1903).. حيث ثار فيه ضد الهيجلية الجديدة.. إلا أنه قدم في نفس الوقت مثالاً عملياً لمنهج جديد لمعالجة المشكلات الفلسفية يعد بحق من أهم مصادر حركة التحليل ؛ ثم جاء ” برتراند رسل B.Russell (1872-1970) ” وتابع زميله “مور” في ثورته ضد الفلسفة المثالية مستخدما هذا المنهج التحليلي الجديد.. ومع اتفاقهما في كثير من الآراء، إلا أن كلاً منهما كان ينظر من منظور مختلف، فبينما كان “رسل ” متأثراً بالتعارض الذي رأه قائماً بين العلم المعاصر والميتافيزيقيا المثالية، كانت نقطة انطلاق ” مور ” التعارض بين نظرة الحس للعالم والنظرة المثالية له. وجاء ” لودفيج فتجنشتين ” L.Wittgenstein (1889-1951) ليكمل مسيرة تلك الثورة الفلسفية، ويجاهد فيها ببسالة حتي بدت غير قاصرة على المثالية وحدها، بل بدت ثورة ضد الميتافيزيقيا والفلسفة ذاتها، فقد كانت بالفعل ” فلسفة ” ضد الفلسفة.. فعليا حين كانت اسمية ” وليم أوكام ” نصلا يجتز به الزيادات الطائشة للفلسفة، كانت نظرية فتجنشتين عن اللغة فأساً يقطع بها شجرة الفلسفة ” (1).
لقد كانت فلسفة ” فتجنشتين” نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي المعاصر، ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي اصطنعه في بحث مشكلات الفلسفة وهو المنهج التحليلي الذي يتناول عبارات اللغة، التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، يتناولها بالتحليل المنطقي لكي يكشف عن أن هذه المشكلات ليست أصلا بمشكلات، وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.. الأمر الذي جعل فلسفة ” فتجنشتين” أشبه ما تكون بالثورة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهوم الفلسفة نفسها وكذا من مجالها ووظيفتها.. فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة، وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها أو الوجود من حيث هو موجود، أو العلة، أو المطلق، أو الجوهر، أو اللامتناهي، أو العدم.. إلى غير ذلك – إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معني منها وما لا معنى له أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي للغة.. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة نسقات فكرية أو ميتافيزيقية متكاملة، أصبحت الفلسفة لديه فلسفة للفلسفة، وأصبح عمل الفيلسوف عنده، هو أن يكون فيلسوفاً للفيلسوف بتحليله لما يقول (2).
وقد اختلفت الباحثون في تقييم فلسفة ” فتجنشتين ” اختلافاً شديدا، من النقيض إلى النقيض ؛ أتباعه وأنصاره من الوضعيين المناطقة يرفعونه إلى أ على عليين، ويجلونه في مكانة الرائد والزعيم، ويجلونه إجلالاً عظيماً، ويعتبرونه شخصاً نادر الأصالة والعبقرية، ومفكراً قلما يجود به الزمان ؛ وأعداؤه من المدارس الأخرى يرونه وبالاً على الفلسفة، وعدواً لنفسه، وهادماً للتفكير الميتافيزيقي في العصر الحديث، وحاملاً لراية ” اللافلسفة” في الفكر الغربي المعاصر، ومدمراً لفلسفته هو نفسه في نهاية المطاف. والشئ المؤكد الذي لا يختلف عليه هؤلاء وهؤلاء، هو أن ” لودفيج فتجنشتين” كان عقلية فلسفية من أرفع طراز، وشخصية أصيلة من أبعد ما تكون الأصالة، وأنه كان أولاً وأخيراً، شخصاً صادقاً مع نفسه كأنقى ما يكون الصدق، وإنساناً مخلصاً للحقيقة كأنقى ما يكون الإخلاص (3).
فهذا ” برتراند رسل ” يصفه ” بأنه كان على قدر كبير من التأثير لما له من صفاء عقل إلى درجة غير مألوفة على الإطلاق “ويقول ” إن بداية معرفتي ب فتجنشتين كانت أكثر مغامراتي العقلية إثارة طوال حياتي كلها “… أما ” جورج مور”، فيقول عنه ” إنني تعرفت على ” فتجنشتين ” في كمبردج إذ كان في السنة الأولى لالتحاقه بالجامعة يحضر محاضراتي في علم النفس، ولكني لم أعرفه جيداً إلا في السنتين التاليتين وحينما عرفته جيداً أدركت أنه كان اكثر ذكاءً مني في الفلسفة، ولا أقول أكثر ذكاء فقط، بل كان أكثر عمقاً كذلك “.. وكان ” مور “، فيما بعد يتردد على محاضرات ” فتجنشتين “، وقد قام مور بطبع بعضها في كتابه ” أوراق فلسفية”.. والجدير بالذكر أن ” فتجنشتين ” كان قد أملى على “جورج مور” بعضاً من محاضراته، فكان له الفضل في الحفاظ على تراث الفيلسوف النمسوي الكبير (4).
لم تكن مؤلفات ” فتجنشتين” كثيرة متعددة، حتي أنه لم ينشر في حياته إلا كتاياً واحد هو ” رسالة منطقية فلسفية Tractatus Logicus Philosphicus ” ومقالاً له بعنوان ” بعض ملاحظات على الصورة المنطقية “، وبقية ما نشر بعد ذلك كان كله بعد وفاته، وكل ما نشر من كتابات ” فتجنشتين” لم يكن كثيرا، بقدر ما كان عميقا يصعب فهمه وتفسيره حتي بالنسبة لتلاميذه الذين كانوا يستمعون إلى محاضراته ويناقشونه فيما يكتب أو يقول، الأمر الذي أدى إلى ظهور كثير من الكتب كشرح لما قاله أو كتبه ” فتجنشتين” في مؤلفاته القليلة (5).
ويؤكد بعض الباحثين أن عمل ” فتجنشتين ” الفلسفي ينقسم إلى فترتين، فترة مبكرة وأخري متأخرة.. وتجد الفترة المبكرة صياغة دقيقة لها في ” الرسالة المنطقية الفلسفية “.. ولكن فتجنشتين لم ينشر شيئا عن فترته المتأخرة، وإن كان لدينا صورة أولي عنها، وذلك في كتابيه ” الأزرق” و” البني” نسبة للون غلاف كل منهما، ثم صورة ثانية في كتابه: البحوث الفلسفي” Philosophical Investigations (6).
وهذا هو الرأي الذي يتفق عليه معظم الشراح والباحثين، حتي أن بعضهم لا يقتصر على تأكيد الفروق الأساسية بين المرحلتين، وإنما يذهب إلى حد الكلام عن فلسفة ” أولي ” وفلسفة ” ثانية “، مثل الاستاذ فولفجانج اشتيجمولر في كتابه عن التيارات الأساسية في فلسفة العصر الحاضر.. غير أن فيهم من يكتفي ببيان الأفكار التي عدل عنها في فلسفته المتأخرة، والتعديلات التي أدخلها على آرائه ومواقفه التي تبناها في الرسالة نتيجة للتوسع في منهج التحليل، واختلاف تطبيقه، وتغير مفهومه عن اللغة، مثل “ألفريد آير في كتابه عن “فلسفة القرن العشرين”.. وفيهم كذلك من يحاول أن يثبت أن فلسفة ” فتجنشتين ” ظلت في جوهرها وغايتها واحدة لم تتغير، وأن الهدف منها – على الرغم من التوسع والتنويع في استخدام منهج التحليل اللغوي والمنطقي – هو نفي الفلسفة نفسها ودفعها إلى النهاية وإجبارها على ” الانتحار” وتقديم الأدلة والمسوغات لبيان أن عباراتها إن لم تكن لغوا هاماً ( كما قال في الرسالة) فهي في أفضل الأحوال تحاول أن تقول ما لا يمكن أن يقال، وإنما يظهر نفسه أو يتجلى بنفسه ( كما قال في البحوث الفلسفية).. . وكأن الهدف من ” فاعلية ” الفلسفة هو في النهاية تأكيد أن قضايا الفلسفة لا معني لها، ومن أراد أن يبحث عن المعنى فليذهب إلى العلوم الطبيعية أو فليرجع إلى لغة الحياة اليومية ” الجارية” التي هي صورة من صور الحياة (7).
وهنا يجيئ دورنا في هذا البحث لنؤكد أن دراسة فكر ” فتجنشتين ” في المرحلة الأولى يبدو وكانه مقطوع الجذور عن تطوره في المرحلة الثانية ؛ بمعنى أن فكر ” فتجنشتين ” المتأخر هو سلب أو نفي لفكرة فتجنشتين المبكر. وبالتالي فإن هناك قطائع ابستمولوجية في فلسفة ” فتجنشتين “، وهذه القطائع تنبثق من منطلق أن ” تاريخ العلم يتخلله الكثير من القفزات والوثبات والتحولات الفجائية والجذرية وأن التقدم في تاريخ العلم لا يشبه ابدأ درجات السلم التي يصعد عليها العلماء درجة بعد درجة للوصول إلى الغاية المنشودة وهي التقدم، وإنما التقدم كما يشهد عليه تاريخ العلم لا يسير وفقاً لخطي متصلة مستمرة، وإنما يحدث من خلال قطائع وانفصالات” (8). وهذه القطائع نحاول هنا في هذه الدراسة إلقاء الضوء عليها، وتحليل عناصرها الأساسية في ضوء أهمية دراسة الابستمولوجيا في الفكر الفلسفي المعاصر..
لذلك فقد إرتأينا اختيار نموذج فلسفي يتمثل في فكر ” فتجنشتين ” نحاول من خلاله أن نلقي الضوء على تجليات القطيعة الابستمولوجية في فكره ؛ بمعني أننا لم نختار هذا الفيلسوف لنقدم عرضاً عاماً لفلسفته، وإنما اخترناه لنكشف عما ينطوي عليه فكرة من مضامين فلسفية تبدو للوهلة الأولي في موقع التعارض مع التيار العام الذي ينتمي إليه.
وقد اعتمدنا في هذه المهمة على منهجين، هما المنهج التاريخي والمنهج النقدي.. وقد استخدمنا المنهج التاريخي بمعنيين: أولاً بمعني الرجوع للوقائع التاريخية التي يعتمد عليها ” فتجنشتين “، وثانيا بمعني تتبع تطور فكر ” فتجنشتين ” عبر مراحله الزمنية.. واستخدمنا كذلك المنهج النقدي بمعنيين: قصدنا بالمعني الأول فحص وتحليل النتائج التي انتهي إليها ” ” على أساس الأهداف التي حددها في فلسفته، وقصدنا بالمعني الثاني محاولة تقييم أفكاره ” في ضوء الانتقادات الفلسفية التي تعرضت لها، وفي ضوء إمكان تطوير هذه الأفكار وحدود هذا التطوير.
ويمكن أن إبراز تلك التحولات الفلسفية في فكر فتجنشتين في العناصر التالية:
- نقد فكرة الاتصال في فلسفة فتجنشتين.
- الوسائل المنهجية والفلسفية في الرسالة المنطقية الفلسفية.
- القطائع المعرفية والبحوث الفلسفية.
أولا – نقد فكرة الاتصال في فلسفة فتجنشتين
يري بعض المفكرين أن فلسفة ” فتجنشتين ” من ” الرسالة ” حتى ” البحوث ” متصلة وأنه لا وجود لهذا التحول، فهناك ” اتصال” وليس ثمة انفصال “، فإن في المرحلتين خطاً واحداً لم يتراجع عنه وهو الكشف عن علاقة الفكر والعالم ؛ فهذا هو ” فان “ك.ت.فان” K.T.Fann في كتابه ” تصور ” فتجنشتين ” للفلسفة يؤكد على مقولة الاتصال في فكر ” فتجنشتين “، وهو يستشهد على ذلك بأن بالرغم من أن ” فتجنشتين “، قد انتقد في البحوث بعض الأفكار التي وردت في الرسالة، إلا أنه لم يعترف بأن ” كل” أفكار ” الرسالة” خاطئة، بالإضافة إلى أن ” فتجنشتين “، قد تصور- في الكتابين – أن المشكلات الفلسفية تنشأ عن سوء فهمنا وقصور إدراكنا ” لمنطق لغتنا، بالإضافة إلى أن تصور ” فتجنشتين ” للفلسفة ظل في الكتابين بلا تغيير، أعني أنه نظر إلى الفلسفة على أنها ليست ” علم” إنما فاعلية تستهدف التوضيح (9).
وهناك، بالإضافة إلى ذلك ” أنتوني كيني ” Anthony Kenny، الذي أكد في كتابه ” تراث فتجنشتين “1982 على أنه يزال على اقتناعه الأول باتصال فلسفة ” فتجنشتين ” وتصوره لطبيعة الفلسفة، وهو الراي الذي كان قد أكده في كتابه الأول ” فتجنشتين” 1973، وهو الكتاب الذي جعل عنوان الفصل الأخير فيه “اتصال فلسفة فتجنشتين”.. فهو يزعم أن العناصر الابتدائية للغة هي أسماء تعين موضوعات بسيطة، ومن ثم فإن القضايا الابتدائية تؤلف سلسلة لهذه الأسماء، وأن كل قضية من هذه القضايا مستقلة عن الأخرى، وهي الفكرة التي تعد، على نحو ما محور الرسالة، فكرة خاطئة.. ومع ذلك فإن كيني يزعم أن ” فتجنشتين ” قد أخذ في كتابه البحوث بنظرية تصويرية معدلة (10).
ويشدد أستاذنا الدكتور “عبد الغفار مكاوي” في المقدمة التي كتبها على مراجعته لترجمة الدكتور ” عزمي إسلام” لكتاب ” البحوث الفلسفية من الألمانية إلى العربية ” أن الحديث عن البحوث الفلسفية بمعزل عن الرسالة أمر مستحيل، لا سيما إذا عرفنا”” ويبرر د. عبد الغفار” ذلك بأن ” فتجنشتين نفسه قد اعترف في المقدمة بمعزل عن الرسالة أمر مستحيل، لا سيما إذا عرفنا أن ” فتجنشتين ” نفسه قد اعترف في القدمة التي وضعها للبحوث بأنه اكتشف ” أخطاء جسيمة ” في آرائه وأفكاره السابقة ” (11).
ومن ناحية أخري وجه “بيتر فيتش”- Peter Winch هو الآخر النقد إلى فكرة أن لفتجنشتين فلسفتين.. فقد وصفها في كتابه ” دراسات في فلسفة فتجنشتين” 1969 “بأنها فكرة خاطئة على نحو مدمر”.. وقد تصور وحدة فلسفة فتجنشتين في حقيقة أنه قد اهتم في العملين، ” الرسالة ” و” البحوث” بمشاكل تتعلق بطبيعة المنطق والعلاقة بين المنطق واللغة، بالإضافة إلى تطبيق منطق اللغة على الواقع (12).
وكتب فون رايت G.H.Von Wright في كتابه عن ” فتجنشتين” ” لا أشك في أن القضايا التي ستظل موضوعا للنقاش والجدل تلك القضية المتعلقة بمدي ” الاتصال” بين ” فتجنشتين المبكر” صاحب الرسالة و” فتجنشتين المتأخر ” صاحب البحوث.. إن كتابات ” فتجنشتين” فيما بين 1929-1932 تشهد بوجود جهد مستمر للخروج من العمل الأول في إتجاه العمل الثاني.. فإن “الكتاب الأزرق” 1933-1934 يعكس – على نحو أكبر – انطباع العمل الأول.. وأني لأجد صعوبة في سلك الكتاب الأزرق في تطور أفكار ” فتجنشتين”. أما الكتاب ” البني” فأمره مختلف حيث يمكن اعتباره عرضا ” مبدئيا” لبدايات “البحوث”.. ويضيف رايت قائلاً أن رسالة ” فتجنشتين” تنتمي إلى تقليد يمتد إلى ما وراء فريجه ورسل.. فهو تقليد يمتد على الأقل إلى ليبنتز.. أما ما يسمي بفلسفة ” فتجنشتين المتأخرة ” فهو فيما أرى شيئا مختلفا.. إن روح هذه الفلسفة تغاير كل ما أعرفه في الفكر الغربي.. بل أنها، و على نحو ما، تعارض أهداف ومناهج الفلسفة التقليدية.. . ولا تتعارض هذه الحقيقة مع فكرة أن كثيرا من أفكار ” فتجنشتين المتأخرة” لها بذور في الأعمال التي كان قد قرأها أو محادثات مع الآخرين (13).
وهذا الرأي يعضد فكرة التفسير السوسيولوجي لنشأة العلم، والقائم على فكرة أن التغير أو التحول التاريخي في العلم يتم بشكل تدريجي تراكمي، وعن طريق خطوات مستمرة لا تنقطع، كما أن هؤلاء القائلون بالاتصال في فلسفة ” فتجنشتين “، يرفضون أن يكون ثمة تغيرات فجائية أو ثورات أو قطائع ابستمولوجية في فلسفة ” فتجنشتين “.. كما أنهم ينكرون أي نقاط للتحول داخل العلم، لكونه لا يقبل أية قطائع أو انفصالات أو ثورات من شأنها أن تعرقل وتزعزع الأسس الابستمولوجية للأيديولوجيا المسيطرة. لقد فرض العلم الحديث سيطرته الأيديولوجية، بشكل منهجي منظم أو بعبارة أخري فرض سيطرته الايديولوجية بشكل علمي، لهذا فإن القطيعة الابستمولوجية هنا كما يري بعض الباحثين ” تعلن الحرب على الأوهام الأيديولوجية، وتحاول تعرية آليات المستوي الأيديولوجي.. لهذا تعني القطيعة المعرفية الانفصال في لحظة عن البداهات الأيديولوجية، وبهذا المعني لا تكون القطيعة حدثا تاريخياً منعزلاً وقائما بذاته، بل هي مجموع من اللحظات التي يلقي فيها العلم نظرة إلى ماضيه العلمي، ليكشف عن مواطن الزيف الأيديولوجي فيه.. ويكشف عن الخطأ التي اكتنفت المعرفة العلمية وغلفتها بأغلفة أيديولوجية.. إن تحرير الخطاب العلمي من نوايا وأغراض الباحثين، ومن الأيديولوجيات القابعة خلف تفكيرهم، يؤدي إلى إظهار هذا الخطاب على سجيته وفي تناثره التلقائي البحت، ذلك لأن مثل هذه النوايا والأغراض الأيديولوجية من شأنها أن تعرقل مسيرة الخطاب العلمي في تقدمه، وهذا لا يأتي إلا عبر القطيعة الابستمولوجية “(14).
ومفهوم القطيعة الابستمولوجية، والذي أحاول أطبقه هنا في هذا البحث هو، يمثل كما ذكر أحد الباحثين “.. . النقلة الكيفية من إطار معرفي إلى إطار آخر، وهي لا تعني قطيعة مطلقة، لأنه لا يمكن تصور أن خيط التطور ينقطع عند لحظة معينة من التاريخ أو يتجمد عندها، إنما القطيعة المعرفية في مفهومنا هي منعطف ثوري ننتقل فيه من مرحلة إلى مرحلة أخري متقدمة ينفتح فيها طريق، كان مسدودا أو كان يبدو مسدوداً لفترة طويلة.. لقد تحرك العلم والفلسفة واللاهوت، أي الأطر المعرفية كلها في العصر القديم حول النظام الفلكي الذي شيده بطليموس منذ ما يقارب الألفي سنة والذي يقول بأن الأرض هي مركز الكون، إلى أن جاء ” كوبرنيكوس” (1472-1543)، وقلب نظام الكون وقال بحركة الأرض حول الشمس فدخل بذلك علم الفلك منعطفاً جديداً. وكان العالم القديم يعتبر الأجرام السماوية كائنات روحانية تختلف عن عالم الأرض أي عالم الفساد، فجاء جاليليو (1546- 1642) وأكد مادية الأجرام السماوية وقضى على تصور تقسيم إلى العالم الروحاني العلوي والعالم السفلي المادي الفاسد.. بل وخرج بنظرية “كوبرنيكوس” من حيز الرياضيات إلى حيز الوجود الطبيعي وأثبتها تجريبيا من خلال تلسكوبه الفلكي الذي اكتشف به عددا من النجوم وهضاب القمر ووديانه، ولقد اهتم جاليليو بالبحث عن العلاقات التي تربط بين الظواهر وترك جانباً ( البحث عن المبادئ والأسباب الميتافيزيقية التي استحوذت على الفكر القديم وبذلك أحدث قطيعة بين الفكر الجديد والفكر القديم، قطيعة لم يعد من الممكن بعدها العودة إلى أساليب التفكير القديمة والتصورات الأرسطية والوسطوية التي كانت تشكل أساس العلم والمعرفة) (15).
كما أن القطيعة تعني الانتقال الجذري من تصور خاطئ أو قاصر إلى تصور يفتح الطريق أمام معرفة موضوعية وليس من الضروري أن يكون صحيحا مائة بالمائة.. فما فعله “سيجموند فرويد” مثلاً في علم النفس يعد نقلة كيفية بمعني القطيعة مع كل التصورات القديمة حول النفس الإنسانية.. وإن كان علم النفس ذاته لم يقف عند تحليلات فرويد ولن يتجمد حيالها. والانتقال من جاليليو إلى نيوتن.. والانتفال من “نيوتن” إلى “أينشتاين”.. لم يكن انتقالا هادئاً ولا معبداً، بل كان انتقالاً كيفياً أو قطيعة معرفية جعلت بريق القديم أقل لمعاناً مما يقدمه الجديد.. فالقطيعة الابستمولوجية التي أحدثها “أينشتين” و”ماكس بلانك” هي قطيعة بالنسبة إلى علم نيوتن وجاليليو (16).
إن القطيعة المعرفية التي نبغيها أيضاً في هذا البحث ليست هي القطيعة التي أخبرنا عنها بعض الباحثين بأنها ذلك “.. التغير الجذري الثوري، بحيث لا نجد أي ترابط أو انفصال بين القديم والجديد، (وأن ) ما قبل وما بعد، يشكلان عالمين من الأفكار كل منهما غريب عن الآخر ” (17)، بل تعني التعبير عن التحول الواعي والهادف في مجال العلم والمعرفة العلمية، لهذا لا تمارس القطيعة عملها من خارج العلم، بل تمارس عملها من داخل العلم ذاته.. فالعلم في تطوره ينشئ القطيعة من أجل المراجعة، والنقد المستمرين لأسس ومناهج ومفاهيم وتصورات العلم أو المعرفة العلمية السابقة.. فالقطيعة ليست نبتة غربية عن حقل العلم أو المعرفة العلمية، إنما هي نبتة أصيلة، تنبع أصالتها من داخل العلم ذاته، لأنها تدعم وتقوي العلم وتدفعه للأمام عن طريق النقد والمراجعة، وإعادة البناء المستمر له، لهذا فإننا نستخدم القطيعة هنا بالمعني الذي أخبرنا عنه أحد الباحثين بأنه “: ” إعادة بناء ماضي العلم والمعرفة العلمية لا من أجل مهاجمة ونقد العلم والمعرفة العلمية ذاته ؛ بل من أجل تأسيس حاضر العلم وتقدمه في المستقبل، وبالتالي تكون القطيعة هي التجاوز النشط المسئول للماضي والمبدع الخلاق للحاضر، فلا تعود اللحظة تكراراً كمياً للتاريخ بل هي عمل دؤوب، إنجاز الحداثة، بل الجدة ” (18).
وهذا المفهوم للقطيعة الابستمولوجية هو نفس ما نادي به أستاذنا الدكتور ” حسن عبد الحميد بأنها ” لا تعني هنا الحد الفاصل الزمني اللحظي، أو هذا التغير السريع الذي ينتج عنه امر جديد كل الجدة، بل عبارة عن مسار معقد ومتشابك الأطراف، تنتج عنه مرحلة جديدة ومتميزة في تاريخ العلم (19).
والقطيعة الابستمولوجية تكمن ” كما أكد بعض الباحثين”، ” في هذا الطابع الجدلي الذي يطبع تاريخ العلم فلا يمكن أن نتخيل وفقاً لهذا التعريف تاريخاً للعلم تنقطع فيه الصلة بين ماضيه وحاضره، وبالتالي لا تفهم القطيعة إلا على أرضية من الاستمرارية والاتصال.. علاوة على أنه لا يوجد تقدم قائم على الانقطاع الكلي عن كل ما سبقه، فليس ثمة قطائع نهائية جذرية بين حاضر العلم، والذي يمثل أ على مرحلة يصل إليها التقدم في العلم، وبين ماضي العلم، بل توجد قطائع بمعان معينة بين فيزياء جاليليو وفيزياء نيوتن أو بين نظرية النسبية لأينشتين والميكانيكا النيوتونية.. إنها قطائع تصويبية تحاول حل المشكلات التي عجزت النظرية السابق عن حلها.. إن وجود حصيلة من الإخفاقات المعرفية النظرية في مجال ما من مجالات العلوم ووجود سلسلة من العوائق المعرفية التي تؤدي بدورها إلى هذه الإخفاقات والعوائق يأذن بوجود قطيعة معرفية التي تعني هنا في هذا السياق، التحول الابستمولوجي في هذا المجال أو ذاك من مجالات العلوم الطبيعية.. هذا التحول لا يتم بطريقة جذرية ؛ بمعني أن يستوعب هذا التحول تدريجياً، الإسهامات المعرفية والاكتشافات العلمية والنظريات السابقة، وأن يسقط من حسابه تدريجياً أيضاً، تلك العوائق والإخفاقات التي أعاقت نمو وتقدم وتطور العلم” (20).
ريما أن المفهوم للقطيعة قد لا يرضي عنه البعض (وبالأخص الرديكاليين) ؛ لكونه كما يري بعض الباحثين ” يخفي وراءه فكراً تقليدياً، حيث يشير هذا التعريف إلى وجود عنصر الاتصال بين النظريات العلمية السابقة واللاحقة، حيث يمثل هذا الاتصال أحد الصفات التي تميز التقدم في العلم بمعناه التراكمي، وإن كان الاتصال هنا يفهم بمعناه الجدلي ؛ بمعني أن النظريات العلمية المتعاقبة ( أو القضايا والإشكاليات الفلسفية ) لا تسير في خط متصل متراكم ؛ بحيث أن كل نظرية تقضي حتما إلى التي تليها، ومن ثم لا يوجد ثمة قطيعة أو ثورة أو تجاوز، وإنما عنصر الاتصال هنا بين النظرية العلمية المتقدمة وبين النظرية السابقة عليها، يتخذ في أن النظرية العلمية المتقدمة لا تلغي النظرية السابقة، بل تحتويها وتبرز عناصر النجاح التي حققتها النظرية السابقة (21).
ولذلك فإنني هنا أناشد بأهمية هذا التصور للقطيعة المعرفية ومحاولة تطبيقه ليس فقط في العلم ولكن أيضاً في الفلسفة، ولذلك فإن توجهي في هذا البحث هو نفس توجه لوي ألتوسير Althusser (1918-1990)، حين استعان بمفهوم القطيعة المعرفية من أجل تناول الماركسية تناولا علمية دقيقا.. فقد كانت مهمته كما أكد بعض الباحثين ” تأسيس تصور للعلم يكون له دعامة قوية، ولإنجاز هذه المهمة تناول إشكالية ” التعيين” Demarcation فلم يؤكد ألتوسير على الشروط الكافية أو الضرورية للعلم، ولم تكن نيته متجهة نحو التمييز بين العلم واللاعلم، بل كان اهتمامه بالتحولات العميقة داخل العلم ذاته.. ولهذا شرع ألتوسير يقرأ كتاب ” رأس المال “، قراءة ابستمولوجية بعد أن استعار مقولة القطيعة المعرفية من ” جاستون باشلار “، ليشير إلى أن ماركس قد أحدث قطائع معرفية على طول حياته الفكرية، فقد أحدث ماركس قطيعة مع أفكاره السابقة وتبني كل من فلسفة كانط وفشتة وذلك في عام 1840 إلى 1842، وكان في هذه الفترة يؤمن بالحرية كجوهر للإنسان ولكن سرعان ما هجر هاتين الفلسفتين، وأحدث قطيعة معهما ليتجه في فترة 1845 إلى فيورباخ والنزعة الإنسانية. وبحلول عام 1845، أحدث قطيعة ثالثة مع الاتجاه الإنساني الفيورباخي لصالح الاتجاه الهيجلي الايديولوجي ثم أخيراً أحدث قطيعة مع الاتجاه الهيجلي ليؤسس الماركسية العلمية إلى العلم”(22).
ومن هذا المنطلق فإننا نعلن أننا نقوم في هذا البحث بتطبيق هذا المبدأ الابستمولوجي، الذي أعلنه ” الدكتور حسن عبد الحميد ” في رائعته عن ” التفسير الابستمولوجي لنشأة العلم لحديث “، والذي يقول ” إن المقال في المنهج لا ينفصل عن المقال في العلم في أية مرحلة من مراحل تطور العلم “، ومعني هذا المبدأ ببساطة، أن الحديث عن المنهج في أي علم من العلوم بمعزل عن المسار الذي يسلكه العلم في تطوره، هو ضرب من التبسيط المخل ” بالتجربة العلمية”، والتزييف المتعمد للروح التي ينبغي ان تقود العلم وتوجهه.. فالمراحل الأساسية التي يمر بها العلم ترتبط ارتباطا عضوياً بمراحل تطورية تناظرها في المنهج أو المناهج المستخدمة في العلم نفسه.. ويترتب على هذا المبدأ نفسه أننا لا نستطيع أن نحدد – كما يحلو لبعض العلماء وفلاسفة العلم – منهجا بعينه لعلم بعينه، حتي ولو كان ذلك في مرحلة بعينها من مراحل تطور العلم، اللهم إلا إذا كنا بصدد التاريخ للعلم الذي نتحدث عنه.. والسبب في ذلك أن أهم عنصر يتدخل في تشكيل هيكل أو بنية العلم هو المنهج المستخدم في بناء العلم نفسه، ولكن هذا المنهج الذي يعمل على إضفاء بنية جديدة للعلم، هو بالضرورة غير المنهج الذي تعارف جمهرة العلماء على استخدامه.. ويترتب على ذلك أن فصل المقال في المنهج عن المقال في العلم في أية مرحلة تطور العلم، هو ضرب من قفل باب الاجتهاد في العلم ودعوة إلى تعطيل البحث العلمي، وباختصار فإن هذا يعني وضع العلم داخل “سجن” الهيكل أو البنية التي اكتسبها في المرحلة التي تم فيها عزل المنهج عن السياق التاريخي التطوري للعلم (23).
والخلاصة المعقولة التي ننتهي إليها مع أستاذنا الدكتور ” حسن عبد الحميد “: ” هي أنه أيا كان معني العلم وطبيعته، فإن فكرة وجود المنهج المستخدم فيه تعني التصحيح والتطوير المستمرين لقواعده.. ولم لا نقول مع الأستاذ نيوتن سميث بأن العالم ينجز من المكتشفات في ميدان المنهج كما يحقق من المكتشفات في ميدان العلم سواء بسواء. بل لم لا نقول مع جاستون باشلار بأن المكتشفات العلمية نفسها رهن بما يمر به العلم من عقبات ابستمولوجية، وأن العقبة الابستمولوجية هي في التحليل الأخير عبارة عن عقبة منهجية؟ ومعني هذا ببساطة أن انتقال العلم من مرحلة إلى مرحلة أخري أكثر تطورا وارتقاء يفترض أن العلم قد غير ليس فقط من نظريته ومفاهيمه، ولكن أيضا من مناهجه التي كانت مستخدمة في المرحلة الأخيرة.. إن ما نريد أن نؤكده.. هو أن ارتباط المنهج بموضوع العلم نفسه، ارتباطا عضويا لا انفصال فيه في أي مرحلة من مراحل تطور العلم.. وهذا الارتباط هو أيضا ارتباط جدلي ارتقائي ؛ بمعني أن هناك علاقة تأثير متبادلة بين النتائج التي يتم انجازها على مستوي موضوع العلم، وبين تقدم المناهج المستخدمة داخل ميدان هذا العلم نفسه، وان انتقال العلم من مرحلة إلى مرحلة أخري اكثر ارتقاء لا يلغي الوسائل المنهجية التي كانت مستخدمة في المرحلة السابقة بل تبقي هذه الوسائل تلعب دورها بطريقة أقل فعالية من الوسائل الجديدة التي يستخدمها العلم في مرحلته المتقدمة “(24).
ويمكن القول أن كتاب ” البحوث الفلسفية” ؛ يمثل ثورة داخل ميدان الفلسفة التحليلية في القرن العشرين، وهذه الثورة قد أنجزها فتجنشتين بمفرده، ونقل بها هذا الفرع من فروع المعرفة من مرحلة الوسائل المنهجية والعلمية، كما صاغها فتجنشتين في كتاب “رسالة منطقية فلسفية، إلى مرحلة ذات وسائل منهجية جديدة تختلف كل الاختلاف عما سبق، وبالتالي فإن القطيعة الابستمولوجية هنا هي قطيعة منهجية.
ومن ناحية أخري يمثل كتاب ” البحوث الفلسفية” مرحلة قطيعة ابستمولوجية -منهجية، ليس فقط مع كل صور الممارسات السابقة الفكر المنطقي والفلسفي في الرسالة المنطقية الفلسفية، بل إن هذا الكتاب يقطع الصلة بينه، وبين مؤلفات فتجنشتين المنطقية والفلسفية الأخرى.
والمتفحص لكتاب ” البحوث الفلسفية” يجده مختلفاً تمام الاختلاف عن كتاب ” الرسالة المنطقية الفلسفية ” ؛ أي بدون أن يلغيه أو ينفيه، بل يتعداه ويتجاوزه.. وفي الصفحات القادمة سوف نوضيح ذلك بشئ من التفضيل وذلك على التالي: –
ثانيا ً: الوسائل المنهجية والفلسفية في الرسالة المنطقية الفلسفية:-
يعد كتاب ” رسالة منطقية فلسفية ” كما يشهد معظم الباحثين تعبيراً صادقاً عن فلسفة ” فتجنشتين” في المرحلة الأولى من تفكيره الفلسفي، ولذا فهي تمثل أفكاره الفلسفية الأولى التي اعتقد ” فتجنشتين” في وقت كتابته ” للرسالة” أنه قد توصل بها إلى حل جميع مشكلات الفلسفة، فكان يقول في مقدمة الرسالة: ” أن الأفكار التي سيقت هنا، يستحيل الشك في صدقها أو هي أفكار مقطوع بصدقها، ولذا فإنني أعتقد أن ما هو أساسي في مشكلات الفلسفة قد تم حله نهائيا ” (25).
وكان كتاب ” الرسالة” يمثل تعبيراً عن النتائج التي انتهي إليها بعد تفكير وبحث فلسفي استغرق حوالي الأربع سنوات أو يزيد، إذ أننا نستطيع من مقارنة الرسالة التي ظهرت عام 1961 باللغة الألمانية – ( وكان فتجنشتين قد انتهي من كتابتها مخطوطة في أغسطس من عام 1918 بمذكراته التي دونها بين عامي 1914، 1916- أن نتبين وجه الشبه الكبير بين أفكاره في كل منهما، وخاصة بالنسبة لما هو متعلق منها بالمنطق، ولهذا يمكننا أن نقول أن رسالة فتجنشتين كانت بمثابة الصياغة الأخيرة لأفكاره الفلسفية طوال هذه المدة بصفة عامة، بل وكذلك في الفترة السابقة على عام 1914، ويتضح ذلك من مذكراته في المنطق التي كتبها في سبتمبر من عام 1913، وكذا من الخطابات التي كان يرسلها فتجنشتين إلى رسل في 1912. وقد كتب فتجنشتين أغلب رسالته المنطقية الفلسفية أثناء اشتراكه في الحرب العالمية الأولي.. . فقد صاغ فتجنشتين أفكاره الرئيسية حول هذه الموضوعات قبل عام 1914، ثم استكمل بقية أجزاء الرسالة أثناء اشتراكه في الحرب – وهو لم يستكملها كما ظن البعض أثناء وجوده بالأسر، بل أنه كان قد انتهي من كتابتها قبل وقوعه أسيراً، إذ أنه ” حينما وقع في الأسر، كانت معه في حقيبته التي كان يحمل أمتعته مخطوط رسالته المنطقية الفلسفية فهو كان قد انتهي من الرسالة حينما حصل على تصريح من الجيش بإجازة يقضيها في فيينا – في أغسطس من عام 1918- في حين أنه أسر في نوفمبر 1918، وظل أسيراً حتى أغسطس 1919. وأثناء وجوده في الأسر استطاع أن يتصل برسل ويرسل إليه المخطوط – عن طريق كينز Keynes زميله في الدراسة في كمبردج – ” وكما قرأ رسل مخطوط الرسالة، كان له الفضل في نشرها ” ففي عام 1919، التقى فتجنشتين بعد خرجه من الأسر بـ”راسل” في هولندا لمناقشة المخطوط ” ثم كتب له مقدمة طويلة نشرت بعد ذلك مع الترجمة الإنجليزية للرسالة.. وقد نشرت الرسالة لأول مرة باللغة الألمانية عام 1921 (26).
وفي هذا الكتاب وجدنا فتجنشتين نفسه – في أول عهده – محاطاً بمشكلة أساسية شغلت الفلاسفة من حوله، كما شغلت علماء الرياضة، هي مشكلة العلاقة بين العلميين الصوريين اللذين هما المنطق والرياضة: ترى هل تكون الرياضة في صوريتها امتدادا للمنطق ومبادئه؟ أو أن المنطق والرياضة بناءان مستقلان؟ وما إن بدأ فتجنشتين يدلي بدلوه في الدلاء، حتي خطا الخطوة التي لم يجد لنفسه عنها محيصاً، وهي أن ينتقل بمركز الاهتمام من المنطق إلى اللغة، ثم شدته اللغة إلى طبيعة الحياة، ثم نظر إلى هذين الطرفين: اللغة والعالم، ليري ماذا تكون العلاقة بينهما.. على أن هذه المراحل الثلاثة: من المنطق إلى اللغة إلى تركيب العالم، قد جاءت في هذا الكتاب معكوسة، إذ يبدأ بالنظر في تركيب العالم، لينتقل منه إلى جوهر اللغة ثم إلى طبيعة المنطق (27).
وقد استهدف فتجنشتين من الرسالة تحقيق ثلاثة أهداف منطقية أساسية هي: –
1- تقديم حلول محددة ” للمشاكل الفلسفية الأساسية والتقليدية.
2- تعيين ” حدود الحديث الواقعي ” على أساس أن كل شئ مما يمكن التعبير عنه في عبارة واقعية، إنما يمكن أن يجد له مكانا داخل هذه الحدود.
3- بحث أسس المنطق بهدف تفسير المقصود بالضرورة المنطقية.
ولكن هل يوجد بين هذه الأهداف الثلاثة علاقة؟
يري فتجنشتين أن تعيين حدود اللغة يعني حصر القضايا الواقعية التي يمكنها أن تستوعب كل من القضايا الواقعية في العلم، والقضايا الواقعية في الحياة اليومية، وتقع كل الأشياء التي يمكن أن تقال في قضايا داخل هذه الحدود، بينما تقع خارجها كل ما لا يكون بإمكاننا التعبير عنه في قضايا (28).
وأول ضوء يلقيه فتجنشتين في كتابه ” الرسالة ” على معني ” الفكرة ” أنها التركيبة اللغوية المعينة، وإذا صح هذا تحول السؤال الذي يسأل عن علاقة الفكر بالأشياء، إلى سؤال يسأل عن علاقة اللغة بالأشياء، وهو تحول خطير في الفكر الفلسفي، أباح لكثيرين من مؤرخي الفلسفة أن يعدوا فتجنشتين فاتحة لعصر فلسفي جديد، لأنه بمثابة من شدنا من طريق كنا نسير فيه منذ فجر الفلسفة، إلى طريق آخر، فبدل أن كنا نتناول الفكر تناولاً يعالجه كما لو كان كالأشباح، فنذهب في تحليله مذاهب شتي لا يعرف مذهب منها كيف يرد مذهبا، أصبحنا نعالج الفكر على أنه هذه التركيبات اللغوية التي نستطيع – ولو من الوجهة النظرية – أن ننتهي فيها إلى أساس نتفق عليه، من حيث طريقة استخدامها، وطرائق تركيبها، ووسائل تحويلها من عبارة إلى عبارة أخري تساويها، فإذا انتهينا من ذلك كله إلى شيء، كان هذا الذي انتهينا إليه دالاً على معني ” الفكر ” (29).
ولذلك نجد فتجنشتين يبدأ كتابه ” الرسالة “، بمبادئ الرمزية وبالعلاقات الضرورية بين الألفاظ والأشياء في أي لغة، وتطبق نتيجة هذا البحث على مختلف أقسام الفلسفة التقليدية، مبينة في كل حالة، كيف أن الفلسفة التقليدية والحلول التقليدية، إنما تنشأ عن الجهل بمبادئ الرمزية ومن سوء استخدام اللغة.. وكان أول الموضوعات التي عالجها ” فتجنشتين” في رسالته هو البنية المنطقية للقضايا وطبيعة الاستدلال المنطقي.. ثم انتقل بعد ذلك إلى نظرية المعرفة ومبادئ العلوم الطبيعية، والأخلاق وأخيراً إلى التصوف (30).
ولذلك نجد أن كتاب “الرسالة” يتكون من سبع قضايا رقمها فتجنشتين بالأعداد الصحيحة التالية 1، 2، 70000، ومن عبارات فرعية رقمها بأعداد عشرية هي بمثابة شروح وتعليقات على القضايا الأساسية، بحيث تكون العبارة 1، 1 تعليقاً على العبارة رقم 1، ثم عبارات فرعية أخري رقمها بأعداد مئوية (مثل 1، 11التي تكون تعليقاً على العبارة المرقمة برقم عشري وبالتالي على العبارة الأصلية رقم 1).. ولو نظرنا في العبارات السبع الأساسية لوجدناه يتكلم بالترتيب عن العالم وتحليله، الوحدات النهائية التي ينحل إليها العالم الخارجي، وهي الوقائع الذرية أو ” أنحاء الواقع أو حالاته ” في العبارة الثانية ( لا حظ أننا نقول الوقائع لا الأشياء، لأن الوقائع بناءات أو تركيبات منطقية مكونة من الأشياء.. فالشيء ثابت أما الواقعة الذرية أو التركيبة فمتغيرة ).. ثم يربط بين الفكر وبين الوقائع الذرية في العبارة التالية، وبين الفكر واللغة في العبارة الرابعة، وبالتالي بين اللغة والعالم بحيث يكون الفكر هو القضية ذات المعني.. ثم يحلل اللغة في العبارة الخامسة، منتهياً إلى أن جميع القضايا هي دالات صدق للوحدات الأولي التي تنحل إليها اللغة ( وهي القضايا الأولية).. وبعد ذلك يتكلم عن تعميم القضية وكيفية الوصول إلى صورة عامة لكل قضية ذات معني، أي كل قضية تكون دالة صدق لقضايا أولية كما في العبارة السادسة.. وأخيراً ينصحنا نصيحة ختامية في العبارة السابقة بأن نسكت عن الكلام إذا لم نستطع أن نقول كلاماً يأخذ شكل الصورة العامة لدالة الصدق الواردة في العبارة السادسة التي تقدم الصورة العامة للقضايا ذات المعني..
وإليك هذه القضايا السبع التي تعكس الوحدة الفكرية في الرسالة، والهيكل العام الذي ملأته شروحها وتفصيلاتها العسيرة المرهقة (31):
1- ” العالم هو جميع ما هنالك.
2-أن ما هو هنالك، أي الواقعة، هو وجود الوقائع الذرية.
3-الفكر هو الرسم المنطقي للوقائع.
4-الفكر هو القضية ذات المعني.
5-القضايا عبارة عن دالات صدق لقضايا أولية ( والقضية الأولية هي دالة صدق نفسها ).
6-الصورة العامة لدالة الصدق هي: ق، غ، ن (غ)، هذه هي الصورة العامة للقضية.
7- أن ما لا يستطيع الإنسان أن يتحدث عنه، ينبغي أن يصمت عنه “.
لا شك في أن هذا الهيكل ( الموجود في الرسالة) لا يقدم صورة وافية لمضمون الرسالة بأبعاده الكثيرة وأفكاره الثرية، ولكنه يبين على وجه الإجمال أن فتجنشتين قد اتخذ من التحليل للعالم واللغة منهجا وغاية – وهي ( علاج) الفلسفة من أمراضها المزمنة، وتوضيح أن معظم مشكلاتها التقليدية ليست مشكلات على الإطلاق.. لقد رد الفكر إلى لغة، ورد اللغة إلى تركيبات على صور معينة.. كما رد العالم الخارجي إلى وقائع، قوام كل واقعة منها أشياء بسيطة مترابطة بشبكة من علاقات.. ومعني هذا أن العالم ينحل ” وحدات أولية ” هي الوقائع الذرية (32).
وتتألف هذه الوقائع من موضوعات بسيطة تمثلها قضايا أولية تستقل منطقياً عن بعضها البعض لكي يكون للجملة دلالة ما يجب أن تعبر إما عن قضايا أولية صادقة أو كاذبة، في هذه الحالة تعد القضية المركبة دالة صدق للقضايا الأولية موضع الحديث.. هناك حالتان محددتان قد تختلف القضية مع سائر إمكانيات الصدق الأولية وهنا تكون قضية متناقضة أو تتفق معها جميعها فتكون قضية تحصيل حاصل، سائر قضايا المنطق الصادقة قضايا تحصيل حاصل بهذا المعني، وبالمثل تكون قضايا الرياضيات البحتة، وإن فتجنشتين يفضل تسميتها قضايا الهوية Identities، تخدم قضايا تحصيل الحاصل، وقضايا الهوية في أنها تسهل عملية الاستدلال الاستنباطي، وإن كانت هي ذاتها لا تخبرنا بأي شئ عن العالم، القضية الأصلية genuine تصور أمراً من أمور الواقع.. هذه الصور هي ذاتها وقائع تشترك مع ما تمثله في الصور المنطقية والتصورية ذاتها، تفشل القضية في تمثيل أي شيء ما لم تصور الجملة أي أمر ممكن من أمور الواقع، سواء كانت بسيطة أو مركبة، ولما لم تكن الأقوال الميتافيزيقية هي ذاتها قضايا أولية أو دالات صدق لقضايا أولية، فإنها لا تمثل أي شيء، إنها لغو فارغ، أو هي في أحسن حالاتها محاولات للتعبير عما لا يمكن التعبير عنه، ولكن فقط عما يمكن إظهاره للغير.. وينطبق هذا على علمي الأخلاق والجمال، كما ينطبق على أي محاولات لوصف شروط التمثيل، وهو ما يجعل قضايا الرسالة ذاتها قضايا لامعني لها، يشبه فتجنشتين هذه القضايا بسلم يجب على القارئ إلقاؤه بعد أن يصعد يندرج ضمن الأشياء التي سوف يدركها فتجنشتين أن الفلسفة ليست مذهبا ولكنها نشاط، نشاط يوضح قضايا العلوم الطبيعية ويبين أن الميتافيزيقيا لغو فارغ، ينهي فتجنشتين الكتاب بالعبارة الآتية ” يجب أن نسكت عما لا نستطيع الحديث عنه” (33).
كانت النتيجة المترتبة على هذا التحليل، الذي ارتبط منذ البداية بموقف حاسم مما يسمي بالمشكلات الفلسفية، أن يقتصر المنهج الصحيح في الفلسفة على ” ألا نقول شيئاً إلا ما يمكن قوله بوضوح ” – وهذا الشيء الوحيد الذي يمكن قوله بوضوح، فيكون صادقاً وله معني، هو قضايا العلم الطبيعي، أي أنه شيء لا علاقة له بالفلسفة ! ” وبذلك نبرهن دائماً للشخص الآخر الذي يريد أن يقول شيئاً ميتافيزيقياً على أنه لم يعط أي معني لعلامات ( أو الألفاظ) معينة في قضايا.. كما تصبح وظيفة الفلسفة وفاعليتها توضيح ما نعرفه بالفعل من قبل عن طريق آخر غير الفلسفة – لأن كل ما يقوله الفلاسفة من قضايا وما يثيرونه من أسئلة ومشكلات هي مما لا يقال، وإذا قيلت لم تكن صادقة ولا كاذبة، وإنما خالية من المعني ( حسب ما تقوله العبارة المشهورة في الرسالة، الفقرة 003، 4 ) ومن ثم استطاع ” فتجنشتين ” في الرسالة أن يقول إن مهمة الفلسفة تقع فوق العالم الطبيعي أو دونه، وأن القضايا الوحيدة التي لها معني هي قضايا العلوم الطبيعية، وأن عبارات الميتافيزيقيا وعبارات الأخلاق والجمال، بل وعبارات الرسالة المنطقية نفسها هي على أفضل الأحوال مما لا يمكن قوله وإنما يمكن أن يظهر أو يتجلى بنفسه (34).
وهنا نلاحظ مع بعض الباحثين أن ” فتجنشتين “يستخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية فلسفية.. فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع.. أو رد اللغة إلى عدة قضايا، أو رد المعني إلى طريقة استخدامنا للألفاظ – إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي ازدادت بعدما ما وُضع معظمها تحت مجهر التحليل، زال عنها كل غموض واتضح أنها مشكلات زائفة، أو أنها ليست بمشكلات أصلاً.. وفد عبر ” فتجنشتين ” عن هذا المعني تعبيراً دقيقاً بقوله: ” إن معظم القضايا والأسئلة التي كتبت عن أمور فلسفية، ليست كاذبة، بل خالية من المعني فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل.. وكل ما يسعنا هو أن نقرر أنها خالية من المعني، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا” ؛ وكان هذا هو المنهج التحليلي هو الغاية التي يهدف إليها فتجنشتين في الفلسفة دائما.. وفي هذا الصدد كان يقول ” إن نظرته إلى أعماله الفلسفية لا تعني بما إذا كانت النتائج التي توصل إليها صحيحة أو غير صحيحة، فإن كل ما يهم هو أن منهجا جديدا قد وحد (35).
ولا جدال في التأثير الكبير الذي مارسته رسالة ” فتجنشتين ” على فكر الوضعية المنطقية.. فقد اعترف “مورتس شليك” بأن الرسالة وضعت الفكر الفلسفي المعاصر في مفترق الطريق.. فهي – وكما يري – نقطة تحول حاسمة.. وليس هناك شك في أن هناك شك في هناك نقاط اتفاق بين الأفكار الأساسية والسائدة لدي “دائر فيينا”، ومواقف الرسالة.. فهناك مثلا فكرة أن القضايا الأصلية عبارة عن دوال قضايا للقضايا الأولية، وفكرة أن الحقائق المنطقية والرياضية تحصيلات حاصل وأنها – من ثم – لا تقول شيئاً.. وأن الفلسفة ليست جهازا من الحقائق، إنما فاعلية أو نشاط يستهدف توضيح الأفكار توضيحا منطقيا، وتعيين حدود المعني المشروع وتمييزه عن المعني غير المشروع (36).
ولكن هناك بين الرسالة والوضعية اختلافات، فالوضعية لم تأخذ – فيما يتعلق بالقضايا – بالنظرية التصويرية، وهي النظرية المركزية في الرسالة.. والفكرة الأساسية لدي الوضعية المنطقية هي أن كل القضايا الأصلية تقبل الرد إلى قضايا تسجل الإدراك المباشر أو تسجل المعطي المباشر في الخبرة.. ولا توجد هذه الفكرة في رسالة فتجنشتين (37).
ومن جهة أخري، تزخر الرسالة بالشذرات التي تؤكد على هذه النظرية التصويرية في اللغة (أنظر أمثلة من الرسالة ).إن فكرة ” فتجنشتين ” في أن اللغة مرآة العالم أو صورة له، أو أن اللغة تعكس العالم، ينبغي النظر إليها على أنها فكرة عن الإمكانيات.. فكل الاختيارات الممكنة التي بإمكان العالم المنطقي أن يختارها تنعكس بالفعل في لغة، وكل إمكانية يتم معادلتها بعبارة واقعية لها معني محدد.. فكما يقول ” فتجنشتين ” أن عالم يمكن أن يأخذ شكله فقط من خلال إطار منطقي.. واللغة التي هي أداة الفكر، تهدف إلى تقرير الوقائع، وهي تحقق هذا عن طريق تصوير هذه الوقائع أو عن طريق انعكاس هذه الوقائع في اللغة التي هي مرآة لهذه الوقائع.. فقد استهدف فتجنشتين من قوله أن اللغة تصور الوقائع أن يؤكد على أن اللغة لابد أن تكون شبيهة، من حيث البنية، بما تصوره.. فالقضية المثبتة هي صورة لواقعة ممكنة، بنفس الطريقة التي يمكن للخريطة أن تصور بلد ما، هذا على الرغم من أنه قد يتعذر في كثير من الأحيان تبين الجانب التصوري من اللغة، فالمنطق يكشف عن بناء اللغة، ومن ثم عن بناء الواقع، لأن البنائيين هما في الحقيقة بناء واحد أو هما مثل المرء وظله (38).
وقبل أن ينهي ” فتجنشتين ” كتاب الرسالة تناول مسألة وحدة الأنا بطريقة نجد فيها صدي لقراءته لشوبنهور.. يقول فتجنشتين ” ما يقصده اتجاه وحدة الأنا صحيح ولكن فقط لا يمكن التعبير عنه بالقول ولكن فقط بالكشف عن نفسه في الواقعة التي مفادها أن حدود اللغة ” اللغة ” التي أنا فقط من يمكن فهمها ” تعني حدود عالمي “، ثم قال بعد ذلك ” لا تنتمي الذات للعالم ولكنها حدود العالم ” مقارنا إياها في هذا الصدد بالعين التي هي ليست في ذاتها جزءا مكونا للميدان البصري، لتكون النتيجة أن اتجاه وحدة الأنا تنكمش إلى حد أن تصبح نقطة بلا امتداد، وهناك يبقي الواقع متضايفاً معها.. ويقول أخيراً ما يدرج الذات في الفلسفة هو الواقعة القائلة بأن ” العالم عالمي ” والذات الفلسفية ليست الكائن الحي ولا الجسم البشري أو النفس الإنسانية موضوع علم النفس، ولكنها الذات الميتافيزيقية حيث حدود العالم ليس جزءا منها (39).
إن ما تقوله الأنا وحدية Solipsism لا يمكن التعبير عنه بألفاظ اللغة.. والأنا وحدية ” هي ذلك الاعتقاد القائل بأنني وحدي موجود ” و على ذلك فكل ما أعرفه أو أدركه هو ما يوجد أيضا بالإضافة إلى وجودي، وقد عبر رسل عن ذلك المعني بقوله ” إن الأنا وحدية هي تلك النظرة القائلة بأنني لا أستطيع أن أعرف شيئا على أنه موجود باستثناء ما يقع في خبرتي أنا”.. و على ذلك ” فالفيلسوف الذي يؤمن بالأنا وحدية – مثلاً – يشعر بأن كلمة مثل – أنا – لا بد أن تكون ملازمة لكل وصف أو خبرة “. وفتجنشتين في رسالته المنطقية الفلسفية كان يؤمن بفكرة الأنا وحدية، لأنها كانت نتيجة مترتبة على فكرته عن القضية من حيث هي رسم يصور الواقع الخارجي.. . والتي كان يذهب فيها إلى أن صدق أو كذب القضية إنما يتوقف على مقارنتها بالواقع لمعرفة مدي تعبيرها.. ” فالوجود يقارن بالقضية “، ” والقضايا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة بكونها رسوما للوجود الخارجي “، و على ذلك فحدود الواقع الذي أدركه هي حدود اللغة التي أعبر بها عن هذا الواقع طالما كانت القضايا رسماً للوجود الخارجي.. . وكان هذا هو السبب في قوله ” إن معني أن العالم هو عالمي، يتبدي في الحقيقة القائلة بأن حدود اللغة ( اللغة التي أفهمها ) تعني حدود عالمي “. إلا أن ما تقوله الأنا وحدية، هو مما لا يمكن أن يقال إذا طبقنا عليه مبدأ فتجنشتين نفسه، لأن فيه تجاوزا لحدود اللغة، فحيث ” إن ما يمكن أن يتجلى بنفسه في التقابل الموجود بين العالم الذي أدركه من جهة – وبين اللغة التي أعبر بها عن هذا العالم من جهة أخرى – فهي بالتالي مما لا يمكن الحديث عنه.. وفضلا عن ذلك فطالما أنه ليس هناك إلا الوقائع التي أدركها في الوجود الخارجي، فإنني لا أستطيع أن أقول ” إن العالم هو عالمي “، على الرغم من أن ما تعنيه هذه القضية صحيح، إذ أن وجود العالم ككل، هو في مقابل اللغة التي أتكلمها ( من حيث هي مجموع القضايا التي تصور الوقائع الخارجية ) ككل.. الأمر الذي أدى به إلى القول ” بأن الجانب الملغز، ليس في كيف يكون العالم، بل في أن العالم موجود مطلق وجود.. ومن ثم ينتهي فتجنشتين إلى القول عن الأنا وحدية ” بأن ما تعنيه، صحيح تماما، إلا أنه مما لا يمكن قوله، إنما يتبدى لنا فقط “.. وبناء عليه، فكل ما نقوله عن العالم ككل، أو عن أن العالم هو عالمي – هو مما لا يمكن قوله، فإذا ما قلنا شيئا من ذلك، فإننا – بالنسبة لفتجنشتين – إنما نتكلم كلاما لا معنى له، لأنه يتجاوز حدود ما يمكن قوله، أي حدود اللغة.. ومن الطبيعي أن هذا الحكم ينطبق على كلام فتجنشتين نفسه (40).
ثالثاً: القطائع المعرفية والبحوث الفلسفية.
أخذ فتجنشتين بعد فترة من ظهور الرسالة في مراجعة الكثير من أفكاره وبدأ تحولا كبيرا في المنهج وأصبح معروفا في الأوساط الفلسفية، أن لفتجنشتين فلسفتين، يشار إلى أولهما بـ” فتجنشتين المبكر” وإلي ” فتجنشتين المتأخر” (41) ؛ وقد قيل في وصف هذا التحول بأنه إذا كان ” فتجنشتين” قد بدأ رسلياً، إلا أنه قد انتهي ” موريا””.. لقد بدأ ” فتجنشتين ” ” رسليا”، وانتهي ” موريا” فقد ساير رسل في ذريته المنطقية وتابعه في اعتقاده بأن المنطق هو أساس الفلسفة، فالفلسفة تتألف من المنطق والميتافيزيقيا، بحيث يكون المنطق أساسا لها.. ولكنه تابع مور – فيما بعد – في تأكيده على أهمية تحليل اللغة الجارية (42) ؛ وبعبارة أخري نستطيع أن نقول مع ” د. محمد محمد مدين”، أن فكر فتجنشتين المتأخر هو سلب أو نفي لفكرة المبكر ” (43).
وقف فتجنشتين – متابعاً مور ورسل – في صف الثورة ضد المثالية إلا أنه قد بالغ في هذه الثورة، وجاهد فيها بعنف، حتي بدت هذه الثورة لا ضد المثالية فحسب، بل ضد كل أنواع التفكير الميتافيزيقي، بل وضد الفلسفة ذاتها.. وقد أخذ الباحثين فلسفة فتجنشتين بأنها ” كانت فلسفة ضد الفلسفة.. . ف على حين كانت أسمية ” وليم أوكام” نصلاً يجتز به الزيادات الطائشة للفلسفة، كانت نظرية فتجنشتين عن اللغة فأساً يقطع بها شجرة الفلسفة “.. ومن الملاحظ أن مساهمة فتجنشتين في الفلسفة تشكل تذبذباً بين آراء ” رسل ” وآراء ” مور ” فهو يبدأ في مرحلته المتقدمة على أساس من آراء رسل، وينتهي في آرائه المتأخرة مناصراً لمور.. فنظريته عن اللغة كما وصفها في كتابه المعروف باسم “رسالة منطقية فلسفية” (1922) تقوم على أساس التحليل الميتافيزيقي الذي وضعه رسل.. أما في فلسفته المتأخرة كما بدت في ” الكتاب ألأزرق” (1958) أو ” الكتاب البني ” (1958) و ” بحوث فلسفية” ( 1959) فهي تبتعد عن نظريته الأولي كانت تستلزم نسقاً ميتافيزيقياً، فرفضها ورجع أساساً إلى موقف ” مور”.. وباختصار، فقد كان في الطور الأول ” رسلياً” مع حبكة لغوية.. أما في الطور الثاني فقد كان ” مور ” معبراً عنه في حدود لغوية. وبذلك نلاحظ أن فتجنشتين في ذريته المنطقية المعروضة في ” الرسالة” كان فيها متأثراً برسل، أو كان كلاهما متأثر بالآخر(44).
ويحدد بعض الباحثين المرحلة الأولي من مراحل تفكير ” فتجنشتين” بالفترة المنتهية بعام 1911.أما المرحلة الثانية من مراحل تفكير ” فتجنشتين” فهي تلك التي تبدأ من عام 1911 حتي عام 1930 (45) ؛ وفي هذه المرحلة لم ينشر أي أبحاث أو كتابات، وما نشر من اعماله كان بعد وفاته، ومنها الكتابين “الأزرق” و “البنى”، نسبة إلى للون غلاف كل منهما، و” الأزرق” أكثر أهمية من “البني ” لأنه يحتوي على ” التمهيد” لما وصفناه بالفلسفة الجديدة، وبجانب هذين الكتابين هناك كتابه الهام ” البحوث الفلسفية” الذي يعبر فيه ” فتجنشتين ” عن فلسفته الجديدة (46) ؛ وهو مكون من جزئين انهي فنجنشتين من أولهما عام 1945، أما الجزء الثاني فقد كتبه بين عامي 1947 و 1949.. وقد قامت بترجمته إلى اللغة الإنجليزية تلميذته أنسكوم Anscombe، وقامت بنشره هي وريز R.. Rhees في مؤسسة بلاكوبل عم 1953، ثم أعيد طبعه عام 1958، ثم ظهرت الطبعة الثالثة له عام 1936
وفي مقدمة كتاب ” البحوث الفلسفية ” اعترف فتجنشتين بأنه حينما أكمل “رسالته المنطقية الفلسفية “، كان مقتنعا بأن النتائج التي انتهى إليها كانت صادقة صدقاً يقينيا، وبأن المشكلات الكبرى في الفلسفة قد تم حلها أخيراً – على الأقل من حيث المبدأ – كما ذكر في مقدمة “رسالته” “… أن الأفكار التي سيقت هنا، يستحيل الشك في صدقها أو هي أفكار مقطوع بصدقها، ولذا فإنني أعتقد أن ما هو أساسي في مشكلات الفلسفة قد تم حله نهائيا”.. ولذا كان من الطبيعي أن يترك فتجنشتين الاشتغال بالفلسفة، طالما أنه قد توصل إلى حل مشكلاتها الكبرى “.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن فتجنشتين كان واثقاً تمام الثقة مما توصل إليه من نتائج في رسالته.. ثم حدث له حادث فكري كان ناتجاً عن مناقشاته مع الآخرين ومع نفسه أن بدأت ثقته تقل في مدي صحة ما توصل إليه من نتائج فلسفية سابقة.. ولذا قرر فتجنشتين العودة مرة أخري إلى الفلسفة، لكي يعيد النظر في موقفه الفلسفي ؛ وباختصار لكي يبدأ من جديد ” وهذا ما فعله فقد عاد مرة أخري إلى كمبردج عام 1919 لكي يستأنف عمله الفلسفي..
وأخيراً يعترف فتجنشتين بوجود أخطاء فيما توصل إليه في الرسالة فيقول: ” وقد أتيح لي قبل أربع سنوات أن أعيد قراءة كتابي الأول ( وهو الرسالة المنطقية الفلسفية) وأشرح أفكاره.. عندئذ خطر لي فجأة أن من الواجب على أن أنشر تلك الأفكار القديمة، بحيث يلقي الضوء الصحيح على هذه الأخيرة ويتيسر الاطلاع عليها من خلال تعارضها مع طريقتي القديمة في التفكير و على أساسها.. ذلك لأنني اضطررت للاعتراف بوجود أخطاء فادحة فيما كتبته في ذلك الكتاب الأول.. وقد حدث هذا منذ أن رجعت للاشتغال بالفلسفة قبل ستة عشر عاماً خلت.. وساعدني على تبيين هذه الأخطاء – إلى الحد الذي لا أستطيع أنا نفسي تقديره – ذلك النقد الذي وجهه ” فرانك رمزي ” لأفكاري، والذي ناقشته فيه طوال السنتين الأخيرتين من عمره خلال أحاديثي التي لا حصر لها معه.. وبجانب هذا النقد – الذي كان صائباً وملزم على الدوام – أشعر كذلك بدين أكبر لذلك النقد الذي لم يكف أحد أساتذة هذه الجامعة، وهو السيد ” ب.. سرافا “، عن توجيهه لأفكاري على مدي سنوات طويلة.. إن أكثر الأفكار اتساقاً في هذا الكتاب ( ويقصد كتاب البحوث الفلسفية) ليرجع الفضل فيها لهذا التنبيه المستمر (47).
وفي هذه المقدمة الطويلة يريد فتجنشتين أن يوضح أن هناك بعض المبررات التي جعلته يتراجع عن صحة ما كتبه من أفكار وقضايا فلسفية في الرسالة، ومن أهم تلك المبررات مناقشاته مع ” فرانك رامزي “، والتي قال عنها فنجنشتين في هذا الصدد: ” أن ما ساعدني على تبين هذه الأخطاء النقد الذي وجهه لأفكاري فرانك رامزي الذي كنت أتناقش معه مناقشات عديدة أثناء السنتين الأخيرتين من حياته “. ويقول فنجنشتين إن مناقشاته تأخذ الطابع البرجماتي وخاصة حول كتابات رامزي المتأخرة.. وكذا حول بعض الأفكار الواردة أيضا في ” الأبحاث الفلسفية” لفتجنشتين (48) ؛ وأيضا نقد سرافا Piero Sraffa – أحد الاقتصاديين الإيطاليين – وكان فنجنشتين قد التقي به في كمبردج، وقد عبر فنجنشتين عن ذلك بقوله إن مناقشاته مع سرافا كانت تجعله يشعر كأنه مثل الشجرة لم تكن لتورق من جديد إلا بناء على ما فيها من حيوية وخصوبة.. ويروي تورمان مالكوم كيف كان نقد سرافا للنظرية التصويرية للقضايا عند فنجنشتين ذا أثر كبير في تخليه عن هذه الفكرة فيما بعد، فيقول: ” كان فنجنشتين، وسرافا – المحاضر في الاقتصاد بجامعة كمبردج – يتناقشان كثيرا حول الأفكار الواردة في ” الرسالة “.. وفي ذات يوم كانا يركبان – فيما أظن – قطارا، وكان فنجنشتين ما زال مصرا على أن القضية وما تصفه – يجب أن يكون لهما نفس الصورة المنطقية.. ونفس الكثرة المنطقية فقام سرافا بعمل إشارة مألوفة عند أهالي نابولي تعني الاحتقار والازدراء – وذلك بحك أسفل ذقنه بظهر أطراف أصابع إحدى يديه.. ثم يسأل فنجنشتين ما هي الصورة المنطقية لذلك؟ وكان المثل الذي ذكره سرافا كافيا لكي يحدث في فنجنشتين شعورا بعدم جدوي إصراره على أن القضية يجب أن يكون لها نفس الصورة التي يوجد عليها الشيء الذي تصفه هذه القضية.. وهذا ما جعله، يتخلى فيما بعد عن فكرته القائلة بأن القضية يجب أن تكون رسما للواقع الذي تصفه (50).
وأهم الأفكار التي تناولها فتجنشتين في فلسفته الأولي، ثم تخلي عنها فيما بعد على أنها أفكار خاطئة هي:
1-إن العالم ينحل إلى وقائع لا أشياء.
2- إن الوقائع الذرية تتكون من أشياء بسيطة بساطة كاملة.
3- إن اللغة تنحل إلى قضايا، والقضايا تنحل إلى قضايا أولية تتكون من أسماء، كل منها يشير إلى شيء من الأشياء، فيكون معني الاسم هو الشيء الذي يسميه.
4-إن القضايا ليس لها إلا تحليل واحد كامل، وذلك بردها إلى القضايا الأولية.
النظرية التصويرية للغة – من حيث إن القضايا ذات المعني تكون رسما للوقائع الموجودة 5-في الواقع الخارجي.
6- فكرة الأنا وحدية.
7- فكرته عن التصوف.
ومما هو جدير بالذكر أن كل هذه الأفكار، كانت نتائج طبيعية لفكرته عن الذرية المنطقية التي كانت بمثابة الأساس الذي شيد عليه بناءه الفلسفي المتمثل في الرسالة، أو كانت بمثابة المبرر الذي جعله ينتهي إلى مثل هذه النتائج (51).
ويمكن أن نجمل مظاهر القطائع الابستمولوجية في كتاب ” البحوث الفلسفية ” على النحو التالي: –
- تخلي فتجنشتين عن فكرته التي أفتتح بها ” رسالته” من أن العالم ينحل إلى وقائع ذرية تتكون من أشياء أو من بسائط منطقية.. إذ أن السبب الأساسي الذي دعا ” فتجنشتين” إلى القول بتحليل العالم إلى وقائع، كان هو ضرورة وجود وحدات أولية ينحل إليها العالم، لكي تقابل الوحدات الأولية التي تنحل إليها اللغة، بحيث يتوقف صدق أو كذب الوحدات الأولية للغة ( وهي القضايا الأولية ) على وجود أو عدم وجود هذه الوحدات الأولية التي ينحل إليها العالم (أي الوقائع الذرية ).. و على ذلك كان تحليل ” فتجنشتين” على النحو تبريرا لتحليله للغة إلى مجموعة من القضايا الأولية.. ولما غير ” فتجنشتين” من وجهة نظره بتحليل اللغة في كتابه “الأبحاث الفلسفية”، تخلى بالتالي عن فكرته السابقة في تحليل العالم، فلم تعد اللغة تنحل إلى مجموعة من القضايا الأولية أو الذرية التي يتوقف صدقها أو كذبها على مدي مطابقتها للوقائع الذرية الموجودة، والتي تعتبر جميع القضايا الأخرى دالات صدق لها، بل أصبحت في نظره اللغة وسيلة للاتصال بين الناس الذين طوروها بحيث تخدم الأغراض المختلفة لنشاطات حياتهم المتعددة.. و على ذلك أصبح تحليل اللغة في نظره بمثابة الكشف عن التشكيلات اللغوية (أي ألعاب اللغة) المختلفة التي تستخدم فيها الألفاظ أو العبارات المختلفة وأصبح تحليل معني اللفظ، ليس هو البحث عما يشير إليه، بل هو الكشف عن الطريقة التي يستخدم بها في اللغة بالفعل. وهكذا نجده يتخلى عن فكرته الذرية المنطقية – من حيث تقسيم العالم إلى وقائع – لزوال المبرر الذي كان يبرر به اعتقاده في هذه الفكرة، وهو تحليل اللغة إلى قضايا ذرية (52).
- إذا كان فتجنشتين قد نبه في رسالته إلى ضرورة وجود لغة كاملة منطقيا واعتقد الوضعيون المناطقة – من جانبهم – أنه يشير بهذا إلى الحساب الرمزي الذي كان يستهدفون تحقيقه من أجل تحليل اللغة العلمية، فإن فتجنشتين في مرحلته المتأخرة قد رفض مثل هذا الحساب ولم يعترف بأهميته في حسم مشاكل الفلسفة، فقد ركز – بتأثير جورج مور – على تحليل اللغة الجارية.. وبعبارة أخري نستطيع أن نقول أن فتجنشتين قد استبعد اقتناعه الأول بأن منطق رسل يعد – على نحو ما – حجر الأساس لكل فكر إنساني، فقد أصبح ينظر إلى منطق رسل على أنه عرض لتركيب أنواع معينة من التفكير الرياضي المنظم (53).
- كما تخلي فتجنشتين عن فكرته عن وظيفة اللغة التي كانت في فلسفته الأولي تصويرا للواقع الخارجي، فأصبحت في فلسفته الجديدة بمثابة وسيلة للتفاهم مع الآخرين والتأثير فيهم.. وبمعني آخر بعد أن كانت وظيفتها فردية تتفق مع فكرة الأنا وحدية التي انتهي إليها، ومع فكرته عن الذرية المنطقية التي بدأ بها، أصبحت وظيفتها اجتماعية – وهو في هذا المعني يقول: “إنني لأقول ( بدون اللغة ما كنا نستطيع أن نتصل بعضنا ببعض فقط) بل إنني أقول أيضاً ( بدون اللغة لا يمكننا أن نؤثر في غيرنا من الناس ) على هذا النحو أو ذاك (54).
- أما فيما يتعلق بأفكاره الفلسفية المتأخرة، فيمكننا أن نقول بصفة عامة إن فتجنشتين لم يستطع أن يسد كل الثغرات التي نشأت عن اعتقاده لبعض أفكاره الأولى.. لأنه لا يتعرض في فلسفته المتأخرة لنفس المشكلات التي بحثها في فلسفته الأولي، فهو لا يبحث في كتابه ” أبحاث فلسفية” في تحليل العالم الخارجي وما إذا كان مكونا من وقائع أو من أشياء، ولا ما إذا كانت الأشياء بسيطة أو مركبة – بل يحيل مناقشاته لمثل هذه الأفكار إلى مناقشة لغوية تتناول طريقة استخدام الألفاظ الدالة على هذه الأشياء في اللغة.. مثل استخدامنا لما هو بسيط أو مركب – فهو يقول مثلا ” إننا نستخدم كلمة “مركب” ( وبالتالي كلمة “بسيط” ) بطرق عديدة ومختلفة “.. ( وهل اللون الموجود في أي مربع من مربعات رقعة الشطرنج بسيط أم أنه مكون من ألوان قوس قزح؟ ..) وفيما يتعلق بالسؤال التالي؟ تكون الإجابة الصحيحة عنه هي ” ( إن ذلك يتوقف عل ما نفهمه من كلمة ” مركب” ) ” و على ذلك فمعيار بساطة الأشياء أو تركيبها إنما يتوقف على طريقة نظرتنا إلى الشيء “، و على طريقة استخدامنا للألفاظ الدالة في اللغة (55).
- إن فكرة الذرية المنطقية التي ذهب إليها فتجنشتين كانت تمثل مرحلة معينة من مراحل تفكيره وهي المرحلة الأولى – والتي كان ما زال متأثرا فيها بالاتجاهات المثالية الميتافيزيقية.. ولذا فإننا نجده يميل إلى رفض هذه الفكرة في فلسفته المتأخرة التي عبر عنها في كتابه ” أبحاث فلسفية “، ويرفض بالتالي تحليل العالم إلى وقائع وإلي أشياء، وإن لم يكن رفضه لها واضحاً قاطعاً شأنه في أغلب أفكاره الفلسفية المتأخرة، لأنه في كتابه ” أبحاث فلسفية”، وفي كتابه ” بعض الملاحظات على أسس الرياضيات ” من قبل، لم يكن مهتما بتحليل العالم أو ببحث العناصر الأولي التي يتكون منها، بل كان مهتما بتحليل اللغة- من حيث دلالتها، ومن حيث استعمالاتنا المختلفة المختلفة لها.. ” فقد تبين فتجنشتين في ” أبحاثة الفلسفية” أن العالم والخبرة ليسا منسقمين بحيث نقسمهما قسمة ذات حدود فاصلة إلى وقائع ذرية، كما أنه بدأ ينظر إلى اللغة، بعد أن توقف عن اعتبارها وسيلة للتعبير عن قضايا ذات صورة منطقية ثابتة بحيث تصور هذه القضايا، والوقائع تبعا لقواعد محددة – بدأ ينظر إلى اللغة على أنها وسيلة للاتصال بين الناس الذين طوروها بحيث تخدم الأغراض المختلفة لنشاطات حياتهم المختلفة.. ولذا نجده يناقش هذه النظرة السابقة إلى تحليل العالم إلى وقائع، وإلي تحليل الوقائع إلى أشياء بسيطة، بشكل غير مباشر في فلسفته المتأخرة أثناء مناقشته لمعني اللغة وتحليلها (56).
- كان المنطق هو محور تفكير فتجنشتين في الرسالة.. . ( فنحن لا نستطيع أن نفكر في شئي ما تفكيرا غير منطقي وإلا كان علينا أن نفكر بطريقة غير منطقية)، ونحن ” لا نستطيع أن نفكر بطريقة غير منطقية، ولذا فنحن ملتزمون بقواعد المنطق في كل تفكير وبالتالي في كل كلام نقوله لارتباط اللغة بالفكر.. ولذا كان فتجنشتين حريصاً على أن يوضح لنا الطريقة المنطقية الصحيحة للتفكير، حتي نأمن الوقوع في الخطأ، ويضرب لنا الأمثلة المختلفة لعملية التفكير الصحيح، وكيف نبدأ من القضية الأولية – التي يجب أن تشترك مع الواقعة الذرية في صورتها المنطقية – لكي نكون منها القضايا المختلفة التي تكون بمثابة دالات صدق لها؛ وبمعني آخر، كان فتجنشتين مهتماً في فلسفته الأولي بالقواعد المنطقية التي يجب اتباعها في التفكير، سواء كان تفكيراً مرتبطاً بالواقع الخارجي – من حيث البحث في الأسس التي يقوم عليها – أو كان تفكيراً استدلالياً يقوم على استنتاج دالات الصدق من القضايا الأولية – وهذا كله ما كان يعبر عنه فتجنشتين بنية اللغة.. إلا أن فتجنشتين تخلى عن هذا الموقف في فلسفته المتأخرة فلم يعد الاهتمام الأساسي عنده هو البحث في بنية اللغة من الناحية المنطقية، بل أصبح اهتمامه الأساسي بالطريقة التي تستخدم فيها الألفاظ بالفعل في اللغة الجارية.. ويتلخص رفض فتجنشتين لموقفه القديم من المنطق في العبارة التي يقول فيها ساخرا مما كان يعتقد في صحته من قبل: ” من الطريف أن نقارن بين كثرة الأدوات (أي كثرة عدد الألفاظ والعبارات)، في اللغة، والطرق التي تستخدم بها، وكثرة أنواع الألفاظ والعبارات، نقارن ذلك كله بما كان يقوله رجال المنطق عن بنية اللغة ( بما في ذلك مؤلف الرسالة المنطقية نفسه). إلا أن فتجنشتين لا يتخلى في فلسفته المتأخرة عن فكرته عن المنطق من حيث هو حد للفكر وبالتالي للغة، إنما جعله بمثابة حد لإحدى تشكيلات ( ألعاب) اللغة المختلفة، والواقع أن فتجنشتين بهذا إنما يستخدم نفس الفكرة مع شيء من التغيير الطفيف الذي يتفق مع تغيير وجهة نظره الفلسفية وموقفه الفلسفي الجديد.. فهو يري في فلسفته المتأخرة أن معني اللفظ يتوقف على استخدامنا الفلي للغة. ويشبه فتجنشتين اللغة في هذه الحالة باللعبة – أو هي لعبة بالفعل – نستخدم فيها الألفاظ، كما نحرك البيدق مثلاً في لعبة الشطرنج إلا أن الإنسان أثناء لعبة الشطرنج لا يكون حرا في تحريك البيدق حسبما يريد، بل يحركه وفقا لقواعد اللعبة التي تسمح بتحريكه على نحو معين وتسمح بتحريك قطعة أخري من قطع الشطرنج على نحو آخر (57).
- من الأمور التي عدلها فتجنشتين في البحوث الفلسفية موقفه من صدق قضايا المنطق والرياضيات ويقينها.. صحيح أنه بقي على موقفه السابق من أنها تحصيلات حاصل ولا تقول شيئاً عن الواقع، وبهذا أصر على التمييز الكانطى الشهير بين القضايا التحليلية والتركيبية.. ولكنه غير الأرض التي يقف عليها فلم يقل إن صدق تحصيلات الحاصل يرجع إلى اتفاقها مع جميع إمكانات الصدق للقضايا الأولية، وإنما يرجع إلى الاصطلاح أو التواضع على المعاني المحددة للرموز.. ولم يكتف فتجنشتين هنا بأن يقول – كما قال الفيلسوف – كما قال الفيلسوف المنطقي “س. أي.. لويس” – إن الآلة الاستنباطية في المنطق والرياضة يمكن أن تدور بغير إزعاج ما دمنا قد حددنا لكل رمز معناه، وإنما يضيف إليه أننا يمكن أن نصطلح على معاني أخرى للرموز ونختار قواعد أخري تترتب عليها عند التطبيق نتائج مختلفة.. وليس ثمة ما يمنع منطقياً من أن يصطلح نوع آخر من الكائنات على أن 2+2 لا تساوي أربعة بل تساوي أكثر أو أقل إذا اصطلحوا على تحديد معنى آخر للعدد غير المعني المتفق عليه بيننا نحن البشر(58).
وفي نهاية جديتنا نقول لقد فتجنشتين من الصدق مع نفسه بحيث جاهر بالتحول الذي طرأ على أفكاره المنشورة في ” الرسالة المنطقية الفلسفية “، وقد بدأ هذا التحول في الظهور أثناء محاضراته التي ألقاها في كمبردج ابتداء من عام 1929 حتي اعتزاله التدريس بالجامعة عام 1947، وهي المحاضرات التي جمعت بعد وفاته في الكتابين ” الأزرق ” و ” البني “.. بيد أن أبعاد هذا التحول لم تكتمل إلا بظهور كتابه ” بحوث فلسفية” ؛ علاوة على أنه نجح حين أعرض عن معظم آرائه وبخاصة نظرية ” الذرية المنطقية” ونظريته في اللغة، وإن ظل على اهتمامه بدراسة علاقة اللغة بالعالم.. وفي هذا الكتاب تحول عن طموحه السابق في وضع ” لغة مثالة ” تكون قادرة على التعبير الكامل الدقيق عن الواقع.. بل لم تعد المهمة الأولي للغة هي تقرير الوقائع، وإنما كان همه الأول هو أن يضع نظرية جديدة في المعني جاءت على نقيض ” الذرية المنطقية ” التي اعتنقها من قبل.. وهذه النظرية الجديدة تبحث عن معني اللفظة في استعمالها.. أقول أن هذا الأساس الجديد يجعلنا ننظر للغة من زاوية جديدة.
د. محمود محمد على
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط
الهوامش
(1) د. محمد مهران: دراسات في فلسفة اللغة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998، ص 103-104.
(2) د. عزمي إسلام: لدفيج فتجنشتين، مكتبة سعيد رافت، القاهرة، بدون تاريخ، ص 7.
(3) د. فؤاد كامل: أعلام الفكر الفلسفي المعاصر، دار الجيل، بيروت، 1993، ص 73.
(4) محمد محمد مدين: الحركة التحليلية في الفكر الفلسفي المعاصر ” بحث في مشكلة المعني”، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، بدون تاريخ، ص 76.
(5) عزمي إسلام: المرجع السابق، ص 30.
(6) محمد محمد مدين: المرجع السابق، ص 77.
(7) أنظر : المقدمة التي كتبها الدكتور عبد الغفار مكاوي لترجمة عزمي إسلام لكتاب البحوث الفلسفية ل فتجنشتين، وكالة المطبوعات، الكويت، 1998، ص 16-17.
(8) خالد قطب: منطق التقدم العلمي، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2002، ص 51.
(9) نقلاً عن د. محمد محمد مدين: الحركة التحليلية في الفكر الفلسفي المعاصر، ص 163-164.
(10) أنظر: المقدمة التي كتبها الدكتور عبد الغفار مكاوي لترجمة عزمي إسلام لكتاب البحوث الفلسفية ل فتجنشتين، وكالة المطبوعات، الكويت، 1998، ص 17.
(10) نقلاً عن د. محمد محمد مدين: المرجع السابق، ص 164.
(11) نفسه، ص 165-166.
(12) نفسه، ص 165-166.
(13) نفسه، ص 165-166.
(14) د. خالد قطب: منطق التقدم العلمي، ص 102-103.
(15) أنظر عبد الهادي عبد الرحمن: الفكر العربي الإسلامي في العصر الوسيط والقطيعة الابيستمولوجية، دراسات عربية، العدد1 – السنة السابعة والعشرون – تشرين الثاني – نوفمبر -1990-ص 54-55.
(16) المرجع السابق، ص 55.
(17) أنظر د. محمد عابد الجابري: مدخل إلى فلسفة العلوم: العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي، الجزء الأول ” تطور الفكر الرياضي والعقلانية المعاصرة “، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1994، ص 37.
(18) أنظر د. يمني طريف الخولي: القطيعة المعرفية والفكر العربي المعاصر: مناقشة، التراث والتجديد نموذجاً ” ضمن كتاب: قضايا فكرية، الكتاب الخامس والسادس عشر: الفكر العربي على مشارف القرن الحادي والعشرين: رؤية تحليلية نقدية، دار الثقافة الجديدة – القاهرة، 1995، ص240، وأنظر خالد قطب: نفس المرجع، ص 85-86.
(19) أنظر د. حسن عبد الحميد: التفسير الابيستمولوجي، ص 187.
(20) د. خالد قطب: المرجع السابق، ص 84-85.
(21) نفس المرجع، ص 85.
(22) نفس المرجع، ص 105-106.
(23) أنظر د. حسن عبد الحميد: التفسير الابيستمولوجي لنشأة العلم الحديث، ضمن دراسات في الابيستمولوجيا، المطبعة الفنية الحديثة، القاهرة، 1992، ص 227.
(24) نفس المرجع، ص 241-242.
(25) فتجنشتين: رسالة منطقية فلسفية، ترجمة د. عزمي إسلام، مراجعة د. زكي نجيب محمود، مكتبة الأنجلوالمصرية، القاهرة، 1968، ص.
(26) انظر مقدمة عزمي إسلام لترجمتة للرسالة المنطقية الفلسفية ل فتجنشتين، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1968، ص 6-7.
(27) أنظر مقدمة د. زكي نجيب محمود لترجمة د. عزمي إسلام لكتاب رسالة منطقية فلسفية، مكتبة الأنجلوالمصرية، القاهرة، 1968، ص.. هـ
(28) د. محمد محمد مدين: الحركة التحليلية في الفكر الفلسفي المعاص ص 78.
(29) أنظر مقدمة د. زكي نجيب محمود لترجمة د. عزمي إسلام لكتاب رسالة منطقية فلسفية، مكتبة الأنجلوالمصرية، القاهرة، 1968، ص ب-جـ.
(30) أنظر برتراندرسل: مقدمته لكتاب رسالة منطقية فلسفية، ترجمة د. عزمي إسلام، مكتبة الأنجلو المصرية، 1968، القاهرة، ص 31.
(31) أنظرالمقدمة التي كتبها الدكتور عبد الغفار مكاوي لترجمة عزمي إسلام لكتاب البحوث الفلسفية ل فتجنشتين، وكالة المطبوعات، الكويت، 1998، ص19-20.
(32)) المرجع السابق، ص 20.
(33) أنظر ألفريد جولس أير: الفلسفة في القرن العشرين، ترجمة ودراسة د. بهاء درويش، مراجعة د. إمام عبد الفتاح إمام، دار والوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الاسكندرية، 2006، ص 212-213.
(34)) د.عبد الغفار مكاوي: المرجع السابق، ص 21.
(35) د. عزمي إسلام: لدفيج فتجنشتين، ص 75-76.
(36) د. محمد محمد مدين: المرجع السابق، ص 98.
(37) نفس المرجع، 99.
(38) نفس المرجع، ص 83-84.
(39)ألفريد جولس أير: الفلسفة في القرن العشرين، ص 221-222
(40) د. عزمي إسلام: لدفيج فتجنشتين، ص1470148.
(41) د. محمد محمد مدين: الحركة التحليلية في الفكر الفلسفي المعاصر، ص 154-155.
(42) نفس المرجع، ص77.
(43) نفس المرجع، ص 163.
(44) د. محمد مهران: مدخل إلى دراسة الفلسفة المعاصرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1984، ص 175-176 وأنظر أيضا د. محمد مهران: دراسات في فلسفة اللغة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998، ص 39-40؛ وأنظر أيضاً د. محمد مهران: فلسفة برتراندرسل، دار المعارف، القاهرة، 1976، ص 29.
(45) عزمي إسلام: نفس المرجع، ص 35.
(46) د. محمد محمد مدين: نفس المرجع، ص 154-155.
(47) د. عزمي إسلام: نفس المرجع، ص 50-53.
(48) نفس المصدر، ص 6.
(49) د. عزمي إسلام: لدفيج فتجنشتين، ص 55.
(50) نفس المرجع، 56.
(51) نفس المرجع، ص 319-320.
(52) نفس المصدر، ص 22-23.
(53) د. محمد محمد مدين: نفس المرجع، ص155.
(54) د. عزمي إسلام: لدفيج فتجنشتين، ص 321.
(55) نفس المرجع، ص338.
(56) نفس المرجع، ص ص132-133.
(57) نفس المرجع، ص ص293-294.
(58) أنظرالمقدمة التي كتبها الدكتور عبد الغفار مكاوي لترجمة عزمي إسلام لكتاب البحوث الفلسفية ل فتجنشتين، وكالة المطبوعات، الكويت، 1998، ص 26.
2 تعليقات
تشهد الفلسفة المعاصرة نشاطا مخصوصا في مساءلاتها و تفكراتها ومساراتها، هذه المخصوصية تتأتى من التحولات التي مسّت نماذج الفهم ومقولات التفكير، بخاصة تلك التي صاغتها عقلانية الحداثة الفلسفية مع لحظة التأسيس الذاتي الديكارتية وتوابعها المعرفية والتاريخية: الإصلاح الديني والثورة العلمية والثورة السياسية وعصر النهضة و عصر الأنوار وصولا إلى الإغلاق الفلسفي مع هيجل، إنه إغلاق لأنه رفع هذه المعقولية بمحدداتها المشهورة : الحق في النقد، الحرية، استقلال العمل، المنزع المثالي في الفلسفة، رفعها إلى مرتبة الوعي المطلق بالذات، هذا الوعي تعد الحرية ملمحا جوهريا عليه في عناصر الثقافة الغربية المختلفة: السياسة، القانون، الأخلاق، الفلسفة، الدين إن هذه المخاطرة الفلسفية الكبرى التي طوّرها هيجل تكمن في أنها تعالت بهذه المعقولية إلى رتبة الميتافيزيقا، وأقصد بمفردة الميتافيزيقا في هذا المقام أية فكرة مجتثّة عن أصولها، حاجبة لتاريخيتها ومركبات تكوينها، لقد صار للميتافيزيقا تاريخ كما قرأ ذلك هيدجر، هذه المعقولية الفلسفية ليست في الحقيقة من نواتج المنظورات الفلسفية الحداثية فقط ، فإلى جانب هذه المحددات ثمة نسل معرفي يوناني كامن قوامه الثقة في العقل وفي مقولاته ومحاكمة كافة أشكال اللامعقول باسمه (كالدين و الحس الأخلاقي مثلا ) هذا ما دفع أحد المهتمين الفرنسيين بالفلسفة المعاصرة ” بيير هيبر سوفرين” إلى التصريح بأن النموذج العقلاني بخاصة الذاتي منه، يجد مكوناته وبواكيره الأولى في فلسفة سقراط، إنها النظرة التي امتدت خلال مسار الفلسفة في التاريخ بأشكال متعددة، وتحت مسمى واحد هو العقلانية، هذه العقلانية السقراطية هي التي مهدت لظهور نظرية ثنائية العالم عند أفلاطون، وهي التي جمّدت على امتداد ألفي عام أطر أفكارها في منطق أرسطو، وهي التي أدخلها اللاهوتيون في الدين، وهي التي تجددت وابتدعت العلم مع الطريقة الديكارتية، وهي التي نقع عليها من جديد في ديالكتيك هيجل، وعبارته المشهورة”ما هو عقلاني هو واقعي، وما هو واقعي إنما هو عقلاني”.
نشكرك دكتورنا الفاضل على هذه المقالة الرائعة جدا ًوعلى جهودك ،،
في البداية ، يمكننا ابراز تلك التحولات الفلسفية في فكر فتجنشتين في العناصر التالية ؛ نقد فكرة الاتصال في فلسفة فتجنشتين. الوسائل المنهجية والفلسفية في الرسالة المنطقية الفلسفية . القطائع المعرفية والبحوث الفلسفية .
وايضاً قد رأى فتجنشتين ان اغلب ” القضايا والاسئلة التي يقولها الفلاسفة انما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا “.