الحسن البصري – فيلسوف الروح العملي

إنَّ الأرواح الكبيرة للمثقفين صيرورة متراكمة في مجرى إدراك القيم السائدة في مظاهر البشر وبواطنهم. وهو إدراك يؤدي بالضرورة إلى نقد الواقع من خلال انتفاضة الجسد واحتجاج العقل. وحالما ترتقي وحدة الانتفاض الحسي والاحتجاج العقلي إلى مصاف الإدراك الأخلاقي، حينذاك يبدأ الروح في احتجاجه الخاص. لكنه خلافا للعقل والجسد، عادة ما يحفر قنواته العميقة صوب بحار الحكمة، أي نحو عوالم بلا أوهام وأهواء، بوصفها المقدمة الضرورية لصنع إرادة فاعلة في عوالم الخيال المبدع.

وعادة ما يتوقف حجم هذه العوالم ونوعها وعمقها ومداها على قدر ما في تاريخ الدولة والأمة من مساع إمبراطورية. فالشخصيات الكبرى هي الوجه الآخر للمساعي الإمبراطورية والنزعة الكونية. فإذا كانت الإمبراطورية الأموية هي نتاج معارك القوى الاجتماعية والسياسية والروحية للخلافة في مجرى القرن التأسيسي الأول، فإن الحسن البصري كان وجهها الآخر.

إننا نعثر فيه على الصفة الفردية والفردانية لإمبراطورية الروح المناهضة لسلطان السلطة المستبدة. وذلك لأنه جسّد بذاته خزين معارك القرن الأول وصراعاته وبحثه عن البدائل، أي كل ما كان يحتدم في أعمق أعماق النفس واشد مظاهرها بروزا في حل إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للفرد والجماعة والأمة والدولة[1]. مما جعل منه في العرف الإسلامي العام احد المصادر الكبرى للفكرة الإسلامية المتسامية رغم تباين المواقف السياسية منه. وهو أمر طبيعي. فالشخصية الكبرى، التي تنذر نفسها من اجل صنع “الإجماع” عادة ما تصبح احد مصادر الخلاف الأكبر. كما أنه القربان الروحي الضروري لكي تتكامل الدولة بمعايير الحق والمثقف بمعايير الحقيقة.

فقد جسّد الحسن البصري في ذاته نموذج المثقف المتسامي عن صراع القوى الحزبية ونزوعها الضيق وأوهامها وأهوائها وظنونها الجازمة! مما جعل منه نغما متموجا في دبيب النفس الاجتماعية والعقل الحر والروح الأخلاقي. بحيث جعله على الدوام محل الاحتكاك والحراك، كما جعله قريبا من الجميع وبعيدا عنهم. أما في الواقع فان القرب والبعد ليسا إلا الصيغة الظاهرية عن حقيقة بعده عن الباطل والخطيئة والرذيلة وقربه من الحق والصواب والفضيلة. لكنه اقتراب وابتعاد فرداني متحرر من أوهام وأهواء العامة والخاصة. ومن الممكن العثور عليه في احد أجوبته عندما قيل له مرة

  • يا أبا سعيد! صليت؟
  • نعم!
  • لكن أهل السوق لم يصلوا بعد؟!
  • ومن يأخذ دينه من أهل السوق؟![2]

بمعنى تمثيله لمسار الرؤية الفردية المسبوكة بمعايير المعاناة الفعلية للحق، أي تمثله للحقيقة القائلة، بان المعاناة هي التي تجعل الحياة سهلة بسيطة كالماء والهواء والنار والتراب. وذلك لان الحياة الخالية من معاناة كبرى هي ركود وملل. ومن ثم فهي كآبة قادرة على سحب بريق الرأفة والحنان والرقة والجمال من كل مشاعر الجسد وقلق الوجدان وتأمل العقل. وبالتالي من المكونات الضرورية التي تبعث في الوجود حرارة المعنى وقيمته بالنسبة للمصير والتاريخ على السواء.

وليس مصادفة أن نعثر في أكثر من تقرير مقارن له عن إشارة إلى ما “أدركه”، أي رآه وتحسسه وعاينه وعايشه وتأمله وتفكر به. من هنا كلماته العديدة التي يشير فيها إلى الأسلاف، ولكن بمعايير التجربة الفردية والتأمل الحسي والعقلي، وليس التقليد. إذ نراه مرة يقول “لقد أدركت سبعين بدريا ما كان لباسهم إلا الصوف”[3]. وفي حالة أخرى يقول “أدركت سبعين من الأخيار ما لأحدهم إلا ثوبه، وما وضع احدهم بينه وبين الأرض ثوبا. وكان إذا أراد النوم باشر الأرض بجسمه وجعل ثوبه فوقه”[4]. وفي حالة ثالثة يقول “أدركت أقواما كانوا لا يشبعون بأكل احدهم حتى إذا رد نفسه امسك ذائبا ناحلا مقبلا على نية. يعيش عمره كله ما طوي له ثوب قط، ولا أمر أهله بصنعة طعام، ولا جعل بينه وبين الأرض شيئا”[5]. وفي حالة رابعة يقول “لقد رأيت أقواما كانت الدنيا أهون على احدهم من التراب تحت قدميه”[6]. وفي حالة خامسة يقول “لقد أدركت أقواما كانوا أؤمر الناس بالمعروف وآخذهم به، وأنهى الناس عن منكر واتركهم له. ولقد بقينا في أقوام أأمر الناس بالمعروف وأبعدهم منه، وأنهى الناس عن المنكر وأوقعهم فيه. فكيف الحياة مع هؤلاء؟!”[7]. إذ يتمم هذا السؤال من حيث منطقه الداخلي تأمل تجربة الماضي والحاضر بمعايير الإدراك الأخلاقي الذاتي. فالقضية هنا ليست في عدد مرات الإدراك بقدر ما تكمن في نموذجيتها المتكاملة في السؤال المتألم حول كيفية العيش مع هذا القطيع المقطوع عن تجارب الأسلاف الكبرى. ويحتوي هذا السؤال في أعماقه على إجابة، وذلك لأنه سؤال الاستغراب والاندهاش من الكيفية التي يمكن الهبوط بها صوب الحضيض، بينما الحقيقة والحق يفترضان الارتقاء الدائم صوب السمو الروحي.

بعبارة أخرى، إننا نقف ليس أمام سؤال يهدف إلى إدراك واقع أو حقيقة بقدر ما نقف أمام سؤال هو تعبير عن صرخة العقل والوجدان المتموجة في أعمق أعماقه بوصفها جزء من معاناة تاريخية أخلاقية كبرى. ويمكن الهبوط بهذه المعاناة إلى ميدان الخشونة المرّة للحياة من اجل تحسسها بمعايير الجسد أيضا، كما نراها في الفكرة التي وضعها مرة في عبارة مباشرة يخاطب بها الإنسان قائلا:”ابن ادم! انك تموت وحدك! وتدخل القبر وحدك! وتبعث وحدك! وتحاسب وحدك! ابن ادم وأنت المعني وإياك يراد”[8]. وهي حقيقة اقرب إلى البديهة العقلية. لكن مفارقتها المثيرة تقوم في عدم تحسس أغلبية البشر لها، مع أنها اقرب الأشياء إلى جسد الإنسان! مما جعل عبارة الحسن البصري المذكورة أعلاه أشبه ما تكون بحشرجة مصدرها غباء العامة، وصلف الخاصة، وغيبوبة العقل، واندثار اليقين الروحي! من هنا يمكن فهم الاستكمال المبسط والمتمم لفكرة أن الإنسان يموت لوحده ويدفن لوحده، وان المقصود بكل ذلك هو الإنسان المخاطب (الجميع). بحيث نرى الحسن البصري يصل ضمن هذا السياق، إلى مطابقة ماهية المؤمن مع المحاسبة الذاتية باسم الحق، كما وضعها في عبارته القائلة:”إن المؤمن قوّام على نفسه، يحاسب نفسه لله”[9]. بمعنى خروجه من تقاليد التقليد وشرطية العلاقات والقيم والانطواء على النفس بمعايير الروح المتسامي. وسوف تبداع هذه الحالة لاحقا فكرة وسلوك الخلوة بوصفها طريق التنقية الذاتية للنفس. وهي الحالة التي نعثر على صداها وتأسيسها الأول في السلوك الشخصي للحسن البصري، كما نراها على سبيل المثال في رده على ثابت البناني، الذي أراد مرافقة الحسن إلى الحج بعد أن سمع بذلك. فقد أجابه الحسن قائلا:”ويحك! دعنا نتعاشر بستر الله علينا. إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه”[10].

إننا نقف هنا أمام فكرة تعكس نوعية السلوك المتراكم في مجرى المعاناة النقدية للنفس بوصفها محاسبة عسيرة، أو ما اسماه بمحاسبة النفس لله. بمعنى تحررها من قيود الظاهر والتقليد وعرف العوام. وليس مصادفة أن يرفع الحسن البصري هذا السلوك إلى مصاف الفكرة النظرية والعملية تجاه علاقة العقل والنقل أو الدراية والرواية، باعتبارها إحدى إشكاليات الثقافة الكبرى آنذاك. بحيث نسمعه يقول مرة:”إن الله لا يعبأ بصاحب رواية، وإنما يعبأ بذي فهم ودراية”[11]. وأن “من لم يكن له عقل يسومه لم تنفعه كثرة مروياته”[12].

وتعكس هذه الفكرة أولا وقبل كل شيء ما يمكن دعوته بنوعية السلوك الباطني المتراكم في مجرى احتكاك النفس بخشونة الواقع الفعلية و”استحالة” المثال. لكنه تراكم فردي بالضرورة ومحكوم بمعاناة التجربة الذاتية الحرة. من هنا اندفاعها مع كل انغماس في دروبها صوب دهاليز الجنون المرعبة للذهنية المستأنسة بروايات الأسلاف، والمستظرفة بأساطيرهم الوديعة، والمتراخية بقصص الليالي وسردها المغري! وهي نتيجة ليست معزولة عن واقع الحقيقة القائلة، بان السمو الفردي المحكوم بمعاناة التجربة الذاتية الحرة عادة ما يجعل الشخصية “مجنونة” بمعايير الظاهر والعابر والزمن، و”روحا” بمعايير التاريخ والحقيقة. من هنا مقارنة الزمن العابر بالتاريخ الروحي في العبارة التي تفوه بها مرة عندما قال: “صحبت طوائف لو رأيتموهم لقلتم مجانين! ولو رأوا أخياركم لقالوا ما لهؤلاء من أخلاق!”[13]. ويمكن فك رموز هذه “الصحبة” وأسرارها الواقعية والمعنوية حالما يجري وضعها على محك المطلق بوصفه مصدر الوحي الذاتي والكمال المتحرر، مما ستدعوه المتصوفة لاحقا برّق الاغيار، أي التحرر من عبودية الغير أيا كان شكله ومحتواه. فعندما قيل له مرة، بان قوما يحضرون مجلسه ليس بغيتهم إلا تتبع سقطات كلامه وإرهاقه بالسؤال، نراه يبتسم ويقول:”إني حدّثت نفسي بسكنى الجنان ومجاورة الرحمن فطمعت! وما حدّثت نفسي بالسلامة من الناس، لأني علمت أن خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم لم يسلم منهم”[14].

وليس في كلامه هذا شيئا غير حقيقة المحبة المفعمة برائحة التحرر من كل ما لا يمكنه أن يوصل إلى إدراك حقيقة الحق. وذلك لان حقيقة الحق بالنسبة للحسن البصري تقوم في بلوغ الحكمة. وهذه بدورها ليست شيئا غير “تحديث النفس بسكنى الجنان ومجاورة الرحمن”، بمعنى تجديدها وإصلاحها الدائم بحوار الرحمة الأبدية. لكنها رحمة يستحيل بلوغها دون معاناة التجربة الحرة بوصفها حوارا أبديا للروح المتسامي. وقد بلغ الحسن البصري هذه الغاية ووضعها في عبارته القائلة: “إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر، وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت بالحكمة”[15]. كما سيقول عنه أبو نعيم الأصفهاني “مازال الحسن البصري يعي الحكمة حتى نطق بها”[16]. وهو نطق ميز كلمة الحسن البصري وعبارته بوصفها حكمة. لهذا نسمعه يقول:”لسان المؤمن وراء قلبه. إذا أراد أن يتكلم تفكر. فإن كان له تكلم، وان كان عليه امسك. وقلب المنافق على طرف لسانه”[17]. ومع ذلك تبقى مقارنة جزئية تعكس الفكرة الأوسع والأعمق والأكثر شمولا لعلاقة اللسان والقلب والحكمة، عندما وضعها في عبارته القائلة:”من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو. ومن لم يكن سكوته تفكرا فهو سهو. ومن لم يكن نظره اعتبارا فهو لهو”[18].

بعبارة أخرى، إن وحدة الحكمة والتفكر والاعتبار هي الحلقات الضرورية التي تصنع على مثالها سبيكة الأنا الناطقة بالحق. بمعنى صيرورتها التاريخية والذاتية بوصفها تلقائية واحدة وجدت تعبيرها الإسلامي بوحدة الكمية النوعية القائمة في بلوغ الأربعين والنبوة. لهذا نرى المكي وغيره، على سبيل المثال، يقول بان الحسن البصري ظل “يعي الحكمة أربعين سنة حتى نطق بها”[19]. ويعكس هذا الرقم أولا وقبل كل شيء نمطية التقاليد الإسلامية التي جعلت من الأربعين حدا للنبوة والحكمة. من هنا إجماع الثقافة العامة عنه، بأنه “ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء”[20]. ثم تخصيص ذلك بما يتناسب مع ذوق الثقافة الإسلامية ورؤيتها للعظمة عبر مشابهة كلامه بكلام النبي محمد، كما نراه في العبارة التي يوردها أبو طالب المكي عندما كتب يقول، بأن كلام الحسن البصري “كان يشبه كلام رسول الله”[21]. وبهذا يكون الحسن البصري قد بلغ الدرجة المثلى في العرف التاريخي والروحي للثقافة الإسلامية التي جعلت منه سبيكة حية لتاريخ الأنبياء والحكماء. ويمكننا العثور على هذه الدرجة في العبارة التي وصفته بكلمات:”أن لسانه مثل لسان الأنبياء والحكماء”. وليس المقصود بذلك نطق اللسان، بقدر ما كان المقصود به نمط التفكير والأسلوب والغاية. وهو القصد الذي يمكن رؤيته في التحديد الذي قدمه أبو طالب المكي واستعاده الغزالي لاحقا في عباراته القائلة :”لقد كان الحسن البصري أشبه الناس كلاما بكلام الأنبياء وأقربهم هديا من الصحابة. اتفقت الكلمة في حقه على ذلك. وكان أكثر كلامه في خواطر القلوب، وفساد الأعمال، ووساوس النفوس، والصفات الخفية الغامضة من شهوات النفس”[22]. ذلك يعني أن الحسن البصري هو الكينونة التي جسّدت في ذاتها رحيق الصيرورة الإسلامية الروحية، من خلال توليف تراث الروح المتسامي والتاريخ الواقعي في سلسلة الوحدة الضرورية للتاريخ الفعلي والمثال الواجب.

 من هنا ارتقائه في سماء الثقافة الإسلامية بوصفه احد مصادرها وأعلامها الكبرى. كما لو انه تجسيد للحقيقة القائلة، بان الأنبياء حالما تموت تحيى في ذاكرة الأجيال والأمم بما يتناسب وذوقها التاريخي. من هنا شيوع الصيغ العديدة والمتنوعة في مظاهرها والمتوحدة في مضمونها عنه بوصفه صوت التاريخ والحقيقة والروح الأخلاقي للأمة. لهذا قيل عنه، بأنه في الليلة التي مات فيها الحسن البصري شاهد البعض كما لو أن أبواب السماء مفتحة، وكأن مناديا ينادي “ألا أن الحسن البصري قدم على الله وهو عنه راض”[23]. وهي الصيغة الرمزية المعبرة عما فيه من مفاتيح قادرة على فك مزلاج الوجود بفكرة الرضا الجوهرية للرؤية الإسلامية. إذ ليس الرضا سوى الوحدة المتجانسة للحرية والإرادة في المواقف. ومن ثم لا يعني رضا الله عنه سوى الصيغة اللاهوتية عن قبول التاريخ والروح له بمعايير وحدتهما التي جسدها الحسن البصري نفسه في صيرورته الفردية وكينونته الذاتية. وبالتالي لا تعني انفتاح أبواب السماء سوى الإطلالة الجميلة لاسترقاق السمع إلى صوت الحقيقة والتاريخ والروح الأخلاقي والأمة المتمثل في شخصية الحسن البصري. من هنا قول عبد الرحمن بن زيد عنه:”كان الحسن البصري إذا أمر بشيء كان من اعمل الناس به. وإذا نهى عن شيء كان من اترك الناس له. ولم أر أحدا قط أشبه سريرة بعلانية منه”[24]. وعندما سأل عنه الأمير مسلم بن عبد الملك، أجابه خالد ابن صفوان قائلا “أشبه الناس سريرة بعلانية، وأشبه قولا بفعل. وإن قعد على أمر قام عليه، وإن قام على أمر قعد عليه. وإن أمر بشيء كان اعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان اترك الناس له. رأيته مستغنيا عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه”! عندها قال مسلم:”حسبك يا خالد! كيف يضل قوم هذا فيهم؟!”[25]. من هنا شيوع العبارة القائلة عنه:”كنا نشبهه بهدى إبراهيم الخليل في حلمه وخشوعه ووقاره وسكينته!”. بمعنى بلوغه الدرجة التي يمكن وضعه، حسب ذوق لعبارة الإسلامية، في مصدر الفكرة الأخلاقية والروحية المتسامية. وليس مصادفة، كما تروي كتب التاريخ والسير الحادثة الطريفة عن الرغبة الوحيدة والأخيرة لجابر بن زيد، عندما قيل له قبيل موته:

  • ما تشتهي؟
  • نظرة إلى الحسن!

فلما دخل عليه الحسن، قالوا له:

  • هذا الحسن!
  • يا أخوتاه! الساعة أفارقكم إلى النار أو إلى الجنة![26]

ذلك يعني انه بلغ الحالة التي جعلته عروة اليقين والسعادة المحتملة بالنسبة لأرباب الإرادة الحرة والأخلاق المتسامية، بحيث قال عنه الشعبي:”ما رأيت مثل الحسن فيمن رأيت من العلماء إلا مثل الفرس العربي بين المقارف! وما شهدنا مشهدا إلا برز علينا”[27]. وتشير هذه العبارة إلى تميز الأصيل عن المزيف. ولا معنى لهذا التمايز هنا سوى ما يتعلق بصيرورة الشخصية وأثرها الفعلي بالنسبة للروح الثقافي، التي جعلت الحسن البصري ممثلا لدراما الانتقال العاصف في تاريخ الدولة والأمة والثقافة.

فقد تمثل الحسن البصري تقاليد الرؤية التوحيدية في مرحلة الانتقال الدموية من فكرة الرشد إلى فكرة السلطان، أي الانتقال من براعم الفكرة العامة للدولة والأمة القائمة على جوهرية الاجتهاد العقلي والعملي المحكوم بمعايير وقيم الشريعة الإسلامية إلى أولوية التسلط المتحرر من فكرة القانون العام. من هنا إلغاء فكرة الدولة والأمة بالمعنى الدقيق للكلمة. بحيث حوّل تاريخ الأموية إلى دموية حروب خارجية وداخلية. وجرى تحسس هذه الحالة من جانب المثقفين المسلمين الكبار على أنها خروجا عن منطق الحق وروح الإسلام. وقد يكون الحسن البصري هو احد اكبر ممثلي هذا التيار الذي تذوق طعم المرارة القاسية في هذا التحول الدرامي وواجهها بأسلوب متميز في المواقف النظري والعملية. الأمر الذي جعل منه نموذجا متميزا وأصيلا في تمثل دراما المرحلة ومواجهة ورذائلها الهائلة. مما وجد انعكاسه في شخصيته باعتبارها نموذجا فرديا معبرا عن تأمل الثقافة الورعة لنفسها في مراحل صعودها المتشنج وصراعها الدموي. من هنا تحوله إلى احد المصادر الكبرى للفكرة الصوفية. ومن هنا قول الثقافة الصوفية اللاحقة عنه بان الحسن البصري هو احد الثمانية الذين انتهى إليهم الزهد من التابعين. غير أن مأثرته تقوم في رفعه ممارسة الزهد إلى مستوى الرؤية الفلسفية والعملية. من هنا يمكن فهم قول المكي، بان بداية الزهد “كانت مجالس الحسن البصري يخلو فيها للذكر مع إخوانه وأتباعه من النساك والعباد في بيته مثل مالك بن دينار وثابت البناني[28] وأيوب السخستياني[29] ومحمد بن واسع وفرقد السبخي[30] وعبد الواحد بن زيد[31]. فيقول :هاتوا انشروا النور! فيتكلم عليهم في هذا العلم من علم اليقين والقدرة وفي خواطر القلوب وفساد الأعمال ووسواس النفوس”[32]. وكان هذا النوع من الكلام يبدو “غريبا” آنذاك. بحيث نرى ابو طالب المكي يقول بهذا الصدد:”إن الحسن البصري أول من انتهج سبيل هذا العلم (التصوف) وفتق الألسنة به ونطق بمعانيه واظهر أنواره وكشف به قناعه. وكان يتكلم بكلام لم يسمعوه من احد من إخوانه. فقيل له:

  • يا أبا سعيد! انك تتكلم في هذا العلم بالكلام لم نسمعه من احد غيرك! فمن أين أخذت هذا؟
  • من حذيفة بن اليمان!”[33]

وتعكس هذه الإجابة ارتقاء الروح التلقائي في مجرى تأمله التاريخ والحقيقة. وهو ارتقاء ارتقى بالحسن البصري إلى مصاف المعلم الأول للروح الإسلامي الإنساني. من هنا استنتاج المكي:”الحسن هو إمامنا في هذا العلم الذي نتكلم به. أثره نقفو، وسبيله نتبع، ومن مشكاته نستضيء. أخذنا ذلك بإذن الله إماما عن إمام إلى أن ينتهي ذلك إليه”[34]. إذ يعكس هذا التقييم أولا وقبل كل شيء الحالة الفعلية لتقاليد الإسلاف والحقيقة والتاريخ الذاتي للأمة التي تمثلها الحسن البصري في مراحل صعودها وتوتر صراعاتها وفتنة احترابها السياسي بسبب خروج السلطة الأموية على قواعد المنطق الشرعي والأخلاقي الكامنة في الفكرة الإسلامية الأولى.

كل ذلك يعطي لنا إمكانية القول، بأن خاتمة الحسن البصري قد اختتمت في مواقفها النظرية والعملية منظومة النقد الأخلاقي الشامل لمرحلة الانتقال من الخلافة إلى الملك. إذ جسّد في ذاته ومظهره وحياته ومماته المزاج النقدي تجاه هذا الانتقال ومحاولة تذليله في ميدان الأخلاق العملية والنظرية. وقد لا يكون ذلك معزولا عن البصرة بوصفها “موقد الأجناس” وموطن الاعتدال الديناميكي، مما يجعل من شخصية الحسن البصري بهذا الصدد أنموذجا لتمثل تقاليد المدينة والتاريخ الروحي وقيم العقائد الكبرى. وليس مصادفة أن تظهر في البصرة اغلب المدارس الفكرية الإسلامية الأولى، وكذلك تفرّع مختلف فرق الكلام مثل القدرية والمعتزلة إضافة إلى اتجاهات الزهد والتصوف وغيرهم منه. ولم تكن هذه النتيجة معزولة عما في فكره النظري والعملي وتجربته الذاتية التي رفعها إلى مصاف الحكمة من توحيد خفي وتلقائي لمختلف تقاليد التيارات الإسلامية المعارضة الأولى. من هنا كانت ردود فعله تتسم بقدر واحد من الابتعاد والاقتراب من الجميع، بحيث نعثر فيه على مواجهة نقدية تجاه السلطة والمجتمع والأفراد والجماعات والفرق المختلفة بقدر واحد! وهو نقد اتخذ مساره الخاص من خلال تحويل روافده صوب النفس والغوص في خلجانها والبحث فيها عن كل ما يعيق صفائها الأول. وهي المقدمة الضرورية لنقد الكلّ من خلال عرض النفس على مطالب الحكمة والقيم المتسامية بوصفه محك الاختبار الفعلي للفكر والتفكر والفكرة.

من هنا كان صمت الحسن البصري ونطقه نقدا كليا متكافئا للجميع. بحيث جعل منه ممثل الاحتجاج الأكبر في مرحلة الانتقال العاصفة من الخلافة إلى الملك. إذ كان هذا الاحتجاج يهدف أولا وقبل كل شيء إلى محق الغربة البليدة عن معاناة الأسلاف والتاريخ ومصالح الأمة وتراث الحقيقة. كما لو انه أراد القول، بأنه لا غابرين في التاريخ غير غبار الجهل وخواء العزيمة والخروج على منطق الأخلاق المتسامية. ولا قيمة لهذه المظاهر أمام ما تتوصل إليه الحكمة بوصفها استنطاق النفس الحرة. من هنا كان في احتجاجه أشبه ما يكون بالرمال المتراكمة للكينونة الإسلامية في قدرتها على امتصاص غبار الفتنة وحطامها التي كانت ترمي بها أفعال الأموية الهوجاء على سواحل الحياة الفعلية للروح. كما كان هذا الاحتجاج يكشف في كل مظاهره وخفاياه، لوامعه وملامحه عن ضحالة شواطئ الأموية وأمواجها. كما لو انه أراد القول، بان الأموية لا يمكنها أن تكون بحر الأرض ولا قمر السماء. لهذا كانت أمواج المد والجز العارمة تجري في أوهامها، لهذا لم يكن بإمكانها تحسس دور هذه الأمواج وما فيها من حياة وحيوية في صقل قاع الوجود وسماءه.

وفيما لو نقلنا هذه الصيغة البلاغية إلى ميدان الفكر والواقع، فان حركة المد والجزر التي تزخر بها الحياة لم تكن بالنسبة للحسن البصري، سوى الحركة المتموجة لتناسب العقل والوجدان. الأمر الذي جعل منه الممثل النموذجي لوحدة وتناسب العقل والوجدان في مرحلة الانتقال العاصفة للدولة والمجتمع والثقافة والقيم. فقد حارب الأموية من خلال صياغة نموذج جديد للمعارضة يقوم في تحديد واستخلاص وتجانس موقفه من كل شيء، وفي كل مظاهر الروح والجسد والحياة العامة والخاصة[35]. وكان يصعب إدراج هذه المواقف فيما هو متعارف عليه بالنسبة لحركات المعارضة الأولى من حدة في المواجهة وتحديد مباشر ورد فعل في مواجهة سلوك الأموية الدموي بدماء قانية “نقية” من نقد الدينار والدرهم. لهذا وجدوا في مواقفه وكلماته وعباراته مجرد تعبيرا عن “لسان صامت”. بحيث وجدت فيه بعض الحركات الشيعية الراديكالية “لسانا خانعا”. من هنا قولهم “لولا سيف الحجاج ولسان الحسن البصري، ما قام لبني مروان أمر في الدنيا”[36]. أما في الواقع، فقد كان لسان الحسن البصري صيغة نقدية تتسامى عن احتراب الفرق مع البقاء ضمن تيار الحقيقة ووجدان الإخلاص الفردي لها. من هنا كان صمته ونطقه تعبيرا عن نقد الكل من خلال اختبار النفس، بوصفه أسلوب صيرورة المرجعية الروحية المتسامية في الفرد، وبالتالي صنع فردانية متميزة بين أقرانها. وكانت تلك الصيغة الأولى في تاريخ الثقافة الإسلامية التي حققها الحسن البصري من خلال تأسيس ما يمكن دعوته بفلسفة بكاء الوجود.

لقد أبكى الحسن البصري الوجود فأبكى الجميع. أنه استدّر عطف العوام والخواص من اجل تأمل الرذيلة القائمة في الوجود بوصفها رذيلة كامنة في النفس. وجعل منها مقدمة نقد الكلّ. وبهذا يكون الفارس الروحي الذي استثار مختلف القوى الجديدة من اجل المشاركة في إحياء وإثراء بكاء الإرادة وقدرها التاريخي الذي وضع أنغامه وأصواته حركات المعارضة الكبرى للشيعة والخوارج. وهو إحياء وإثراء نقدي. وذلك لأن النقد الأخلاقي الجديد للوجود عند السن البصري كان يقوم على فرضية أن الضلال هو ظلال الخطيئة الكامنة في النفس. من هنا كانت فلسفته عن بكاء الوجود ونعيه مبنية على أسس الموقف الفردي المحكوم بقيم الإخلاص للحق والمهّذب بمسالكه. ومن هنا أيضا وحدة بكاء النفس والروح والجسد وتأمله بمعايير السمو الباطني. فالإنسان بالنسبة له نفس وكلّ أخلاقي. وبالتالي ليست الإرادة الحقيقية سوى تحقيق وحدة العلم والعمل بالشكل الذي يجعل منها وحدة لا تجزئة فيها. بمعنى تحريرها من تجزئة الظاهر والباطن، والجزئي والكلي، والغاية والوسيلة وما شابه ذلك. وهو السرّ القائم وراء جعله تعرية النفس أسلوب نقدها الظاهري والباطني. بعبارة أخرى، انه أراد فضحها وليس اكتشافها. وهو موقف عملي ونظري لم يكن معزولا عن شخصيته ومعاصرته لمرحلة السيطرة الأموية وما لازمها من سيادة الإكراه، والجبر، والقهر، والقسوة الهمجية، والخروج على الشرعية، وشراء الذمم، واستفحال قوة النفس الغضبية، وصعود الإمبراطورية المتحررة من قيم الرؤية الشرعية وفكرة الدولة، وتفسخ النخبة السياسية.

لقد قدم الحسن في تعريته للنفس وفضحها، أسلوب ما يمكن دعوته ببكاء الوجود والعدم. ويستمد هذا الأسلوب أصوله من بلوغ الحكمة بوصفها خروجا على العقل بمعاييره. بمعنى بلوغ حدس الذات الخالصة من شوائب العابر والغابر. إذ ما هو السر الذي يجعل، على سبيل المثال، آيات القرآن أكثر قربا إلى قلوب المريدين؟ وعبارات المسيح أكثر إثارة للروح والذاكرة؟ وإيماءات بوذا العملية اشد توهجا بالنسبة للخيال؟ إنها الوحدة الحية للكلمة والمعنى، وبالتالي حدس الذات الخالص من شوائب العابر! فكلما يرتقي المرء في مدارج المطلق، كلما يصبح الوجود حدثا عابرا أو وقفة في وجود الكون، أي لحظة في الأبد الزائل! وهي المفارقة التي يلتاع فيها الروح، ويسجد العقل أمام إشكالاتها. كما انه السبب الذي يجعل الصراخ والصمت مظاهرا من مظاهر بكاء الوجود والعدم. بمعنى إدراكه إنهما شيء واحد من حيث المبدأ والمعاد، وأن القوة الوحيدة القادرة على ربطهما بصورة متجانسة هي الإرادة الحرة بوصفها إخلاصا للحق والحقيقة. إذ عادة ما تضع هذه الإرادة القلب أمام مهمة تأمل نقص الوجود واقترابه من العدم. وفي مجراها يبدأ القلب بذرف دموع الحسرة والعبرة، ومن احتراقهما تتصاعد الغيرة المتوهجة بحرارة المساعي الفردية من اجل الخروج من مأزقها. بحيث قيل عنه أن أحدا لم ير الحسن البصري ضاحكا على مدار أربعين سنة! وأن “قلبه كان محزونا!”. وقد شخّصه مرة احد الرجال قائلا: “كنت إذا رأيته قاعدا، كأنه أسير قدم ليضرب عنقه! وإذا تكلم كأنه يعاين الآخرة فيخبر عن مشاهدتها! وإذا سكت كأن النار تسعر بين عينيه!”[37]. لهذا قال عنه بعضهم:”ما رأيت أحدا أطول حزنا من الحسن. وما رايته قط إلا حسبته حديث عهد بمصيبة”[38]. وقد التقط أبو نعيم الأصفهاني هذه الصورة ووضعها في فكرة جامعة مفادها، أن الحسن البصري “حليف الخوف، أليف الهمّ والشجن، عديم النوم والوسن”، “الفقيه الزاهد، المتشمر العابد”، الذي كان “لفضول الدنيا وزينتها نابذا، ولشهوة النفس ونخوتها واقذا”[39]. ومن كل هذه الصور الخلابة والجذابة لخيال العامة والخاصة استقطرت زيوت اللوحة العطرة التي رسمته على خلفية ما آل إليه مصير ابن سيرين. إذ تنقل لنا هذه الحكاية، كيف أن احد الأشخاص حزن حزنا شديد قاربه من الموت على موت أبن سيرين. وعندما رآه في المنام وهو في حالة جميلة من العيش، سأله عن حال الحسن البصري، فأجابه ابن سيرين:

  • قد رفع فوقي بتسعين درجة!
  • ومم ذاك؟
  • بطول حزنه![40]

ولا يعني “طول الحزن” هنا سوى شموله وكماله، بمعنى الحزن باسم الجميع وللجميع. ولا يمكن بلوغ هذه الحالة دون تحقيق الحزن في الشخصية. وهذا بدوره مستحيل وغير معقول دون شمولية الموقف النقدي من النفس الآخرين بمعايير المحبة والإخلاص فيها. فالحزن الشامل هو الوجه الآخر للمحبة الشاملة. وحالما يجري وضع هذه العلاقة بعبارة الفكرة الأخلاقية، فإنها تتخذ حينذاك صيغة العداء المستحكم بين الفضيلة والرذيلة. وحالما يجري نقلها إلى ميدان الحياة السياسية وصراعها، فإنها تتخذ صيغة العداء المتراكم بين الحق والباطل. وقد حقق الحسن البصري في موقفه من الحزن هذه المعادلة. من هنا قوله “أن المؤمن يصبح حزينا ويمسي حزينا ولا يسعه غير ذلك لأنه بين مخافتين، بين ذنب قد مضى لا يدري ما الله يصنع فيه، وبين اجل قد بقى لا يدري ما يصيب فيه من المهالك”[41]. بمعنى وقوفه دوما أمام شفرة الحياة والموت الحادة بوصفها الصيغة الجسدية والروحية لوحدة الوجود والعدم. وهي الشفرة التي تحلق الروح من بقايا ونوايا النفس، والجسد من بقايا ونوايا الرذيلة لتجعلهما متقلبين “باليقين في الحزن”، كما يقول الحسن البصري[42]. فالمرء كما يقول الحسن البصري يكفيه ما يكفي العنيزة من التمرة والشربة من الماء”[43]. وبالتالي “ما يسع المؤمن في دينه إلا الحزن”[44]. وهو استنتاج لا يحكمه شيئا غير منطق الرؤية التاريخية والأخلاقية. من هنا مقارناته المبنية على أساس مرجعية المصادر النظرية (القرآن) والعملية (تجارب الإسلاف)، كما في قوله “ما أصبح اليوم عبد يتلو هذا القرآن ويؤمن به إلا كثر حزنه وقل فرحه، وكثر بكاؤه وقل ضحكه، وكبر صبه وشغله وقت راحته وبطالته”[45]. وانه “لا يؤمن أحد بهذا القرآن، إلا حزن وذبل، وإلا نصب، وإلا ذاب، وإلا تعب”[46]. ولا يعني ذلك سوى وضعه حالة الأفراد والجماعات والأمة على محك النماذج المثلى للرؤية القرآنية عن الحق والفضيلة. وهو محك له نماذجه الفعلية في التاريخ. من هنا لا يعني الرجوع إليها تقليد بقدر ما يعني تأسيس وعي الذات التاريخي الأخلاقي. من هنا قوله “ما من الناس رجل أدرك القرن الأول، أصبح بين ظهرانيكم إلا أصبح مغموما وأمسى مغموما”[47]. بحيث جعلته هذه الحالة مرة يقول:”ذهبت المعارف وبقيت المناكر. ومن بقي من المسلمين فهو مهموم”[48]. لهذا نراه يجد في في الحزن أسلوب التنقية الذاتية للفرد من اجل الارتقاء به إلى مصاف المرجعية الروحية والعملية في مواجهة الجهل والمنكر. بحيث نسمعه يقول مرة: “كثرة الضحك تميت القلب”[49].

وليس هذا “الغلو” الظاهر في العبارة سوى الصيغة الأدبية التي تعكس غلو الروح الأخلاقي في مواجهة تداعيات الانحطاط المعنوي والسياسي للسلطة والأمة على السواء، أي خروجهما على مبادئ القرآن الكبرى في مواقفه من الفضيلة والرذيلة. من هنا استنتاجه الفكري والعملي القائل، بان “طول الحزن في الدنيا تلقيح العمل الصالح”[50]. انطلاقا من الحكمة القائلة، بأن العمل الصالح هو الشعاع الذي تسكبه مرآة القلب النقية على أزقة السلوك الضروري للمرء في مواجهة إشكاليات الوجود الخاص والعام. وهي إشكاليات محكومة هنا بفكرته عن الحياة والموت، والوجود والعدم. من هنا قوله:”يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وان الساعة موعده، وان القيام بين يدي الله مشهده، أن يطول حزنه”. بل جعل من هذه النتيجة استنباطا واستقراء للعقل في مواجهة الوحدة الأبدية للحياة والموت، كما في قوله:”ما رأيت عاقلا قط إلا أصبته من الموت حذرا وعليه حزنا”[51]. لهذا جاب مرة عندما عاتبوه في شدة حزنه قائلا:”ما يؤمنني أن يكون قد اطلع على في بعض ما يكره فمقتني! فقال: اذهب فلا غفرت لك! فانا اعمل في غير معمل”[52]. وقد استنطق هذه المعاناة الذاتية مرة بعبارة بليغة قال فيها:”لو أن بالقلوب حياة! لو أن بالقلوب صلاحا! لأبكيتكم من ليلة صبيحتها يوم القيامة!”[53].

إننا نقف هنا أمام عبارة لا تعني بمعاير المنطق العقلي المجرد أكثر من تحصيل حاصل. انطلاقا من أن القلوب الحية والصالحة ليست بحاجة إلى من يبكيها، لأنها مستعدة للبكاء بذاتها. غير أن الحدس القائم وراء هذه المطلب يقوم في طبيعة الإلهام الذي توحي به معاناة القلب الحي والصالح في استعداده للبكاء الأبدي. ويتضمن هذا الاستعداد في أعماقه فكرة النفي الدائم لإشكالية الوجود والعدم، التي تثيرها نفسية وذهنية الانقطاع المفتعل في الأفعال والمواقف الإنسانية بين الظاهر والباطن، والعلم والعمل، والروح والجسد، والأبد والآن الدائم. إذ لا يعني الاستعداد للبكاء حتى انقشاع غمامة العابر أمام محنة الخلود الأبدي، سوى وضع الإرادة أمام مهمة استكناه ذاتها بوصفها قيمة مستقلة والعمل بموجبها. وهي نتيجة مبنية في آراء الحسن البصري على أساس موقفه من وحدة الحياة والموت بوصفها الإشكالية الحسية والمعنوية لوحدة القدر الوجودي والقدرة الإنسانية الحرة. وهي علاقة تتصف بقدر هائل من الشك واليقين، التي لا يستطيع بعث التجانس في أوتارها شيء غير القلق المنبعث من دقات الوجود والعدم، أو الحياة والموت بوصفها دقات الوجدان المعقول بمعايير الإخلاص للحق والحقيقة. من هنا قول احدهم عنه، بان الحياة تصبح لا شيء بعد كل دخول على الحسن البصري وخروجا منه[54]. بمعنى رؤيتهم فيه تجسيد ما أسميته بدقات الوجدان المعقول في إخلاصه للحق والحقيقة. حينذاك تضمحل إشكالية الشك واليقين، ويتحول القلق إلى باعث التجانس في أوتار الأنغام الجميلة للقلوب والأعمال. ووضع الحسن البصري هذه النتيجة في كثرة كثيرة من العبارات البسيطة والمباشرة التي خاطب بها بني البشر مثل:”انك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك”[55]. وكذلك في مخاطبته الإنسان بعبارة يا ابن ادم، مثل “يا ابن ادم! إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك”[56].، أو عبارة “يا ابن آدم! إنما أنت مراحل، كلما مضى منك يوم أو ليلة قطعت مرحلة. فإذا فنيت المراحل بلغت المنزل. فالساعات تنقلنا والأيام تطوينا”[57]. والحصيلة هي ما صرخ بها الحسن البصري مرة عندما قال:”فضح الموت الدنيا! فلم يترك فيها لذي لب فرحا”[58].

وليس في أفكار الحسن البصري هذه امتهانا للحياة أو إساءة لما فيها من رونق الجمال والمعنى، كما لا تحتوي على أي قدر من الإيماء والإشارة لإضعاف اليقين بما فيها من قدرة واستعداد للكمال، بقدر ما انه أراد الكشف عن ابسط تجليات الحقيق الأبدي القائلة، بأن عمل الإنسان الحقيقي لا ينتهي إلا بالموت، كما وضعها في إحدى كلماته القائلة: “ما لعمل المؤمن انتهاء دون الموت”[59]. ولا علاقة لهذا التقرير بهذه البديهة التي تتماهى مع ثنائية الوجود والعدم، بقدر ما انه يتسلق عروق الإنسان النابضة لتنسيق سيلان دماءها مع دقات القلب الروحي. لكنه تنسيق يستحيل رفعه إلى مصاف البديهة الروحية ما لم ترتقي الإرادة الإنسانية إلى مصاف ما يمكن دعوته بوحي الوجود الحق. كما أنه وحي يستحيل إدراك كنهه والعمل بموجبه دون بلوغ حالة “الاستعداد للموت”. فهو الوحيد القادر على جعل الحياة تبرق ببريقها، بوصفها حلقات عابرة في إرادة الخير التام. من هنا مخاطبته الجمهور:”المبادرة! المبادرة! فإنما هي الأنفاس لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله. رحم الله امرؤ نظر إلى نفسه وبكى على عدد ذنوبه”[60]. وان يدعوهم قائلا:”تصبروا! وتشددوا! فإنما هي أيام قلائل! وإنما انتم ركب وقوف يوشك أن يدعى الرجل منكم فيجيب ولا يلتفت. فانتقلوا بصالح ما بحضرتكم”[61]. وذلك لأنه “لا راحة للمؤمن إلا في لقاء الله”. وبالتالي لا يعني الموت بهذه الحالة سوى يوم السرور والفرح والعزة والشرف[62]. وليس المقصود بذلك سوى أن الموت هو اللحظة التي تكشف حقيقة الوجود والعدم في المرء، أي ما إذا كان جسدا عابرا أو روحا أبديا. لهذا نراه مرة يجيب على سؤال:

  • يا أبا سعيد! ألا تغسل قميصك؟
  • الأمر أعجل من ذلك!

لقد جعل الحسن البصري من الاستعداد للموت شعار المعركة العلمية والعملية القاسية للرقي الروحي. وهو شعار بسيط وعميق بقدر واحد يقوم في أن الموت معقود بنواصي المرء وان الدنيا تطوى من وراءه[63]. وليس مصادفة أن يقولوا عنه بأن الحديث معه حالما تجلس إليه لا يتعدى غير النار وأمر الآخرة وذكر الموت[64]. وهو تهويل! لكنه يعكس في أعماقه حب الحياة بوصفها مقاساة كبرى واختبار دائم للشخصية الروحية. وهو موقف جسده الحسن البصري على امتداد حياته المديدة. بحيث نراه يقول لمن زاره قبيل موته:”مرحبا بكم وأهلا! حياكم الله بالسلام وأحلنا وإياكم دار المقام! هذه علانية حسنة، إن صبرتم وصدقتم وأيقنتم! فلا يكن حظكم من هذا الخبر رحمكم الله أن تسمعوه بهذه الأذن وتخرجوه من هذه الأذن، فان من رأى محمد فقد رآه غاديا ورائحا لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة. رحم الله عبدا جعل العيش عيشا واحد فأكل كسرة، ولبس خرقا، ولزق بالأرض، واجتهد في العبادة، وبكى على الخطيئة، وهرب من العقوبة، وابتغى رحمة الله حتى يأتيه اجله وهو على ذلك”[65]. وحقق هذا الموقف تجاه النفس أولا وقبل كل شيء. لكنه بقى في الوقت نفسه وفيا لتقاليد الأسلاف وتجارب الحقيقة. من هنا قوله، بأنه أدرك “قوما كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه، وما يبالون أشرقت الدنيا أم غربت”[66]. وأوصله هذا الإدراك إلى الفكرة القائلة، بأن الدنيا وديعة ينبغي تأديتها لمن ائتمنهم عليها[67]. انطلاقا من “إن الدنيا دار عمل. من صحبها بالنقص لها والزهادة فيها سعد بها ونفعته صحبتها، ومن صحبها على الرغبة فيها والمحبة لها شقي بها وأجحف”[68]. ووضع هذه المقدمة في مطالبته المرء قائلا:”من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره”[69]. لكنه تحدي ينبغي توجيهه صوب النفس من خلال العمل بالفكرة القائلة “اكدح لما خلقت له قبل أن تفرّق بك الأمور فيشق عليك اجتماعها”[70]. وبالتالي، فإذا “أصبحت فانتظر الموت! وإذا أمسيت فكن على ذلك”[71]. اذ “لا شيء أفضل من رفض الدنيا”[72]. من هنا تحديده للموقف الفردي والنهائي من الحياة والموت بمطلب ما اسماه بضرورة مصاحبة الدنيا بالجسد ومفارقتها بالقلب. ومن ثم الوقوف ضد التيار العارم للعوام، ألا وهو الزهد بها أكثر كلما أعجب بها أهلها[73]. بحيث نراه يقول في احد مواقفه الصارمة:”أهينوا الدنيا! فوالله ما هي لأحد باهنأ منها لمن أهانها”[74]. بينما نراه يختم موقفه هذا في حالة أخرى مخاطبا بنها الإنسان قائلا:”يا ابن ادم! طأ الأرض بقدمك! فإنها عن قليل قبرك”[75]. وهي المفارقة المتسامية للروح الحر في مواجهة إشكاليات الحياة والموت الكبرى، عندما تصبح الأرض ثرى وثريا الفعل الإنساني الحر. إذ تستمد هذه المطابقة مقوماتها من وحي التجربة الأخلاقية وتلقائية أحكامها العلمية والعملية.

إن سيادة الرؤية الأخلاقية ومنظومتها المتغلغلة في آراء الحسن البصري ومواقفه من كل شيء تعكس في مظاهرها انعدام أو ضعف الأخلاق السائدة، وفي باطنها تستجيب لاستلهام العقل الثقافي للأمة الصاعدة في مواجهة إمبراطورية الدولة المستبدة. فقد أدخل الحسن البصري هذه الصيغة الجديدة إلى عالم الثقافة العربية الإسلامية الناشئة. بمعنى رفعها إلى مصاف المنظومة الفكرية وتطوير مفاهيمها بصورة تلقائية تتمثل رحيق ما أسميته بتجارب القرن التأسيسي الأول للخلافة. ذلك يعني أن نقده للواقع لم يقف عند حدود الإدانة ومقارنته بما كان عليه الأسلاف وما ينبغي القيام به، بل عبر تأسيس البدائل في المواقف. بعبارة أخرى، انه اخذ في استلهام العقل الثقافي للأمة من خلال إخضاع تجاربها إلى امتحان حسي وعقلي، ومن ثم تذوقها الفردي الذاتي. بمعنى رفع رؤيته ومواقفه إلى مستوى الحدس الخالص من شوائب الأوهام والأهواء. ففي موقفه من القرآن على سبيل المثال نسمع يخاطب معاصريه قائل:”إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل وجعلتم الليل جملا. فانتم تكبونه فتقطعون به مراحله. وإن من كان قبلكم رأوه رسائل أتتهم من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار”[76]. ومنها استق موقفه القائل:”تفّقد الحلاوة في ثلاث، فإن وجدتها فابشر وامض لقصدك، وان لم تجدها فاعلم أن بابك مغلق: عند تلاوة القرآن، وعند الذكر، والسجود”[77].

ولم يعد الإسلام في مواقفه ما هو شائع من نطق اللسان ومستلزماته الظاهرية، بل وحدة ما دعاه الحسن البصري بالسر والعلانية، وإسلام القلب لله، وان يسلم منه كل مسلم وكل ذي عهد”[78]. بل انه وقف مرة بعد أن تلا الآية (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)، ثم قال:إن الله جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة”[79]. في حين نراه يحدد معالم المسلم من خلال منظومة عقلية واقعية وأخلاقية عملية متسامية، كما في قوله، بان “من علامات المسلم قوة في دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وعلم في حلم، وكيس في رفق، وإعطاء في حق، وقصد في غنى، وتجمل في فاقة، وإحسان في قدرة، وتحمل في رفاقة، وصبر في شدة. ولا يغلبه الغضب، ولا تجمح به الحمية، ولا تغلبه شهوة، ولا تفضحه بطنه، ولا يستخفه حرصه، ولا تقصر به نيته، فينصر المظلوم، ويرحم الضعيف. ولا يبخل ولا يبذر ولا يسرف ولا يقتر. يغفر إذا ظلم ويعفو عن الجاهل. نفسه منه في عناء، والناس منه في رخاء”[80].

كما لم يعد المؤمن ما هو متعارف عليه في الصيغ الإسلامية الظاهرية، بل يتعداه إلى الأبعاد السحيقة للموقف الأخلاقي والإنساني والرقي الروحي. من هنا قوله “ما المؤمن الذي يعمل الشهر والشهرين والسنة والسنتين. إنما المؤمن المداوم على أمر الله، الخائف من مكر الله. إنما الإيمان شدة في لين، وعزم في يقين، واجتهاد في صبر، وعلم في زهد”[81]. من هنا إجابته مرة على سؤال:

  • يا أبا سعيد ما الإيمان؟
  • الصبر والسماحة!
  • ما الصبر والسماحة؟
  • الصبر عن معصية الله، والسماحة بأداء فرائض الله”[82].

بل نراه “يغالي” للدرجة التي أجاب مرة على سؤال وجهوه إليه:

  • أمؤمن أنت؟
  • إن شاء الله!
  • لم تستثني يا أبا سعيد في الإيمان؟
  • أخاف أن أقول نعم فيقول الله “كذبت يا حسن! فتحق عليّ الكلمة”[83].

إننا نقف هنا أمام تحويل تجارب العقل النظري الإسلامي صوب امتحانها العملي الدائم. ومن خلال ذلك كان يجري توليف الأبعاد الجديد للتجربة الذاتية بوصفها تذوقا خالصا للمعاني ومحكوما بتحقيقها الفعلي المتجدد في الظاهر والباطن. وقد ميز هذا الأسلوب الجوهري الجديد جميع مواقف وآراء الحسن البصري من قضايا الكلام (اللاهوت) حتى ابسط مظاهر الحياة الاجتماعية. ففي موقفه، على سبيل المثال، من الدعاء بالأسماء الإلهية، نستطيع رؤية ما يمكن دعوته بتأسيس سلسلة التراكم الأخلاقي الروحي المثالي، الذي وجد نموذجه في النبي محمد. وهو دعاء، كما تقول بعض الروايات، خلصه من مكر الحجاج ومحاولاته القضاء عليه ست مرات[84]! وهو الدعاء التالي:”سبحانك لا اله إلا أنت، يا رب كل شيء ووارثه ورازقه وراحمه. يا اله الإلهة الرفيع الجلالة، يا الله المحمود في كل أفعاله، يا رحمن كل شيء وراحمه، يا حي، يا قيوم، يا واحد، يا دائم فلا فناء ولا زوال لمكله، يا صمد من غير تشبيه ولا شيء كمثله، يا بارئ فلا شيء كفؤه ولا مكان لوضعه، يا كبير، أنت الذي لا تهتدي القلوب لوصف عظمته، يا بارئ النفوس بلا مثال خلا من غيره، يا زاكي الطاهر من كل آفة، يا كافي الموسع لما خلق من عطايا فضله، يا نقيا من كل جور، يا حنان (وسعت رحمته كل شيء)، يا منان ذا الإحسان، يا ديان العباد كل يقوم خاضعا، يا خالق، يا رحيم، ويا تام، يا مبدع البدائع، يا علام الغيوب، يا حليم (فلا يعادله شيء من خلقه)، يا معيد ما أفناه،يا حميد الفعال، يا عزيز المنيع الغالب في أمره، يا قاهر، يا قريب المتعالي فوق كل شيء، يا مذل كل جبار، يا نور كل شيء، يا عالي الشامخ فوق كل شيء، يا قدوس الطاهر من كل سوء، يا مبدي البرايا ومعيدها، يا جليل، يا محمود، يا كريم، يا عظيم، يا عجيب فلا تنطق الألسنة بكنه آلائه، يا غياثي عند كل كربة، يا مجيبي عند كل دعوة”[85]. وهو دعاء يحتوي من حيث واقعيته ومكوناته وأسماءه الفعالة في الوعي الباطن صورة الله المتكاملة في محبتها للإنسان، ونفيها لجبروت الأموية الاستبدادي.

إن الوحدة المتكاملة لمحبة الإنسان وكراهة الاستبداد والخروج على منطق الحق والعدالة وجدت تعبيرها المتنوع في مواقفه الفكرية من مختلف القضايا الاجتماعية والأخلاقية، والاهم من ذلك تحقيقها العميق في تجاربه الشخصية. ففي موقفه، على سبيل المثال من “الغلو الفكري” نراه يواجهه بغلوّ الحقيق الرافضة، كما وضعه في عباراته القائلة:”محدثان احدثا في الإسلام، رجل ذو رأي سوء زعم أن الجنة لمن رأى مثل رأيه، ومترف يعبد الدنيا، لها يغضب، ولها يرضى، وإياها يطلب. فارفضوهما إلى النار!”[86]. ونعثر على نفس الموقف من خلال دفع الفكرة صوب الباطنية المتسامية. فعندما قيل له مرة:

  • لا نفاق اليوم!
  • لو هلك المنافقون لاستوحشتم في الطريق”[87].

وهي فكرة، شأن سابقتها تصب في مجرى نحت الحكمة العقلية والأخلاقية الساعية لتوحيد الأنا في مختلف مستويات وتجليات الظاهر والباطن. من هنا قوله في النفاق “إن من النفاق اختلاف اللسان والقلب، والسر والعلانية، والمدخل والمخرج”[88]. فقد جرّب هذه الأفكار وحققها على نفسه كما في قوله “والله لان أكون اعلم إني برئ من النفاق أحب إلي من قلاع الأرض ذهبا”[89]. وكذلك في موقفه من النفس عندما قال “لو أني اعلم إني برئ من النفاق كان أحب إلي مما طلعت عليه الشمس”[90]. وليس مصادفة أن يقول مرة عندما حكوا عن حالة رجل خرج من النار بعد ألف سنة، فبكى وقال “يا ليتني كنت مثل ذلك الرجل”[91]. بمعنى انه وضع إشكالية الأبد، بما في ذلك أوهامها “الجليلة” ضمن سياق معاناته الأخلاقية بوصفه أسلوب التنقية الدائمة للانا. انطلاقا من أن طريق التنقية والتطهير هو طريق الامتحان الأبدي للانا في محاولاتها بلوغ حقيقة اليقين. وهو المعنى الذي يمكن تلمسه في قوله “لو لم يذنب المؤمن لكان يطير طيرا، ولكن الله قمعه بالذنوب”[92].

غير أن الإرادة الحرة للإنسان تضعه على الدوام أمام مهمة إدراك الحد القاطع بين الفضيلة والرذيلة، بوصفه الحد الفاصل بين عالمين واتجاهين. إذ بين الإنسان وربه، كما يقول الحسن، “حد من المعاصي معلوما، إذا بلغه العبد طبع على قلبه فلم يوفق بعدها للخير”[93]. وهو الحد الذي لا يعني من الناحية الفعلية سوى عيون الرقابة الأخلاقية الذاتية التي تحاسب النفس والجوارح على كل ما يخالج اعم أعماقها من نية وأفعال. وهي الحالة التي تصورها النادرة المروية عنه، وكيف انه دخل مسجدا ليصلي فيه المغرب، فوجد إمامهم حبيبا العجمي. فلم يصل خلفه لأنه خاف أن يلحن لعجمية في لسانه. فرأى في منام تلك الليلة قائلا يقول له:”لم لم تصل خلفه؟ لو صليت خلفه لغفر الله لك ما تقدم من ذنبك!”. وهي نادرة تكشف أولا وقبل كل شيء عن فاعلية النقد الأخلاقي الذاتي والمحاسبة غير الواعية بوصفها الحالة المستبطنة لوعيه العقلي الأخلاقي. من هنا رده في إحدى المرات على احد الأشخاص الذين أراد الاعتذار منه بسبب سوء تصرفه، قائلا: “لا تعتذر إليّ، وتب إلى ربك”[94]. لقد أراد الحسن البصري هنا دفع الاعتذار الظاهر صوب التربية الباطنية للإرادة والأخلاق استنادا إلى مقوماتها الذاتية. وذلك لان الاعتذار الظاهر مهما كان شكله ومحتواه ومحدداته لا يمكنه تحرير النفس بصورة حقيقية. وذلك لما في الاعتذار الخارجي من وسوسة فاعلة بالنسبة لخلاص النفس وتحريرها من مسؤولية الموقف الباطني. وهو الفكرة التي جعلت مواقف الحسن البصري تتصف بقدر متجانس من الرؤية الأخلاقية الإنسانية، كما نراها على سبيل المثال في الحوار المقتضب الذي جري بينه وبين معاوية بن قرة. فقد سأله هذا مرة قائلا:

  • أعود مريضا أحب إليك أو اجلس إلى قاص؟
  • عد مريضك!
  • أشيع جنازة أحب إليك أو اجلس إلى قاص؟
  • شيع جنازتك!
  • وان استعان بي رجل في حاجة أعينه أو اجلس إلى قاص؟
  • اذهب في حاجتك![95]

وتكشف هذه المحاورة بصورة نموذجية مبدأ الحسن البصري في تحدي إشكاليات الحياة بوصفه أسلوبا لبلوغ حقيقة اليقين الأخلاقي. فالسؤال شك، واليقين فعل عندما يتعلق الأمر بامتحان الإرادة واختبارها. من هنا جوهرية العمل في منظومته الفكرية والأخلاقية، كما في قوله “فضل الفعال على المقال مكرمة، وفضل المقال على الفعال منقصة”[96]. وطالب الإنسان بالعمل الدائم باعتباره سر “القرب من الله” وبلوغ الكمال الروحي، كما نراه على سبيل المثال في مطالبته الإنسان قائلا:”يا ابن ادم عملك عملك، فإنما هو لحمك ودمك! فانظر على أي حال تلقي عملك. إن لأهل التقوى علامات يعرفون بها – صدق الحديث، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وقلة الفخر والخيلاء، وبذل المعروف، وقلة المباهاة للناس، وحسن الخلق، وسعة الصدر مما يقرب إلى الله”[97].

ذلك يعني انه ربط الفضيلة ببلوغ الكمال الروحي. وهو كمال لا طريق إليه غير العمل، بحيث نراه يجعل من العمل ميزان الكينونة الأخلاقية للإنسان، كما في قوله:”لا تحقرن من الخير شيئا وان هو صغر، ولا تحقرن من الشر شيئا”[98]. ومن هنا أيضا احتقاره للغو الفارغ، أو تحويل الكلام إلى بديل للعمل. إذ تروى عنه الحكاية التالية: دخل الحسن البصري المسجد ومعه فرقد. فقصدوا إلى جنب حلقة يتكلمون. فنصت لحديثهم عندها قال لفرقد:”ما هؤلاء إلا قوم ملوّا العبادة ووجدوا الكلام أهون عليهم، وقلّ ورعهم فتكلموا”[99]. وليس المقصود بذلك نبذ الكلام أو التقليل من أهميته وقيمته، بقدر ما يشير إلى أولوية وجوهرية العمل بالفكرة بوصفها تفكرا باطنيا عقليا أخلاقيا، وأسلوبا للرقي الروحي والحكمة.

غير أن بلوغ الحكمة والرقي الروحي بالنسبة للحسن البصري ليست نهاية أو غاية بقدر ما هو أسلوب التنقية التي لا تنتهي إلا بانتهاء الحياة. الأمر الذي يجعل حتى من تلقائية الأفعال معاناة حادة لما فيها من اختبار عملي دائم للإرادة وامتحان أخلاقي لها. ويمكن توضيح هذه الفكرة على مثال مواقفه الفكرية والشخصية من الثروة. فقد كان يفسر مضمون الآية (وما يستوي الأحياء والأموات) بعبارة “الفقراء والأغنياء. الفقراء حيوا بذكر الله والأغنياء ماتوا على الدنيا”[100]. من هنا قوله:”بأس الرفيقان الدرهم والدينار. لا ينفعانك حتى يفارقانك”[101]. ومن هنا أيضا استنتاجه:”ما اعزّ احد الدرهم إلا أذله الله”[102]. لكنها حكمة مبنية ليس فقط على ملاحظة مختلف مظاهر الحياة العامة والخاصة للأفراد والجماعات والأمم، وبل وعلى أساس نفيها العملي في حكمة الإسلاف الكبار، الذين كانت حياتهم نفيا تماما وشاملا لعبودية المال. بينما حقيقة الثروة تقوم في بلوغ السعادة المحكومة بقيم العدل والعدالة والإخلاص الباطني. فعندما يقيم تجارب الإسلاف نراه يستشهد بممارساتهم بهذا الصدد قائلا:”لقد أدركت أقواما ما طوى لأحدهم في بيته ثوب قط، ولا أمر في أهله بصنعة طعام قط، وما جعل بينه وبين الأرض شيا قط”[103]. وعندما يتعلق الأمر به، فانه لا يشذ عن هذه القاعدة بما في ذلك ما يمكنه أن يكون أمرا عاديا وطبيعيا. فقد خطب رجل ابنته فوافق في البداية. وعندما أرادوا تزيين حال الخاطب تكلموا عن ثروته وانه يملك خمسين ألف درهم، عندها رفض تزويجه إياها قائلا:

  • له خمسون ألف! ما اجتمعت من حلال!
  • يا أبا سعيد انه ورع مسلم.
  • إن كان جمعها من حلال، فقد ضنّ بها عن الحق. لا والله لا جرى بيننا وبينه صهرا أبدا”[104].

وعندما ردّ في إحدى المرات مال من أعطاه، ومعاتبة البعض إياه، من انه يأخذ من مالك بن دينار، أجابهم:”أن مالكا وبن واسع (محمد بن واسع) ينظران إلى الله فيما نأخذ منهما، فعلينا أن نقبل. وان هذا المسكين ينظر إلينا فيما يعطي فرددنا عليه صلته”. ويجّسد هذا الموقف ما يمكن وصفه بسحب رحيق الإرادة الحرة من التخثر في دماء الغريزة وتبخيرها في سماء المطلق. فللمطلق عوالمه وطبقاته، وفي كل منها اختيار للإرادة واختبار. وهو طريق الحسن البصري، أي الطريق الذي يجعل من بلوغ الحكمة مهمة أبدية في التاريخ والروح على السواء.

مما سبق يتضح، بان تحويل تجارب العقل النظري الإسلامي صوب امتحانها العملي الدائم، يستحيل تحقيقه دون توليف الأبعاد الجديدة للتجربة الذاتية بوصفها تذوقا خالصا للمعاني ومحكوما بتحقيقها الفعلي المتجدد في الظاهر والباطن. وهو الأسلوب الجوهري الجديد الذي ادخله الحسن البصري إلى عالم الثقافة الإسلامية، بحيث جعل منه في نفس الوقت احد مصادر الفكرة الأخلاقية المتسامية وفلسفة المطلق. بمعنى انه أول من أرسى أسس فلسفة الروح الأخلاقي المتسامي، من خلال تحويل الجدل المدرسي والعقائدي من عالم الأفكار المتضادة وتهذيب أدواتها المنطقية إلى عالم الروح الأخلاقي. ففي موقفه من إشكالية القضاء والقدر كما ينقل لنا أبو طالب المكي، نرى الحسن البصري يردّ على عمرو بن عبيد الذي كان يقول “إن الله لا يقضي بالشيء ثم يعذب عليه” بعبارة:”ويلك! إن الله لا يعذب على جريان حكمه وإنما يعذب على مخالفة أمره”[105]. وقد تميز “جدله” الفكري بهذه الخصلة عندما جعل البحث عن الحقيقة وتحقيقه الذاتي أسلوب المعرفة الصادقة. بمعنى المزاوجة الدائمة بين الخطأ والخطيئة وبين الصدق والصادق (الصحيح). من هنا تحول المفاهيم إلى جزء من تطهير وتنوير الحس والعقل والحدي، والروح والجسد، والقلب واللسان، أي كل ما يكون كينونة الإنسان وما تتفرد به في علمها وعملها. لهذا نراه يؤكد على بلوغ الجنة وتجنب النار مرتبط بتحقق الإنسان بصفات أربع هي “أن يملك نفسه عند الرغبة، وعند الرهبة، وعند الشهوة، وعند الغضب”[106]. كما جعل من الصبر أسلوب البصيرة، من هنا قوله:”رحم الله امرؤ عرف ثم صبر، ثم أبصر فصبر. فان أقواما عرفوا فانتزع الجزع أبصارهم. فلا هم أدركوا ما طلبوا ولا هم رجعوا إلى ما تركوا”[107]. بينما أجاب مرة على مكن قال له:

  • كيف نصنع بأقوام يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟
  • لئن تصحب أقواما يخوفنك حتى يدركك الأمن، خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى يلحقك الخوف”[108].

بمعنى تأسيسه لفكرة الخوف بوصفها أسلوبا لتحقيق الحق. وهي عين الشجاعة والبطولة. إذ لا علاقة لها بفزع الجسد واهتزاز الغريزة. من هنا قوله “المؤمن اشد الناس عملا، واشد الناس خوفا”[109]. وان حقيقة الخوف تقوم في قدرته على تهذيب وتنقية النفس وليس إفزاع الروح وتهوين الإرادة.

بعبارة أخرى، أن فكرة الخوف هي فكرة أخلاقية، بوصفها المصدر الروحي لقوة الإرادة والشكيمة. ومن ثم هي الصيغة الأخلاقية لتذليل خوف الجسد والغريزة، عبر الارتقاء بها إلى مصاف المحاسبة الذاتية ورقابة النية والغاية. كما أن مهمة الخوف ليست تخويف العقل والروح لأنهما لا يخافان، بل في إثارة الهموم الباطنية. انطلاقا من أن العقل الحقيقي والروح المتسامي مهموم على الدوام. من هنا فكرة لحسن البصري:”إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همه”[110]. وبما انه لا هم بلا قلب، من هنا فان قدر الهموم على قدر القلوب، تمام كما أن قدر القلوب على قدر همومها. وذلك لأنهما من أصل واحد. ووضع الحسن البصري هذه الحصيلة في مطلبه القائل:”حادثوا هذه القلوب، فإنها سريعة الدثور! واقرعوا النفوس فإنها خليعة! وأنكم إن أطعتموها تنزل بكم إلى شر غاية”[111]. ويرتقي هذا المطلب إلى مصاف الحكمة التي قالها بهذا الصدد:”لا تخالفوا الله عن أمره! فان خلافا عن أمره عمران دار قضى الله عليها بالخراب”[112]. ذلك يعني، أن الانحراف عن حقيقة الروح الأخلاقي ومساعيه الحثيثة صوب الكمال هو هدم دائم لكل بناء مهما كان مظهره ومحتواه وقوته وجماله الظاهري. ذلك يعني أن الحقيقة والثبات والدوام للروح المتسامي. وما عداه تراب وسراب. ولم يقصد الحسن البصري بذلك وضع مكونات العمران الظاهر بالضد من الباطن، ولا الباطن بالضد من الظاهر بقد ما انه أراد تأسيسهما المتجانس من خلال إرساء أولوية وجوهرية الروح العلمي والعملي، بوصفها إحدى الصيغ النموذجية لما أسميته بالعقل الثقافي (الإسلامي). وقد تمثل هذا العقل تاريخ الأمة وتجاربها المتنوعة في بلوغ الحق والحقيقة.

غير أن خصوصية الحسن بهذا الصدد تقوم في انه أول من حاول دفع العقل صوب الحكمة والعمل بموجبها. وهي المقدمة الضرورية للارتقاء إلى عوالم المطلق وتجاربه المتنوعة، أي بلوغ حالة نفي العقل بالعقل نفسه. وقد التقط أبو طالب المكي هذه الفكرة عندما علّق على فكرة الحسن البصري من التوكل في قوله:”التوكل هو الرضا”[113]. واستكمالها في احد المواقف العملية عندما قال:”وددت أن أهل البصرة في عيال وان حبة بدينار”، بوصفها الصيغة الأرقى والأكثر كمالا في التوكل. وذلك لأنها فكرة ومواقف يحتويان على الرضا بالإحكام كيفما جرت[114]. وليس المقصود بذلك سوى خمول الغريزة والبقاء في عوالم نفيها العقلي والأخلاقي. وهو أمر جلي حتى حالما يجري الاكتفاء باستعراض بعض مفاهيمه ومواقفه دون تحليل وحدتها الداخلية ومضمون ووظيفة كل جزء فيها. فالمؤمن “لا يأكل في كل بطنه، ولا تزال وصيته تحت جنبه”[115]. وأن “المؤمن وقاف متأن، وليس كحاطب ليل”[116]. من هنا تفسيره الآية (ولا اقسم بالنفس اللوامة) بعبارة: “لا يلقي المؤمن إلا يعاتب نفسه قائلا لها “ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ بينما الفاجر يمضي قدما ولا يعاتب نفسه”[117]. أما الزاهد فهو “الذي إذا رأى أحدا قال:هذا من فضل ربي!”[118]. لهذا وجد في عيسى إنسانا “يلبس الشعر، ويأكل من الشجر، ويبيت حيث أمسى”[119]. في حين نراه ينظر إلى التوبة، باعتبارها “ندم القلب، واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود إليه”[120]. وسوف تضع المتصوفة هذه المقدمة لاحقا في بداية الطريق صوب المطلق وبلوغ الحكمة. فقد أسس الحسن البصري لها في فكرته القائلة:”إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر، وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت بالحكمة”[121]. من هنا فان “من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو. ومن لم يكن سكوته تفكرا فهو سهو. ومن لم يكن نظره اعتبارا فهو لهو”[122]. وهي الذروة الضرورية الأولى للانطلاق صوب التكامل الذاتي للإرادة. بمعنى السير الدائم تحت مجهر المراقبة الذاتية والعمل بموجبها بوصفه طريق التنقية الحقيقة للظاهر والباطن في جميع مستوياتهما وأشكالهما.

لقد وضع الحسن البصر هنا أسس ما يمكن دعوته بالتجربة الفردانية الحية في مواجهة إشكاليات النفس وعرضها أمام المنظومة المتراكمة لوعي الذات من اجل بلوغ الحكمة. وليس هناك من معيار حقيقي لها غير وحدة العلم والعمل. من هنا قوله “اعلموا ما شئتم أن تعلموا! فوالله لا يؤجركم الله عليه حتى تعملوا. فان السفهاء همتهم الرواية، وان العلماء همتهم الرعاية”[123]. من هنا مطلبه القائل:”عظ الناس بنعليك ولا تعظهم بعلمك”[124]. من هنا وصفه لأشياخه قائلا: “كان احدهم يعرض عليه المال الحلال قائلين له “خذه استغني به!”. لكن احدهم كان يرد قائلا:لا حاجة لي فيه! أخاف أن يفسد على قلبي”[125].

إن جوهرية القلب في منظومة الحسن البصري ليست إلا الصيغة الأدبية لجوهرية الإرادة. إذ لا يعني هنا الحفاظ على نقاء القلب سوى الاحتفاظ بسرّ الإرادة وقوتها الذاتية. أما بلوغها، فانه يضع المرء بالضرورة أمام تحديات لا تنتهي. بما فيها تحدي السلطة المستبدة أيا كان شكلها ومحتواها ومظاهرها. بل يمكننا القول، بان التحقيق الأمثل لهذا التحدي يقوم في الموقف من السلطة المغتربة عن منطق الإرادة المتسامية. وهي سلطة لها مظاهرها المتنوعة والكثيرة من سلطة الدولة حتى سلطة النص مرورا بالتقاليد والأعراف والقيم. الأمر الذي يجعل لهذا المنطق قواعده ومساره الخاص في تاريخ العقل والروح والدولة والأمة، مهمته بلوغ الحقيقة والحكمة، وبالتالي مواجهة وتحدي الاغتراب الفعلي والمحتمل في التاريخ.

ولعل نموذجية الحسن الكبرى بهذا الصدد تقوم في توليفه الأولى لمنظومة المواجهة الروحية لحالة الاغتراب التي رافقت انتقال الدولة من تاريخ الدولة الإمبراطورية الشرعية إلى زمن السلطة الإمبراطورية للاستبداد الأموي. ولعل المواجهة الكبرى الأولى بهذا الصدد، يمكن العثور عليها في رسالته الشهيرة التي رد بها على رسالة عبد الملك بن مروان (ت – 85) والمتعلقة باستفساره عما إذا كان الحسن البصري يقول بالقدر، وعما إذا كان ذلك يتوافق مع الإسلام أم لا. وقد كانت ردوده ضمن سياق المواجهة والتحدي الأخلاقي للجبرية السياسية الكامنة في الأموية و”غيرتها” على فكرة “المشيئة والإرادة الإلهية” من خلال تأسيس ثلاثة مبادئ كبرى بهذا الصدد، وهي أن مهمة رجل الفكر والسياسة تقوم في أن يكون حجيجه الله لا الهوى (أي الحق والحقيقة لا المصالح العابرة)،  وأن حقيقة إرادة الإنسان تقوم في إتباع الحق، وأن حقيقة قضاء الله وقدره هو أمره بالمعروف والعدل والإحسان. ولا علاقة لهذه المبادئ بجدل الأفكار المحترف والمتبلور في دهاليز السلطة ومساجدها الخاوية من بصيص الحكمة وعطور القلوب النقية. من هنا تحويل “الجدل” صوب الالتزام بفكرة الحق والحقيقة والعمل بموجتها.

فقد ميز هذا الأسلوب مواقفه وأفكاره من السلطة. بحيث يمكننا ملاحظته في جميع مواقفه من الأمة وفرقها ومدارسها، ومن السلطة واختلاف سياستها. من هنا لا نعثر على خلاف في موقفه من السلطة في مجرى رده على استفسار عبد الملك بن مروان، ولاحقا على رسالة عمر بن عبد العزيز، التي طالبه فيها مساهمته في إعادة بناء الدولة أو توجه السلطة[126]. ويعكس هذا الرد ليس فقط موقفه من السلطة بل والمنظومة الأخلاقية الدفينة لآرائه السياسية. ويمكن اختصار أهم أفكار هذه الرسالة الطويلة بخمس عشرة قاعدة، وهي: أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به. وان الندم على الشر يدعو إلى تركه. وانه ليس ما يفنى وإن كان كثير، يعدل ما يبقى وإن كان طلبه عزيزا. لهذا من الضروري الحذر من هذه الدنيا الصارعة الخادعة القاتلة التي تزينت بخدعها. وذلك لان من عشق شيئا لم يعقل غيره. من هنا ضرورة وضع همومها جانبا لما يعاينه المرء من فجائعها. وذلك لان كل ما فيها هو حلقات مترابطة يمتزج فيها الرخاء بالبلاء، والبناء مصيره الفناء، والسرور مشوب بالحزن، وآخرها الضعف والوهن. لهذا يطالبه بالنظر إليها نظر الزاهد المفارق لا العاشق الوامق، والحذر منها، لان أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وعيشها نكد، وصفوها كدر. فهي إما نعمة زائلة، وإما بلية نازلة، وإما مصيبة موجعة، وإما منية قاضية. من هنا ضرورة تأمل الحقيقة القائمة في موقف الأنبياء والأولياء منها استنادا إلى أن رفض الجاه بالنسبة للأنبياء وأحباء الله هو اختبار ولغيرهم اعتبار واغترار. وذلك لان الإنسان يستطيع الحصول من الدنيا على ما يريده منها من غير طلب لأنها إلى جانبه، لكن الأمر يختلف حالما يأخذ منها. حينذاك تلزمه حقوق الله فيه. لهذا لا ينبغي للعاقل أن يأخذ منها إلا قدر قوته وما يكفي. فالدنيا إذا فكر فيها المرء ثلاث أيام: يوم مضى لا يرجوه، ويوم هو فيه ينبغي عليه أن تغتنمه، ويوم يأتي لا يدري فيما إذ هو من أهله أم لا. فالأمس حكيم مؤدب، واليوم صديق مودع، ولا شيء للغد غير الأمل. من هنا ضرورة اخذ الثقة بالعمل وترك المغرور بالأقل قبل حلول الأجل. وبالتالي لا معنى لان يدخل المرء على اليوم همّ غد أو همّ ما بعده. فالذي يبقى من العمر لا ثمن له ولا عدل. فلو جمع الإنسان الدنيا كلها ما عدلت يما بقي من عمر صاحبه. لهذا لا قيمة لبيع اليوم ومعادلته بشيء من الدنيا بغير ثمنه. من هنا ضرورة انتقاد اليوم للنفس، وأبصار الساعة، وفهم الكلمة، والحذر من الحسرة عند نزول السكرة[127].

إننا نقف هنا أمام فكرة تأسيس مهمة المثقف الكبير في الوقوف عند حكمته الشخصية في الموقف من السلطة، ومن ثم المحافظة على المسافة الضرورية بينه وبينها أيا كان شكلها ومحتواها وأشخاصها. انطلاقا من أن مهمة المثقف الكبير تقوم في تجسيد حقائق المرجعيات الثقافية للأمة، أو حقائق الروح الأبدي من خلال الخروج على الجسد والعيش بلا أوهام، أي العيش والعمل والتفكر بمعايير وقيم الخيال المبدع. بمعنى بلوغ الحكمة بوصفها خروجا على العقل بمعاييره. عندها يتحول العقل إلى حكمة عبر استحكام منطق الحدس المتسامي فيه وليس قواعد المنطق. فهو الأسلوب الوحيد القادر على تجاوز وتذليل شرطية الوجود وضعف القيم و”منظومة” الرذيلة الشرسة، التي تلفّ بخيوطها رعونة الطفولة الدائمة للعقول والضمائر الخربة. ووضع هذه الحصيلة في أساس فلسفته من المثقف (أهل العلم) ومهمته العامة والخاصة بشكل عام وموقفه من السلطة بشكل خاص.

وليس مصادفة أن يكون موقفه من الفقهاء يتسم بقدر هائل من النقد والاعتراض. فعندما قالوا أمامه مرة “إن الفقهاء يقولون كذا وكذا، فأجابهم “وهل رأيت فقيها بعينيك؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، البصير بدينه، المداوم لرعاية الله”[128]. وعندما قال له احد المرات فرقد السبخي:

  • يا أبا سعيد! إن الفقهاء يخالفوك!
  • ثكلتك أمك يا فريقد! وهل رأيت بعينيك فقهاء. إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع، الكاف عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم”[129].

من هنا يتضح بان حقيقة الفقيه(أو المثقف) تقوم ليس في امتلاكه المعارف، بل في تمثلها بمعايير الروح المتسامي، أي الشخصية التي تتوحد فيها المعرفة بالعقل، وكليهما بالأخلاق. ومنهما تتكامل كينونته الفعلية. وهي العملية الوحيدة القادرة على صنع فقيه الروح وليس الجسد. وفي هذا يكمن سرّ انتقاده اللاذع والعميق للمثقف الأجير. إذ ينقل عن الحسن البصري كيف انه خرج إحدى المرات من بيت الأمير عمر بن هبيرة، فإذا هو بالقراء على الباب. عندها قال لهم:”ما يجلسكم ها هنا؟ تريدون الدخول على هؤلاء الخبثاء؟ أما والله ما مجالستهم بمجالسة الأبرار! تفرقوا! فرّق الله بين أرواحكم وأجسادكم! لقد لقحتم نعالكم وشمرتم ثيابكم، وجززتم شعوركم! فضحكم القراء فضحكم الله! أما والله لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم. لكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم. ابعد الله من ابعد”[130]. لقد أراد الحسن البصري القول، بان المثقف الأجير هو ذيل ذليل للسلطة، بينما المثقف الحقيقي هو من تتراكض وراء السلطة وأعوانها. وأسس الحسن البصري لهذه الفكرة العظيمة من خلال تحديد ما يمكن دعوته بمهمة الابتعاد عن السلطة أو وضع مسافة بينه وبينها بالشكل الذي تحفظ له صفاء القلب و”نقاء السريرة. ولهذا السبب وجد في فقهاء السلطة كيانات لا قيمة لها. ووضعها مرة في عبارة بليغة تقول عنهم:”أرى رجالا ولا أرى عقولا، اسمع أصوات ولا أرى أنيسا، أخصب ألسنة واجدب قلوبا”[131]. بينما البديل الفعلي يقوم في امتلاك المثقف أو تملكه خصلتان العدل والحرية. ووضع ذلك في صيغة نقدية تقول:”خصلتان إذا صلحتا صلح ما سواها- الركون إلى الظلمة، والطغيان في النعمة”[132]. وليس مصادفة أن يقولوا عنه:”لو رأيت الحسن البصري لقلت انك لم تجالس فقيها قط”[133].

لقد حقق البصري في ذاته فكرة وأنموذج المثقف المثالي. لكنه تحقيق مبني على أساس تمثل تراث الحقيقة وتجارب الإسلاف العظام والتاريخ الفعلي للأمة والدولة. لهذا نراه يجيب مرة عن سؤال متعلق بصفات الصحابة، بكلمات:”ظهرت منهم علامات الخير في السيماء بالهدى والصدق، وخشونة ملابسهم بالاقتصاد، وممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق، وخضوعهم بالطاعة لربهم، واستفادتهم للحق فيما أحبوا وكرهوا، وإعطاؤهم الحق من أنفسهم. ظمئت هواجرهم، ونحلت أجسامهم، واستخفوا بسخط المخلوقين برضا الخالق. لم يفرطوا في غضب، ولم يحيفوا في جور، ولم يجاوزا حكم الله في القرآن. شغلوا الألسن بالذكر، وبذلوا دماءهم حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم، ولم يمنعهم خوفهم في المخلوقين. حسنت أخلاقهم وهانت مؤنتهم وكفاهم اليسير في دنياهم الى آخرتهم”[134]. وهي صورة نموذجية لما ينبغي أن تكون عليه شخصية المثقف الإسلامي. لكنها في الوقت نفسه هي صورة مركبة عن نماذجها المتنوعة فيما كان يمارسه هو بوصفه تحقيقا فرديا للمثقف الأصيل. بحيث نراه يصل في نهاية المطاف الى أن المثقف الكبير “مجنون” بمقاييس الظاهر والعابر والجزئي. وذلك لصعوبة إدراجه في قوالب الرؤية العادية، واستحالته أمام معايير العوام وأنصاف المتعلمين أو ما أطلقت عليه المتصوفة لاحقا اسم علماء الرسوم. فقد قال الحسن البصري في معرض تحديده للمثقف الأصيل ما يلي:”إن لله عبادا كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين. قلوبهم محزونة، حوائجهم خفيفة وأنفسهم عفيفة. أما الليل فمصانة أقدامهم. تسيل دموعهم على خدودهم، وأما النهار فحكماء وعلماء بررة، أتقياء كأنهم القداح! ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض، أو خولطوا. ولقد خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم”[135].

لقد جسّد الحسن البصري في ذاته وأنموذجه التاريخي في الموقف من السلطة شخصية المرحلة الانتقالية الكبرى، أي الشخصية الكبيرة للانتقال الكبير. من هنا كان مقبولا للجميع، تماما بالقدر الذي كنّ الجميع له أقدارا مختلفة من النقد الظاهر والباطن. فقد كان يكمن المصدر الدرامي لهذه الحالة في أنها كانت تتماشى وتعكس عملية انتقال كبرى تميزت بالخيانة والغدر مما جعل من أي احتمال عقلاني في تأسيس مطالبها السياسية أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا. من هنا صعود النفسية اللاعقلانية في غرس فكرة الجبر أي إجبار المجتمع والمثقفين بالأخص على قبول الخضوع للسلطة. إذ لم يكن مضمون الفكرة الجبرية الأموية فلسفيا أو حتى لاهوتيا، بل سياسيا خالصا واستبداديا تاما. فقد كانت السلطة الأموية تفزع من الكلمة والشخصية والسلاح. لأنها جاءت الى السلطة بفعل سلاح الغدر وغريزة الجسد وأهواء النفس الغضبية. وليس مصادفة أن نراه يجيب في احد ردوده على رسالة عمر بن عبد العزيز الذي أراد استشارته للعثور على رجال يستعين بهم، قائلا:”أما أهل الدين فلن يريدوك! وأما أهل الدنيا فلن تريدهم! عليك بالأشراف، فإنهم يصونون شرفهم أن يدنسوه بالخيانة”[136]. ولا تخلو هذه الرؤية من سذاجة لكنها تستجيب لفكرة الشريف بالمعنى الذي تتحمله وتحمله الكلمة. وهو تحمل احتمله الحسن البصري على امتداد حياته في مواجهة السلطة الأموية.

إذ تنقل لنا كتب التاريخ عن علاقته المتوترة بولاة الأموية بشكل عام وبالحجاج بشكل خاص. ففي إحدى المرات التي جمع الحجاج الثقفي مجموعة من فقهاء وقراء البصرة والمدينة في يوم صيف شديد الحر (في مدينة البصرة). وعندما اخذ الحجاج بالحديث تناول أيضا شخصية الإمام علي بن أبي طالب بالسب والشتيمة. وأيده الجميع باستثناء الحسن البصري. فقد ظل ساكتا. وعندما قال له الحجاج:

  • يا أبا سعيد مالي أراك ساكتا؟
  • ما عسا أن أقول؟
  • أخبرني برأيك في أبي تراب؟
  • أفي علي؟ سمعت الله يقول (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله). فعلي ممن هدى الله، ومن أهل الإيمان. انه ابن عم رسول الله وخنته على ابنته، وأحب الناس إليه، وصاحب سوابق مباركات سبقت له من الله. لا تستطيع أنت ولا احد من الناس أن يحصرها عنه ولا يحول بينهم وبينه. ونقول انه إن كانت لعلي ذنوب فالله حسيبه”[137].

وقد أثار هذا الرد غضب الحجاج وغيّر من معالم وجهه! بينما نراه في حالة أخرى يهدده بالقتل بعد أن سمع عنه عبارات مثل:”الخلفاء والسلاطين يغزون بثياب جميلة وفرسان قوية وعباد الله طاوين جوعا وحفاة مشاة”[138]، وان “من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يعصي الله في أرضه. والظالم والفاسق ينبغي أن يذم ليغتم ولا يمدح ليفرح”[139]. إذ وجد فيها الحجاج تحريضا ضد السلطة وطالبه بكف لسانه. وبسببها نرى الحجاج يبعث عليه ويسأله حال دخوله:

  • أنت الذي تقول “قاتلهم الله! قتلوا عباد الله على الدينار والدرهم”؟
  • نعم!
  • ما حملك على هذا؟
  • ما اخذ الله على العلماء من المواثيق.
  • يا حسن! امسك عليك لسانك! وإياك أن يبلغني عنك ما اكره، فأفرّق بين رأسك وجسدك[140].

وليس مصادفة أن يسجد الحسن البصري ويقول بعد أن اخبروه بموت الحجاج:”اللهم عقيرتك! أنت قتلته! فاقطع سنّته وأرحنا من أعماله الخبيثة”[141]. بل نراه يتوج موقفه هذا “بفتوى” هي الأطرف والأشد إخلاصا في مواقفه المعارضة للحجا والأموية، عندما أجاب رجلا حلف بالطلاق قائلا “إن الحجاج في النار”. فلما جاء الى امرأته، فإنها امتنعت عن العيش معه. وعندما ذهب للحسن البصري يستفتيه في أمره، فان الحسن البصري أجابه “إذا لم يكن الحجاج من أهل النار، فما يضيرك أن تكون مع امرأتك على زنى”! وهي المرة الوحيدة التي ينطق بها الحسن البصري بهذه الطريقة الجازمة التي جعل من نفسه فيصلا نهائيا وناطقا بالحكم “الإلهي”. لقد وجد في الحجاج تجسيدا تاما للرذيلة، بحيث جعله يستغرب التشكيك بالحكم المتعلق بضرورة عقاب الجحيم الأبدي للحجاج. وبغير ذلك تصبح جميع الرذائل مباحة!

وطبق هذا السلوك أيضا في مواقفه العديدة من عمر بن هبيرة عامل الأموية على العراق. فقد أرسل ابن هبيرة بعد أن تولى حكم العراق على الحسن البصري والشعبي. وجعلهما في ضيافته فترة من الزمن. ودخل عليهما في إحدى المرات مترجيا الحصول على مشورة بسبب الموقف المحرج الذي وضعه في يزيد بن عبد الملك. إذ طلب منه إنفاذ أمرا في احد رسائله إليه، الذي وجد في إنفاذه، كما يقول ابن هبيرة، التهلكة. بحيث جعلته هذه الحالة يقع بين طاعة “أمير المؤمنين” وعصيان الله، أو طاعة الله وعصيان يزيد. من هنا طلبه منهما المشورة بحيث يبقى في متابعه ليزيد والخروج من “التهلكة”. وإذا كان الشعبي إلى جانب فكرة “طاعة أمير المؤمنين”، فان الحسن البصري رده قائلا: “يا عمر بن هبيرة! لم يوشك أن ينزل عليك ربك ملك من ملائكة الله غليظ لا يعصي الله ماما مره، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك! أن تتق الله يعصمك من يزيد، ولا يعصمك يزيد من الله. لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد نظرة مقت ينفلق بها باب المغفرة دونك… إن تك مع الله في طاعته كفاك بائقة يزيد، وان تك مع يزيد على معاصي الله وكلك الله إليه”[142]. لقد رد الحسن البصري لوحده بين جمع من الفقهاء على فكرة عمر بن هبيرة القائلة، بان سلوكه “تابع لسلوك أمير المؤمنين، وهو مأمور بالطاعة” بعبارة “حق الرعية لازم لك. وحق عليك أن تحوطهم بالنصيحة. حق الله ألزم من حق أمير المؤمنين. والله أحق أن يطاع. ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فاعرض كتاب أمير المؤمنين على كتاب الله… يا ابن هبيرة! إن الله ليمنعك من يزيد ولا يمنعك يزيد من الله. يا ابن هبيرة! الحساب من ورائك سوط بسوط وغضب بغضب والله بالمرصاد”[143]. ويعكس هذا الرد طبيعة الموقف الشخصي للحسن البصري.

لقد حقق الحسن البصري في مواقفه وآرائه وأحكامه وحياته ومماته الحقيقة البسيطة القائلة، بأنه كلما يسير الإنسان في دروب الحرية والإخلاص للفكرة المتسامية كلما يقترب من الطبيعة بما في ذلك في المظاهر. مع ما يترتب عليه من محاولات حثيثة لتهذيب وتشذيب الروح عبر معاناة الجسد في فعل ما يراه العقل ضرورة وحقا. وهي العملية التي تنتج ما يمكن دعوته بروح الإخلاص للمبادئ الكبرى. آنذاك يمكن رؤية بريق القمر في عينيه، وأشعة الشمس في جبينه، والمعاناة على وجنتيه وأخدود التاريخ على خديه.

 

[1] ولد الحسن البصري، كما يقول أبو طالب المكي عام 20 للهجرة، قبل يومين من بقية خلافة عمر بن الخطاب. وبهذا تكون ولادته قد رافقت الاستكمال والاستتباب الأول لفكرة الخلافة الإمبراطورية بوصفها جزء من صيرورة الإمبراطورية الثقافية. إذ لم تكن الوحدانية الإسلامية المتغلغلة في فكرة الغزو، سوى الباعث الروحي الكامن في صيرورة ما ادعوه بالخلافة الإمبراطورية. وقد كانت بدورها محكومة في أبعادها السياسية بفكرة الرشد، أي بالقانون والشريعة والانتماء للأمة، وفي أبعادها الدينية بفكرة الأمة الواحدة المتحررة من مختلف مكونات “الجاهلية”. ومن ثم، فإنها كانت تحتوي في أعماقها على مرجعيات الروح الثقافي. مما جعل من ولادتها صيرورة مرادفة لبداية القرن التأسيسي للدولة الكبرى (توفي الحسن البصري عام 110 للهجرة). وهو تأسيس كامن في صيرورته الفردية وكينونته الفردانية. ومنهما تراكمت شخصيته الروحية والاجتماعية والسياسية، التي جعلت منه احد ممثلي الاحتجاج المنظومي على خروج الأموية عن صراط الرشاد في إدارة شئون الدولة، والخروج على منطق مرجعياتها الأولى القائمة في أولوية وجوهرية الشريعة والنظام والقانون والأمة وقيم الأخلاق الروحية والعملية.

[2] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص174.

[3] الكلاباذي: التعرف لمذهب أهل التصوف، ص23.

[4] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص265.

[5] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص98.

[6] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص134.

[7] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص155.

[8] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2،ص155.

[9] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص157.

[10] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص234.

[11] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص199.

[12] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص199.

[13] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص171.

[14] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص241.

[15] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص425.

[16] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص147.

[17] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص97.

[18] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص424

[19] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص150.

[20] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2،ص147.

[21] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص150.

[22] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص77.

[23] القشيري: الرسالة القشيرية، ص177.

[24] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص391.

[25] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2،ص147-148.

[26] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4ن ص465.

[27] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص347.

[28] ثابت البناني – إحدى الشخصيات الأولى التي بلورت أسلوب تنقية الإرادة وهيكلة الروح الأخلاقي والمعرفي من خلال الوسيلة. فهو أول من جعل الصلاة أسلوبا لبلوغ الحق من خلال جعلها وسيلة الأنا الباحثة عن ارتباط وانسجام بالمطلق. وليس مصادفة ألا نعرف عنه أكثر من كونه مصليا عابدا. لهذا قيل عنه “من أراد أن ينظر إلى اعبد أهل زمانه فلينظر إلى ثابت البناني”. وقد جعلته هذه الصفة كما يقول انس بن مالك “مفتاحا للخير”. فقد قال انس بن مالك مرة:”إن للخير مفاتيح! وإن ثابتا مفتاح من مفاتيح الخير”. وهو مفتاح فتح أولا وقبل كل شيء ذاته أمام ذاته من خلال حصر مكونات الروح والجسد وتذويبها في فعل الصلاة الدائمة، أي الخشوع أمام المطلق. من هنا قوله “لا يسمّ عابد أبدا عابدا، وإن كان فيه كل خصلة خير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان – الصوم والصلاة، لأنهما من لحمه ودمه”. بعبارة أخرى، إن العبودية الحقيقية لله تفترض التحرر مما غيره من خلال جعل العلاقة بينما تسري في اللحم والدم، أي في كل وجدان الروح والجسد وكل حركة يقوما بها. وليس مصادفة أن يقول البناني إن “الصلاة خدمة الله في الأرض”. من هنا كثرة الحالات الغريبة المنقولة عنه، مثل أن يقال عنه، بان ثابت البناني ربما يمشي فلا يمر بمسجد إلا دخل فصلى فيه. ربما مشى معه امرؤ فإذا عاد مريضا بدأ بالمسجد الذي في بيت المريض. فركع ثم يأتي المريض. من هنا قوله “كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة”. لقد كانت الصلاة بالنسبة له سريان الروح في الروح. من هنا وحدة وتناغم المكابدة والسعادة فيها، بوصفها المعادلة التي صنعت صيرورته وكينونته. بحيث نراه يحصر رغبته الأبدية والغاية النهائية من وجوده في ديمومة الصلاة. من هنا دعاءه القائل:”اللهم إن كنت أعطيت احد من خلقك أن يصلي لك في قبره فأعطني ذلك”. وقد جرى وضع أساطير على أساس هذا الدعاء مثل سماع الناس صلاته في القبر، وسماعهم لتلاوته القرآن وما شابه ذلك. لقد أراد ثابت البناني أن تكون حياته وموته وحدة متجانسة لديمومة العلاقة الوجدانية التامة بالمطلق. وهي العلاقة التي تجعل من موقف المثقف تجاهه كل شيء لوحة مرئية من وراء دموع الوجدان الدافئة. ويمكننا رؤية بعض الملامح الظاهرية لهذه الحالة في التصوير الذي قدمه البعض عنه عندما رسم لنا شخصية البناني الباكية بعبارة:”رأيت ثابتا البناني يبكي حتى أرى أضلاعه تختلف”. وقد لا تكون هذه الحالة معزولة عن الأثر السحري الذي تركته عبارة أنس بن مالك الذي قال له مرة:”ما أشبه عينيك بعيني رسول الله”، فما زال يبكي حتى عمشت عيناه. لكنه عمش العيون المعذبة بعذوبة الرؤية الوجدانية التي ترغم المثقف الكبير على مواجهة سيلان الحياة وصلادة البشر! وهي المفارقة التي يواجهها على الدوام بوصفها امتحانه الدائم. وليس مصادفة أن تؤدي به هذه الحالة إلى إمكانية تلف العين. وعندما جاءوا بطبيب يعالجها، فانه قال له:

  • أعالجها على أن تطيعني!
  • وأي شيء؟
  • على أن لا تبكي!
  • فما خيرهما أن لم تبكيا.

وأبى أن يتعالج! وبنى موقفه هذا على أساس ما أسميته بالعلاقة التي تجعل من موقف المثقف تجاه كل شيء لوحة مرئية من وراء دموع الوجدان الدافئة. كما أنها العلاقة التي تجعله يتعامل مع ما هو موجود وممكن ومحتمل بمعايير الوحدة السارية للروح في كل مكونات ومسام الجسد. لهذا نراه يقول مرة لأصحابه:

  • إني لأعلم حين يذكرني ربي.
  • تعلم حين يذكرك ربك؟!
  • نعم!
  • متى؟
  • إذا ذكرته ذكرني! واني لأعلم حين يستجيب لي ربي.
  • تعلم حين يستجيب لك ربك؟!
  • نعم!
  • وكيف تعلم ذلك؟
  • إذا وجل قلبي واقشعر جلدي وفاضت عيناي وفتح لي في الدعاء!

(انظر، أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص318-233).

[29] أيوب السختياني – إحدى الشخصيات التأسيسية الأولى للزهد الإسلامي والتصوف العملي. أنه من أولئك الذين ارسوا أسس التصوف الإسلامي من خلال تمرين الروح والجسد بمعايير الخروج على ما هو مألوف وعادي في فهم إشكاليات الوجود الاجتماعي والسياسي والأخلاقي. فقد شارك إلى جانب المئات ممن يمكن دعوتهم بالرعيل الذائب في نحت الأفكار الجزئية والقيم العملية التي تناسبها. ومن الممن رؤية هذه النسبة في المقارنات والعبارات التي استعملها الحسن البصري عنه، وما قاله أيوب السختياني عن الحسن البصري. فقد قال الحسن البصري عنه مرة:”أيوب سيد شباب أهل البصرة”، بينما نرى السختياني يقول عن الحسن البصري:” هذا سيد الفتيان”. وتعكس هذه العبارات رؤية الفرق بين الأبعاد المحلية والكونية. فقد كان أيوب السختياني محليا وجزئيا بمعايير الرؤية الكونية التي بلورها الحسن البصري. لكنه المكون الضروري الذي جعل منه عنصرا فعالا في بناء صرح المرجعيات الروحية المتسامية للثقافة العربية الإسلامية. فقد كان أيوب السختياني بنظر الكثيرين “جهبذ العلماء”، و”أفقه أهل البصرة في دينه” وأصدقهم. فقد كان ابن سيرين يقول عنه “حدثني الصدوق”. بل تحول إلى قبلة الاستلهام العملي لأولياء الثقافة الروحية المتراكمة في مجرى تصادم المثقف والسلطة المميز للمرحلة الأموية. فعندما قيل لأحدهم:

  • نراك تتحرى لقاء العراقيين في الموسم؟
  • والله ما افرح في سنتي إلا أيام الموسم! القي أقواما قد نوّر الله قلوبهم بالإيمان. فإذا رأيتهم ارتاح قلبي منهم أيوب!

وينبغي فهم هذا اللقاء ضمن سياق المكانة التي احتلها أيوب السختياني في سلسلة الزهاد المصنوعة من معاناة التأمل العميقة لإشكاليات الوجود الفعلية والحياة العامة والخاصة. وليس مصادفة أن يقول بعضهم عنه “ما وعدت أيوب موعدا إلا وجدته قد سبقني إليه”. بينما يقول عنه شخص آخر “ما رأيت رجلا قط اشد تبسما في وجوه الرجال من أيوب”. وتعكس هذه البسمة بكاءه الروحي، بوصفها المفارقة التي يمكن تحسسها في وعيه الذاتي ونقده للنفس، أي مراقبتها بالشكل الذي يجعل منها كيانا مخفيا من ملاحقة العيون المتطفلة. من هنا قوله “ذكرت وما أحب أن اذكر”، وانه “إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل”. بل نراه يقول عن يزيد بن الوليد بعد توليه الخلافة، وقد كانوا أصدقاء قبل ذلك “اللهم انسه ذكري”. وهو موقف مبني على فكرته القائلة بأنه “لا يستوي العبد حتى يكون فيه خصلتان، اليأس مما في أيدي الناس، والتغافل عما يكون منهم”. ولا يأس في هذا الموقف ولا انزواء بقدر ما يعكس تراكم المبدأ النظري والعملي في تنقيه النفس وجعلها روحا. من هنا بناءه هيكل الفضيلة الروحية والعملية بصمت. ووضع هذا المبدأ في عبارة تقول “ليتقي الله رجل وإن زهد، فلا يجعلن زهده عذابا على الناس، فلأن يخفي الرجل زهده خير من أن يعلنه”. ووجدت هذه المعادلة تعبيرها فيما يمكن دعوته بالنفي الدائم للسمو الروحي بوصفه طريق السير الأبدي صوب الحق، كما نراها في فكرته عن الزهد. فقد قال بهذا الصدد “الزهد في الدنيا ثلاثة أشياء، أحبها وأعلاها وأعظمها ثوابا عند الله- الزهد في عبادة من عبد دون الله من كل ملك، وصنم، وحجر، ووثن. ثم الزهد فيما حرم الله من الأخذ والعطاء. ثم يقبل علينا فيقول: زهدكم هذا يا معشر القراء فهو والله أخسّه عند الله! الزهد في حلال الله!”. وقد احتوت هذه الفكرة في أعماقها على احتمال بلورة الفكرة القائلة، بأن حقيقة الزهد هي الزهد في الزهد. غير أن تجربة السختياني كانت تدور آنذاك في تنقية اللسان والتفكر بمعايير الروح الأخلاقي. من هنا إجابته على طلب احدهم أن يوصيه بشيء، قائلا:أقلّ الكلام! بينما أجاب في حالة أخرى على سؤال يتعلق بعدم مشاركته في جدل الآراء الدائر آنذاك في البصرة: قيل مرة للحمار: ألا تجتر؟ فقال: اكره مضغ الباطل”. وقد جعله ذلك يرد مرة على رجل من أهل الأهواء:

  • أكلمك كلمة؟
  • ولا نصف كلمة!

من هنا أفكاره المناهضة لجدل اللاهوت الفارغ والانهماك المتعصب في شحذ كل ما يمكنه العمل على إفراغ العقل والروح من مهمة العمل. فنراه مرة يقول “ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا”. وليس مصادفة أن يربط هذا “الابتداع” الزائف بكلمة الاجتهاد، أي الانهماك في مهنة التحريف والتخريف التي ميزت ما كان القدماء يدعونه بفن أو صنعة القصص والقصاصين. لهذا نراه يقول، بأنه “ما افسد على الناس حديثهم إلا القصّاص”، وانه “لا خبيث أخبث من قارئ فاجر”. وجعله هذا الموقف يتهرب حتى من حديث أبي حنيفة. إذ تنقل عنه حادثة كيف أن أبا حنيفة دخل عليه مرة وهو بين أصحابه، فقال لهم:”قوموا بنا! لا يعدينا بجربه!”. وهو سلوك لا تهرب فيه، بقدر ما انه كان يضع الحرف والكلمة على ميزان المعاملة الروحية. وهي معاملة تختزن المعرفة وتضعها دوما على محك التجربة الذاتية وتختبرها بامتحان الإرادة. لهذا نراه ينصح احد مريده قائلا “انك لا تبصر خطأ معلمك حتى تجالس غيره. جالس الناس!”. بينما نسمعه يقول عن نفسه بهذا الصدد “لقد جالست الحسن البصري أربع سنين فما سألته هيبة له”. بل ونراه يكثّف هذه المفارقة في عبارة تمثلت تجاربه بهذا الصدد عندما قال “إذا لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون”. وترك لنا هذه المفارقة في سلسلة روح المثقفين الأحرار وغيب التصوف. (يمكن الرجوع إلى بعض جوانب وشخصية أيوب السختياني في كتاب أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج3، ص3-14).

[30] فرقد السبخي- من المقربين للحسن البصري، بمعنى الدوران في فلك تصوراته وشخصيته. غير أن ذلك لم يفقده بريقه الخاص ولمعانه الفردي في حلقات الزهد والزهاد. فهو من بين أوائل الزهاد الذين رفعوا فكرة الجوع إلى مصاف المبدأ. بمعنى بحثه عن مقومات الغريزة وأساليب قهرها. ولم يقف عند ذلك بل وجعل من هذه الأساليب أدوات في تهذيب الإرادة الظاهرة والباطنة. من هنا تركيزه إلى فكرة الخطورة الكاملة في الشبع. فنراه مرة يقول “الشبع أبو الكفر”، و”ويل لذي البطن من بطنه. إن أضاعه ضعف، وإن أشبعه ثقل”. وحقق هذا الموقف بنفسه على نفسه بحيث نرى الحسن البصري يقول له مرة بعد أن دعاه إلى الطعام فنظر إلى فرقد وعليه جبة صوف:”يا فرقد! لو شهدت الموقف لخرقت ثيابك مما ترى من عفو الله”. بينما نراه مرة يطيل الحديث مع من زاره. وعندما قالوا له:

  • حان وقت الغداء!
  • إنما طولت حديثي لكي تجوعوا فتأكلوا ما عندي.

ثم اخرج لهم فقط كسرة خبز شعير اسود. وعندما قالوا له:

  • ملح يا أبا يعقوب!
  • قد طرحنا في العجين ملحا مرة. لم تعنّوني أن اطلب لكم!

وهو مبدأ يرفع فكرة وممارسة الزهد إلى إحدى درجاته العليا من خلال التشديد على معارضة الدنيا بالآخرة. والمقصود بذلك نقد الانفصام الجلي بين الظاهر والباطن، والروح والجسد. من هنا مطالبته القوم بعبارة “اتخذوا الدنيا ظئرا والآخرة أما”. ورفع هذه الفكرة إلى مصاف المطلب السياسي الروحي عندما قال مرة “إن ملوككم إنما يقتلونكم على الدنيا، فدعوهم والدنيا”. وأرجعه هذه المبدأ إلى أعماق النفس من خلال إبراز جوهرية العلم والعمل. فنسمعه مرة يقول “إني رأيت الليلة في المنام كأن مناديا ينادي من السماء: يا أصحاب القصور، يا أصحاب القصور! يا أشباه اليهود، إن أعطيتم لم تشكروا، وإن ابتليتم لم تصبروا، ليس فيكم خير بعد العذاب!”. وفي حالة أخرى نراه يشدد على ضرورة ترتيب علاقة الإنسان بذاته من خلال إبراز أولوية العمل لكي تستقيم الإرادة مع ذاتها. فنسمعه يخاطب الناس قائلا:”إنكم لبستم ثياب الفراغ قبل العمل! الم تروا إلى الفاعل إذا عمل كيف يلبس أدنى ثيابه، فإذا فرغ اغتسل ولبس ثوبين نقيين. وانتم تلبسون ثياب الفراغ قبل العمل”. مما جعله شديد اليقظة تجاه النفس بحيث قال مرة “ما انتبهت من نوم لي قط، إلا ظننت مخافة أن أكون قد مسخت!”. وتحتوي هذه اليقظة في أعماقها على ما يمكن دعوته بمعاناة الهموم الكبرى من اجل تنسيق وانسجام الإرادة وغاياتها، والظاهر والباطن، والفرد والأمة، كما نراها على سبيل المثال في الأحاديث التي اشترك في إسنادها مثل الحديث القائل “قل لعبادي الصالحين لا يغتروا بي، وقل لعبادي المذنبين لا ييأسوا من رحمتي”، و”من أصبح وهمه غير الله فليس من الله. ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم”، وأن “أول من يقرع باب الجنة عبد أدى حق الله وحق مواليه”، و”ملعون من ضارّ مسلما أو ماكره”. إننا نرى في هذه المواقف والآراء على هموم فرقد السبخي الكبرى والصغرى، أي كل تلك الهموم التي تتكامل في الشخصية وتصنع وحدة الغربة والغرابة من اجل ألا يكون غريبا عن الكلّ. من هنا قوله “الغريب من ليس له حبيب!”. (حول بعض جوانب شخصية فرقد السبخي،انظر أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج3، ص44-54).

[31] عبد الواحد بن زيد – ينتمي، كما كان الحال بالنسبة للبناني وفرقد السبخي إلى ما يمكن دعوته بمدرسة الحسن البصري، أي العيش بمعايير الرؤية الأخلاقية المتسامية والغوص في أعماق النفس والتفتيش الدائم في مكوناتها من اجل ترميم خراب الدنيا بعمارة الدين. وقد عكست هذه الثنائية تصادم واختلاف الروح والجسد، والعابر والدائم، من خلال تذليل خلافهما عبر توحيد صيرورة الروح العملية وكينونته المعرفية، أي التمثل الأخلاقي العملي لمرجعيات المدرسة العقلية البصرية. فقد كان عبد الواحد بن زيد الحلقة المكملة لثابت البناني. وكلاهما يصبان في تيار تأسيس قيمة العبادة بوصفها وسيلة وأسلوب التنقية الروحية المعرفية. من هنا جوهرية الصلاة. لهذا قيل عنه، بأنه صلى صلاة الصبح بوضوء العتمة أربعين سنة! ولهذا السبب كان ينشد:

ينام من شاء على غفلة   والنوم كالموت فلا تتكل

تنقطع الأعمال فيه كما   تنقطع الدنيا عن المنتقل

ووضع هذه الفكرة في أساس موقفه من علاقة الحياة بالموت، والظاهر بالباطن. من هنا قوله:”فرّق النوم بين المصلين ولذتهم في الصلاة”. بمعنى سعيه لديمومة العلاقة الوجدانية بالله بوصفها أسلوب تكامل الشخصية. من هنا مناجاته لله بعبارة:”وعزتك لا أعلم لمحبتك فرحا دون لقائك”. وهي علاقة تذلل الوسائل والوسائط من خلال تذويبها فيما يمكن دعوته بصيرورة الإرادة الفاعلة بمعايير الإخلاص المجرد من كل ما يمكنه تعكير كينونة الروح الأخلاقي، بوصفها المقدمة الضرورية لإرساء أسس المرجعيات الروحية في الأفراد، أي في كل  تلك الكوكبة التي ساهمت في بناء ثقافة الروح الإسلامي.   

[32] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص149.

[33] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج 1، ص150.

[34] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج 1، ص149. هنا يمكن رؤية “السلسلة” الصوفية ولكن ليس بمعايير المشيخة، بل بمعايير الروح والأثر الشخصي. إذ من الممكن فهم طبيعة هذه العلاقة ليس فقط بمعايير القضايا والطريقة التي تناول بها الحسن البصري علاقته بالله والأمة والنفس، بل وبارتقائها إلى مستوى الفردانية في تمثل تقاليد الأمة (الشريعة) وتحقيقها الفردي (الحقيقة) بوصفها أسلوبه الخاص (الطريقة).

[35] ليس مصادفة أن يكون الحسن البصري احد مصادر الاعتزال والتصوف. إذ يمكننا رؤية أثره في الاعتزال من خلال إدراك قيمة العقل والحرية والموقف الشخصي الأخلاقي. كما يمكننا العثور عليه في سرّ بحث المعتزلة اللاحق عن الأسباب أو علة وجود الأشياء كلها. أما بالنسبة للتصوف، فإن أثره يبرز ليس فقط في تحوله إلى احدى حلقات السلسلة الروحية للأولياء، بل وإلى “الناطق” الأول في مختلف علومها المتعلقة بالنفس والرقي الروحي.

[36] قد يكون ها التقييم الاستثناء الوحيد في تقييم “لسان” الحسن البصري، على خلاف ما هو متعارف عنه. وبالتالي ينبغي فهم عبارة “لولا سيف الحجاج ولسان الحسن البصري لما قامت لبني أمية قائمة!”، بمعايير الحماس الوجداني والمواجهة العنيفة التي كلفت حركات المعارضة السياسية والعسكرية للأموية ضحايا هائلة وعذابات مريرة. من هنا رغبتها في استعادة التقاليد القتالية ولغة البيان الحماسية وبلاغة العبارة القادرة على لسع الجسد الخامل والخائف للاندفاع بقوة الحس والإحساس، والعقل والضمير، والشهامة والمروءة إلى ميدان القتال العلني. إذ كان يصعب على هذه النفسية والذهنية فهم أقوال الحسن البصري المتسامية وتعاليها الغريب في عالم مريب يصعب عليه الاستمتاع بكلمات الرحمة والعفو. غير أن لرجال القدر التاريخي قدرهم في ألسنة العوام. وليس مصادفة فيما يبدو أن تبدع التقاليد العفوية لنزعة العفو المتسامية الرواية المختلقة عن “قبول” الإمام علي بن أبي طالب بقصص الحسن البصري، بعد دخوله البصرة والاستماع إلى خطبائها وقصاصيها. فالمكي يورد في (قوت القلوب) قائلا “لما دخل علي بن أبي طالب البصرة، جعل يخرج القصاص من المسجد ويقول”لا يقص في مسجدنا” حتى انتهى إلى الحسن وهو يتكلم في هذا العلم، فاستمع إليه ثم انصرف ولم يخرجه” (قوت القلوب، ج1، ص148). والاغلب أنها رواية مختلقة، وذلك لأن عمر الحسن البصري لم يتجاوز آنذاك في أفضل الأحوال أكثر من عشرين عاما. من هنا يمكننا القول، بأن هدف هذه الرواية يقوم في تأسيس أو غرس إحدى الصور الرمزية الهادفة إلى كشف ما يمكن دعوته بكلام الحسن البصري بوصفه نموذجا لمنطق الوجدان وليس نطق اللسان.

[37] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص228.

[38] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2،ص133.

[39] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص131-132.

[40] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2،ص132.

[41] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص132.

[42] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2،ص133.

[43] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2،ص133.

[44] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2،ص133.

[45] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص47.

[46] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2،ص133.

[47] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص133.4

[48] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص132.

[49] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2،ص152.

[50] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2،ص133.

[51] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص451.

[52] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص228.

[53] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص143.

[54] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2ص 158.

[55] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2ص155. 

[56] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2ص 148.

[57] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص106.

[58] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2ص 149.

[59] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص90.

[60] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص460.

[61] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص460.

[62] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص465.

[63] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص454.

[64] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص451.

[65] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص460-461.

[66] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص209

[67] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص207.

[68] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2ص140. 

[69] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص209.

[70]أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2ص 141.

[71] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2ص 142.

[72] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص268.

[73] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2ص 141.

[74] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص210.

[75] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2ص 155.

[76] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص58.

[77] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص285.

[78] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص152.

[79] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص158.

[80] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص166.

[81] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص90.

[82] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص156.

[83] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص122.

[84] إننا نستطيع أن نقرأ وراء هذه الصيغة اللاهوتية الخيالية وأثرها على الوعي الفاعل آنذاك، بعض أبعادها الواقعية، وبالأخص ما يتعلق منها بطبيعة علاقته بالسلطة.

[85] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص171-172.

[86] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص161.

[87] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص123.

[88] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص123.

[89] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص123.

[90] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص234.

[91] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص101.

[92] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص220.

[93] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص185.

[94] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص339.

[95] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص149.

[96] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص156.

[97] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص143.

[98] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص143.

[99] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص157.

[100] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص99.

[101] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص155.

[102] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص152.

[103] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص149.

[104] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص151

[105]. كتب أبو طالب المكي بهذا الصد يقول، بأن الحسن البصري فرّق بين التعذيب على جريان العلم ومخالفة الأمر لما بلغه أن عمرو بن عبيد وهو إمام المعتزلة آنذاك يقول:”إن الله لا يقضي بالشيء ثم يعذب عليه”. فقال الحسن البصري:”ويلك! إن الله لا يعذب على جريان حكمه وإنما يعذب على مخالفة أمره”. ذلك يعني “أن ما حكمه الله منفردا به لم يجعل فيه أمرا ولا نهيا لا يعذب عليه، لأنه لم يجعل للعبد مدخلا فيه بشهوة ولا فعل. وان ما قضاه على العبد مما ادخله فيه بقصده وشهوته عذبه عليه. وهذا من شؤم النفس”. (أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص128)

[106] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص144.

[107] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص145.

[108] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص150 .

[109] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص153.

[110] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص147.

[111] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص144.

[112] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص155.

[113] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج2، ص8.

[114] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج2، ص9. وأشار المكي هنا إلى أن كلام الحسن البصري هذا قد جاوز المعقول لكنه يبقى الأمثل في تعبيره عن مسار الإرادة الأخلاقية المتسامية. بعبارة أخرى، لقد كان الحسن البصري مستعدا للقبول بواقع أن يكون أهل البصرة جميعهم أهله، وأن حبة سعرها بدينار. ومن ثم استعداده للقبول بأشد الأحوال قسوة للحس والعقل والقلب والضمير دون أن يفتت ذلك وحدة الإرادة. فالإرادة القادرة على قدر الاستعداد في مواجهة وتحدي اشد الأحوال هولا وفظاعة. من هنا، فإن التوكل بوصفه قبولا ورضا بمجريات الأحداث لا يعني القبول بالشر والخطيئة، بقدر ما هو امتحان للإرادة الأخلاقية واختبار قدرتها على الاحتفاظ بالتوازن الدائم للروح بوصفه شرط العمل السليم.

[115] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص98.

[116] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص186.

[117] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص405.

[118] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص267.

[119] الكلاباذي: التعرف لمذهب أهل التصوف، ص22.

[120] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص179.

[121] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص425.

[122] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص424

[123] أبو  طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص133.

[124] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص175.

[125] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص244.

[126] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص135-139. إننا نقف هنا أمام فكرة عميقة ومتجانسة سوف يقول بها الحسن البصري بصورة واضحة وجلية، وهي أن مهمة المثقف الكبير تقوم في الوقوف عند حكمته الشخصية في الموقف من السلطة، ومن ثم المحافظة على المسافة الضرورية بينه وبينها أيا كان شكلها ومحتواها وأشخاصها. وهو الأسلوب الذي يمكن رؤيته في الموقف من عمر بن عبد العزيز، الذي ارتقى في الوعي الإسلامي السليم إلى مصاف الرشد.

[127] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص135-139.

[128] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص147.

[129] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص153. إننا نعثر حتى في اللغة التي يستعملها الحسن البصري في مخاطبة زميله على نموذج التودد والمحبة. بحيث تزول منها بصورة تامة معالم ومظاهر العلاقة الشكلية والرسمية و”الأستاذية”، بوصفه الوجه الآخر لحقيقة الأستاذ أو الشيخ في علاقته بمريديه.

[130] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص151.

[131] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص158.

[132] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص158.

[133]أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص147.

[134] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص150.

[135] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص151.

[136] أبو طالب المكي: قوت القلوب، ج1، ص134.

[137] قال الشعبي: فبسر الحجاج وجهه، وقام عن السرير مغضبا وخرجنا!

[138] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص329.

[139] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج3، ص160

[140] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص346.

[141] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص159.

[142] أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، ج2، ص149-150. وقد أبكت هذه الإجابة الأمير كما يقول الأصفهاني. وعندما أرسل إليهما في الغد هدايا، كانت حصة الحسن اكبر وأثمن. عندها دخل الشعبي المسجد وخطب قائلا:”من استطاع منكم أن يؤثر الله على خلقه فليفعل! فالذي نفسي بيده، ما علم الحسن منه شيئا فجهلته، ولكنني أردت وجه ابن هبيرة، فأقصاني الله منه”.

[143] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2، ص347.

مقالات أخرى

ماجد الغرباوي : سلطة الفقيه والتشريع وفق منهج مقتضيات الحكمة

بيداغوجيا البرهان في فضاء الثورة الرقمية

ثوابت العدوان في العقيدة الصهيونية

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد