-1-
يجمع المحللون أن التحولات والتداعيات السياسية التي شهدتها دول الثورات العربية، لا سيما في تونس ومصرو ليبيا، وضعت في الحكم حركات الإسلام السياسي التي لم تقم بالثورة في تونس، ومصر، ولم يكن هذا الأمر مُدْرَجاً على جدول أعمالها طيلة تاريخاها في المعارضة، بل هي ركبت موجة الثورة بعد ذلك، وأصبحت جزءاً منها، و نجحت في قطف ثمار الثورة بفوزها في الانتخابات، لأنها كانت القوى السياسية الأكثر تنظيماً، و قدرةً، وتمويلاً، و تمكناً من الاستمرار، وضعت حركات الإسلام السياسي هذه، أمام تحديات العصر، وهي التي تفتقر لأي مشروع مجتمعي وطني و ديمقراطي يقدم أجوبة واقعية و عقلانية للمعضلات التي تعاني منها الشعوب العربية، لا سيما منها: قضايا البطالة، والتنمية المستدامة، والأمن الغذائي، وبناء القدرات العلمية والتكنولوجية، ومكافحة الأمية، واستثمار الموارد البشرية والمادية في بناء الأوطان والأمم، ومعالجة الفقر والجوع، واحترام التنوع والتعدد الثقافي والعرقي، ناهيك عن مقاتلة المحتل والظالم والفاسد، وبناء الدولة الديمقراطية التعددية، وكلها من عوامل تأخر هذه البلدان العربية.
لم تكن الثورتان التونسية والمصرية، ثورتين إسلاميتين، و لم يكن الإخوان المسلمون المطلقين لشرارتيهما، ولا السائرين في صفوفيهما الأولى. لأن شباب الثورة لم يستعينوا بالإسلام كما فعل أسلافهم في الجزائر في أواخر الثمانينيات، ويعبّرون قبل كل شيء عن رفض الديكتاتورية البوليسية الفاسدة ويرفعون مطلب الحرية والديموقراطية. لا يعني هذا بالتأكيد أن كل الذين قاموا بالثورة هم علمانيون، بل يعني ببساطة أنهم لا يرون في الإسلام أيديولوجيا سياسية قادرة على خلق نظام أفضل: إنهم في مساحة سياسية علمانية. و ما ينطبق على الأيديولوجيا الإسلامية، ينطبق أيضا على الأيديولوجيات الأخرى، فالثورتان التونسية والمصرية لم تكونا ثورتين يساريتين قوميتين، رغم أن شبابهما هم قوميون (يظهر ذلك من خلال الأعلام الوطنية التي يلوّحون بها) لكنهم لا ينادون بالقومية العربية التي اختفت من الشعارات.
لقد «ركب »الإخوان المسلمون في كل من تونس و مصر موجة الثورة، وبقوا في الصفوف الخلفية لأسباب ثلاثة أساسية. أولاً، لم يُريدوا أن يظهروا أن الثورة إسلامية ما يمكن أن يؤثّر على نجاحها وعلى تأييد المجتمعين العربي والدولي لها والاعتراف بها. وثانياً، لم تكن قياداتهم متأكدة من إمكان إسقاط نظامي زين العابدين بن علي و حسني مبارك البوليسيين بهذه السرعة. وثالثاً، لم تكن قيادات الإخوان المسلمين في كل من تونس ومصر، مستعدة لدفع المزيد من التضحيات لمعارضتيهما لحكمي بن علي وحسني مبارك، لا سيما أن غالبية أعضائها تعرضت للملاحقات والمضايقات والسجن و التعذيب من قبل النظامين الديكتاتوريين.
دفعت الانتفاضات وحركات الاحتجاج في العالم العربي الدول الغربية إلى مقاربة المنطقة بنظرة جديدة تتبنى تطلعات الشعوب الى التغيير والحرّيات، بديلاً عن دعم أنظمة متسلطة أو غض النظر عنها لحفظ المصالح. فقد فرض الشباب العربي الذي نزل إلى الشوارع في بعض العواصم العربية على الدول الغربية عدم اعتبار الأنظمة التسلطية قدراً نهائياً، وعدم إعطاء الأولوية للمصالح الاقتصادية والنفعية بل الاستماع إلى الشعوب والمعارضات التي باتت تنادي بالحرية.
فمنذ أحداث 11 سبتمبر 2001، توطدت أكثر علاقات الولايات المتحدة والدول الأوروبية مع الدول العربية التسلطية، خوفاً من بروز الخطر الإرهابي الذي أعطى صدقية للمخاوف الغربية. فالأنظمة العربية التسلطية أقنعت الدول الغربية بأن الحركات الأصولية الإسلامية المتطرفة هي البديل إذا رحلت هي، لكن تبيّن أن هذا غير صحيح. فقد انتقل الإسلاميون الأكثر راديكالية، والذين يدعون إلى الجهاد العالمي، إلى القتال في صفوف تنظيم «القاعدة»، و الحال هذه لم يعودوا موجودين على الساحة العربية: إنهم في الصحراء مع «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» أو في باكستان أو في ضواحي لندن. ليست لديهم قاعدة اجتماعية أو سياسية. الجهاد العالمي منفصل كلياً عن الحركات الاجتماعية والنضالات الوطنية في البلدان العربية. و لما كانت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية تخشى وصول الإسلاميين إلى الحكم في الدول العربية، فقد دعمت الأنظمة الديكتاتورية العربية من أجل محاربتهم و عدم السماح لهم بالوصول إلى السلطة.
لا شك في أن بروباغندا «القاعدة» تحاول تصوير التحرّك وكأنه طليعة انتفاضة في المجتمع الإسلامي بكامله ضد القمع الغربي، لكنها لا تنجح في ذلك. ويطال هذا التطوّر أيضاً الحركات الإسلامية المعتدلة المتمثِّلة في جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، والمنضوين تحت لوائها مثل حركة «النهضة» الإسلامية في تونس، حيث دخل الإسلاميون الثورات بعد انطلاقها.
إذا نظرنا إلى الذين فجروا الثورات العربية، و قادوها، فسنجد أننا أمام جيل عربي جديد ما بعد الحركات الإسلامية. ففي سيرورة النضال تحولت الانتفاضات الاحتجاجية التي عمّت تونس، ومصر، في البداية إلى ثورة شعبية وشبابية، هي ثورة مدنية لا عسكرية ولا إسلامية، رغم التحاق إسلاميي حركتي «النهضة» و«الإخوان المسلمين » بها بعد اندلاعها. وهي أيضاً، ليست ثورة يسارية، رغم انضمام عناصر تنظيمات و أحزاب يسارية صغيرة في كل من مصر و تونس، بها بعد اندلاعها.
دحضت الثورتان التونسية والمصرية الادعاء الذي بُني طيلة العقود الماضية بأن الحركات الإسلامية وحدها تملك القوة الأيديولوجية والتنظيمية لتحدّي الدولة البوليسية في العالم العربي، منطلقة من أن آخر ثورة كبرى في المنطقة كانت الثورة الإسلامية في إيران، وأن الحركات الإسلامية في مصر والأردن وبلدان أخرى باتت أكبر عدداً وأكثر قوة بعد تراجع الأحزاب القومية واليسارية وانحسار نفوذها، إلا أن الصحيح أيضاً أن انتفاضة المواطنين العفوية واللاأيديولوجية في تونس و مصر أنجزت في أيام ما عجزت الحركات الإسلامية عن إنجازه في عقود. وجادل الإسلاميون طويلاً بأن طروحاتهم الدينية هي السبيل الوحيد للتغلب على اعتماد الأنظمة على منطق الدولة، لكن المنتفضين التونسيين و المصريين أظهروا أن الاعتماد على المواطن له تأثير أكثر فعالية وفورية.
كما جادل الإسلاميون بأن شبكاتهم الدينية وشبكات المساجد التابعة لهم ستضمن أعداد الجماهير الضرورية للعمل السياسي، لكن المنتفضين التونسيين أثبتوا أنهم قادرون على جذب أعداد أوسع وعلى إثارة حماسة أكبر من خلال استثارة شبكة المواطنة العامة. لقد حظيت الشهادة في سبيل الجهاد بشعبية واسعة في السنوات الأخيرة، بيد أن المنتفضين التونسيين أظهروا أن الشهادة في سبيل حقوق المواطن والإنسان هي أمر نبيل أيضاً([2](.
فقد أثبت الإخوان المسلمون في تونس (حركة النهضة)، وفي مصر، الذين وصلوا إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع عجزهم عن إدارة بلديهما، وأوصلوا مصر وتونس إلى حدود الفوضى. ولم يكن المجتمع في البلدين كليهما ما كان يأمل فيه الإسلاميون، إذ شهدنا شباب وشابات الطبقة الوسطى من المتعلمين يهبون للدفاع بشراسة عن نظرة إلى العالم أكثر انفتاحاً وحداثة من تلك التي يريد الإسلاميون فرضها.
غير أنه بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة في كل من تونس ومصر، وليبيا، بدأت الحركة الشبابية التي فجرت الثورات في تلك البلدان، والطبقة الوسطى التي احتضنت المعارضة الديمقراطية منذ بدء الاحتجاجات قبل حوالى العامين تشعران الآن بخيبة أمل كبيرة ونفور من «الثورة» لاتخاذها طابعاً إسلامياً متشدداً، من خلال تحالف حركات الإسلام السياسي ( و الحال هذه الإخوان المسلمين ) مع الجماعات السلفية المتشددة المرتبطة بتنظيم «القاعدة»، لا سيما بعد سقوط نظام العقيد القذافي..
تونس الغائبة الحاضرة في المشهد العربي تعيش الآن في ظل «الثورة المغدورة»، لأن كل ما نادى به الفقراء والعاطلون عن العمل «وقود الثورة» ذهب أدراج الرياح، وفي أحسن الأحوال ظل أحلاماً مؤجلة برسم المجهول الذي تسير نحوه البلاد، فبينما كانت تونس تنفض عنها غبار الثورة بعد رحيل الرئيس زين العابدين بن علي، تسلل إليها الكثيرون ممن كانوا يجلسون على مقاعد المتفرجين ريثما تحط الثورة أوزارها، وعندما آن الأوان وفي غمرة ما ظنه الشارع التونسي انتصاراً لثورته ولشعاراته النظيفة «خبز حرية.. كرامة وطنية» تخلى المتفرجون عن مقاعدهم وسارعوا إلى تونس ليلعب كل واحد منهم دوره وفق الأجندة الاستعمارية التي انخرط فيها مسبقاً، وكان أول الواصلين حركة «النهضة» التي تزعمت الحكم بعد أن ركبت موجة الثورة مصطحبة معها قطر التي تسللت هي أيضاً لكن بسرية تامة وببطء متخفية بأثواب عدة فمرة بثوب «المانح» وأخرى بثوب «الصديق والداعم والشريك».
رغم أنه لا توجد دلائل ملموسة على أن الغرب يقف وراء ربيع الثورات العربية، إلا أن المؤكّد أنه استطاع أن يركب موجة هذه الانتفاضات ونجح في استثمارها وتحويل نتائجها إلى صالحه، من خلال التحالف الذي أقامته الولايات المتحدة الأميركية مع حركة الإخوان المسلمين في مصر، وحركة النهضة في تونس، وذلك من أجل وأد الثورة الديمقراطية في العالم العربي.
إذا كان مفهوم الثورة الديمقراطية هذا يذكرنا بالثورة الديمقراطية التي أرست في غربي أوروبا وشمال أميركا أسس المجتمع الحديث والدولة القومية الحديثة، أي دولة الحق و القانون، وأطلقت ديناميات النمو والتقدم فيهما، فإن مفهوم الثورة الديمقراطية التي بشر بها «الربيع العربي» في العالم العربي يعني تصفية البنى والتشكيلات والعلاقات ما قبل القومية، وبقايا الإقطاع والقبلية والطائفية، ومخلفات القرون الوسطى، ورفض التبعية للغرب، وتبني المجتمعات العربية قضايا الحرّية والمساواة في ضوء التقدم الحاصل في العالم، وفي ضوء الأسس المعرفية التي أنتهجتها الثورة الديمقراطية البرجوازية ذاتها في الغرب، وفي ضوء حاجات التقدم العربي والشروط الذاتية، والموضوعية لتلبية هذه الحاجات.
لقد أثبتت تجربة حكم الإخوان المسلمين في كل من تونس ومصر، أن الولايات المتحدة دفعت باتجاه أن تحكم حركات الإسلام السياسي في البلدان العربية، لأن هذا التوجّه يضمن لها بقاء مصالحها الاستراتيجية في المنطقة بعد رحيل الديكتاتوريات العسكرية-البوليسية التي دعمتها طيلة العقود الأربعة الأخيرة، وتحقيق أمن إسرائيل، و استمرار اتباع بلدان الربيع العربي نهج الليبرالية الاقتصادية المندمجة في نظام العولمة الليبرالية، و من أجل إبقاء حالة الفوضى الخلاّقة التي بشّر بها منظرو السياسة الخارجية الأمريكية، حيث إن فلسفة الإخوان المسلمين في الحكم مبنية على أساس إقصاء الآخر، أيا كان توجّهه معتقدا (هذا التيار) أنه يمثّل ظاهرة ربانية مقدّسة لا تقبل النقد أو إبداء الرأي من بشر، وهي فلسفة تضمن بامتياز التصادم السريع بين هذا التيار والقوى الليبرالية و اليسارية، لا سيما في ظل الصراع القائم على هوية الدولة: دولة دينية تحكمها الشريعة الإسلامية كما يريد ذلك الإسلاميون على اختلاف تياراتهم، ودولة مدنية ديمقراطية تعددية كما يريد ذلك العلمانيون. إنه الصراع الذي يطبع واقع المجتمعات العربية.
وما أن وصلت حركة النهضة الإسلامية إلى السلطة في تونس، وكذلك الأمر لحركة الإخوان المسلمين في مصر، حتى عاد الإسلاميون إلى أورثوذكسيتهم الأيديولوجية الإخوانية، إذ كشفت ممارستهم للحكم حقيقتين أساسيتين:
الأولى هي فصلهم التقليديّ بين الديموقراطيّة بصفتها مجموعة قيم تُلهم طريقة الحياة والسلوك الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، فرديًّا وجماعيًّا، وتُحدِّدُ مكان الدين في المجتمع ودوره في الحقل العامّ، وتقود إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية، وبين الديموقراطيّة باعتبارها آليّة انتخاب، تُعَّبِدُ الطريق لوصولهم إلى السلطة، ثم الانقلاب عليها.
والحقيقة الثانية هي ميل الجماعة إلى مصادرة تمثيل الإسلام السياسي، وبالتالي نزعتها التلقائيّة إلى الانفراد بالحكم، و «أخونة » الدولة رويدًا رويدًا، متسلّحة بقدرتها على تمرير قراراتها «ديموقراطيًّا»، وهذا ما أثبتته التجربة التونسية و التجربة المصرية، و إن بدرجات متفاوتة.
وهذا ما يؤكّد أنّ الإخوان المسلمين في تونس باعتبارهم فرعاً من حركة الإخوان المسلمين المصرية (الأم ) لا يمكن لهم أن يتخلوا أبداً عن الشريعة أو ثوابتها كمصدر من مصادر التشريع. وما تضمنه الدستور التونسي الجديد من مسائل متكررة مثل (احترام المقدسات)، دفع بخبراء القانون الدستوري في تونس، و بأطياف المعارضة الليبرالية واليسارية، ومكونات المجتمع المدني، إلى التساؤل ما المقصود بالمقدسات المستعملة في الدستور والتي على الدولة حمايتها؟ وهو ما يدفع إلى التساؤل عن حقيقة مدنية الدولة التي يجب تكريسها بعد الثورة.
-2-
في مرحلة ما بعد الثورة، وبعد تسلم حكومة الترويكا مقاليد السلطة في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة التي تمر بها البلاد، تزايدت موجات العنف السياسي من قبل بعض الجماعات السلفية المتحالفة مع الجناح المتشدد لحركة النهضة الإسلامية، و اتخذ هذا العنف أشكالاً عديدة.
ففي ظل الفراغ السلطوي الذي كان قائماً في تونس طيلة المرحلة الماضية ما قبل انتخابات 23 أكتوبر 2011، إضافة إلى هشاشة الحكومة المؤقتة، ظهر السلفيون بلباسهم المميز ولحاهم الطويلة في العديد من المدن التونسية، لا سيما في العاصمة، و بنزرت، وسوسة، رغم أنهم لا يشكلون سوى أقلية ضئيلة في الطيف الإسلامي الواسع، لكنهم يريدون فرض منظومتهم العقدية التي يؤمنون بها، ويقدسونها ويتمسكون بها ولا يقبلون فيها نقاشاً ولا حواراً بواسطة العنف المنهجي على مجتمع تونسي يغلب عليه الإسلام السني المالكي المعتدل، و التقاليد و القيم العلمانية في شكل واسع..
وبما أن السلفية الجهادية مرتبطة بتنظيم «القاعدة» وأيديولوجيته، كان لا بد لها أن تجري تعديلاً على خطابها السياسي، وأن تقفز إلى المرحلة الجديدة حتى لا تفقد الصلة بالتطورات المهمة، وكأنّها خسرت رهاناتها السياسية، فسعى خبراء السلفية الجهادية إلى تحويل الثورات من تحدٍّ إيديولوجي إلى «فرصة تاريخية» عبر التشديد على التكامل بين ما تطرحه «القاعدة» من مواجهة مع الأنظمة العربية المتحالفة مع الغرب وبين ما حققته الثورات من إزالة هذه النظم، وبالاستفادة من مناخ الحريات الجديد من أجل نشر الدعوة الجهادية والضغط باتجاه تطبيق الشريعة، وتحويل الرهان نحو مشاعر الناس الدينية.
هذا «التحوير» أو التكيّف في خطاب القاعدة وتيارها الأيديولوجي «السلفية الجهادية» ورهاناتها السياسية تأطّر بصورة ذكية مع مشروع «أنصار الشريعة»، فالقاعدة لم تتخلَّ عن مطالبها بإقامة الشريعة الإسلامية، ولا هي أعلنت التخلي عن العمل المسلّح (الجهاد) كأحد خيارات التغيير السياسي (مثلما فعلت الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد في مصر(، ولا هي قامت بتشكيل أحزاب ودخلت اللعبة الديموقراطية والسياسية وقبلت بصندوق الاقتراع (كما فعل السلفيون في مصر – أحزاب النور والأصالة والبناء والتنمية). فالسلفية الجهادية من خلال «أنصار الشريعة» ردّت الاعتبار إلى الخيار المدني السلمي في التغيير، مع الاحتفاظ بركائزها الأيديولوجية: الحاكمية، ومشروعية العمل المسلح (الجهاد)، في محاولة لاستثمار مناخات الحرية والديموقراطية الموجودة، عبر الضغط على الإسلاميين المشاركين في العملية السياسية للمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، وعبر الدعوة إلى الأفكار السلفية(1).
و انطلاقاً من هذه الرؤية، باتت إحدى مهمات «أنصار الشريعة» في تونس، هي ممارسة أكبر مقدار من الضغط على حركة النهضة الإسلامية، التي وصلت إلى السلطة، وفق الآليات الديموقراطية، بالتشديد على وجوب «تطبيق الشريعة». فبدأت «أنصار الشريعة» في تفعيل مبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» عبر الكلمة، و العمل في الوقت عينه للتهيئة لإيجاد الأرضية الصلبة لممارسة الكفاح المسلح.
ومنذ نجاح الثورة التونسية في إسقاط النظام الديكتاتوري السابق، ظهرت هذه الجماعات السلفية المتشددة التكفيرية، و اشتدت نزعاتها العدوانية ضد الشعب التونسي من خلال تحالفها مع حركة النهضة الإسلامية باعتبارهما يشربان من نفس الينوع، أي المرجعية الإسلامية، و إن اختلفتا في التصورات و التطبيقات العملية لكل منهما. و أصبحت هذه الجماعات السلفية التكفيرية ترى في اليسار التونسي، و العلماني، عدوّاً، بل ذهبت أبعد من ذلك في ممارساتها، إذ بات الكافر من وجهة نظرها هو كل مسلم لا يمارس دينه الإسلامي بشكلٍ حرفيّ. وبغية إعادة الأفراد المنحرفين إلى الصراط المستقيم، يجب التخلّص أولاً من زعماء التيارات اليسارية و العلمانية «الكافرة». وقد تحوّلت الأحياء الشعبية و الفقيرة في المدن التونسية الكبيرة، لا سيما تونس، وبنزرت، وسوسة، وصفاقس، معقلاً جديداً للسلفيين المتشددين.
الجماعات السلفية المتشددة التكفيرية في تونس، وميليشيات «رابطات حماية الثورة » المرتبطة بحركة النهضة، ليستا معنيتين بخوض الصراع ضد الإمبريالية الأميركية، فضلاً عن أن قضية تحرير فلسطين، و الصراع مع الكيان الصهيوني لطرده من بلاد المسلمين لا يشكلان أي اهتمام يذكر في توجهاتهما الأيديولوجية و السياسية، بل هم معنيون بعدوّ الداخل، أي التيارات الليبرالية و اليسارية و العلمانية. هذا ما يفسّر الاعتداءات المتكررة التي تعرّض لها العديد من الأحزاب السياسية، و المثقفين، و الفنانين، و أساتذة الجامعات، واغتيال القياديين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، إضافة إلى الكشف عن قائمة الاغتيالات لدى المجموعة السلفية التكفيرية المتورطة في قتل بلعيد، و التي تتضمّن أسماء عدد من القيادات الحزبية والسياسية من بينها الباجي قائد السبسي، وأحمد نجيب الشابي.
ما يميز التيارات السلفية الجهادية عن حركات الإسلام السياسي، أن الإسلام السياسي الراديكالي يريد تطبيق مبادىء الشريعة الإسلامية على الحياة الاجتماعية والسياسية في تونس، وهو ما يعني الأسلمة للمجتمع. وبينما ترفض التيارات السلفية الجهادية الوضع الراهن لهذه المرحلة من الانتقال الديمقراطي، وتعتمد العنف و سيلة أساسية لتطبيق برنامجها في تونس. والإسلاميون الجهاديون أنفسهم يشيرون إلى فوارق واضحة بينهم وبين الإصلاحيين المسلمين أو التقليديين.
-3-
تحولت البلدان العربية والإسلامية، التي ضعفت فيها سيطرة الدولة، أو حتى انعدم فيها ذلك الوجود، إلى ملاذات آمنة لتنظيم «القاعدة»، على غرار، اليمن، وموريتانيا، والصومال، ومالي، وليبيا. وعندما انطلق «الربيع المغاربي» في بداية عام 2011، وبدأت الشعوب العربية تطالب بإقامة ديمقراطية حقيقية و فعلية في تونس ومصر واليمن، اعتقد معظم المحللين العرب أن «الربيع المغاربي» قوّض بصورة حقيقية معاقل تنظيم «القاعدة»، الذي أصبح الخاسر الأكبر من تلك التغيرات.
فقد حذر النائب السابق لزعيم تنظيم «القاعدة» الدكتور أيمن الظواهري (الذي أصبح بعد مقتل أسامة بن لادن الزعيم الأول للتنظيم) الشعوب العربية بعد انتصار الثورتين التونسية والمصرية العلمانيتين إلى حدٍّ كبير، من أنهم يخرجون عن الإسلام، واصفاً الديمقراطية بأنها «لا يمكن سوى أن تكون غير دينية». فدحضت الثورات العربية أيديولوجيا «القاعدة»، وقدمت خياراً استراتيجياً بديلاً للشعوب العربية يقوم على التغيير السلمي، بدلاً من «الخيار العسكري»، الذي جعلت منه «القاعدة»، ومنظرو «السلفية الجهادية» الطريق الوحيد للتغيير السياسي في العالم العربي.
بعد سقوط العقيد القذافي الذي حذّرَ عندما كان محاصراً، من أن سقوط نظامه سيؤدي إلى انتشار الفوضى و الحرب المقدسة في شمال إفريقيا… وكان من النتائج الأولى لسقوط النظام الليبي أن لم تستطع الجمهورية المالية أن تصمد كثيراً، أمام المعطيات الجيوبوليتيكية الجديدة لمرحلة ما بعد سقوط نظام العقيد القذافي، باعتبارها مفتاح فهم المشاكل الحالية، و المتمثلة في الصدمة الثلاثية الأبعاد، وصول الإسلاميين إلى السلطة في ليبيا، و تفجير المتمردين الطوارق الصراع المسلح في شمال مالي مع بداية عام 2012، إضافة إلى تمدّد «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي » في الصحراء. علماً أن الديمقراطية في مالي الراسخة في هذا البلد منذ عشرين سنة كانت تلقب بالنموذج الذي يحتذى به في منطقة إفريقيا الفرنكوفونية..
«الربيع المغاربي» بطبيعته السلمية، أضرّ ب«القاعدة» وحلفائها على الصعيد الأيديولوجي، لأن الثورات الديمقراطية العربية رسمت معالم طريق مختلفة عن تلك التي وضع أسسها سيد قطب، وتبعه عبدالسلام فرج، ثم الظواهري وغيرهم. فالثورات تؤكد أهمية النزوع السلمي، والدولة المدنية، والانفتاح علي العالم، وهي طرق مناقضة، بل معاكسة تماما، لرهانات القاعدة أيديولوجيا وسياسيا.
ساعد الوضع الجديد بعد سقوط نظام العقيد القذافي الحركات الإسلامية الجهادية المرتبطة بتنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، على الصعيد اللوجيستي من خلال اتساع المناطق غير الخاضعة للسيطرة الحكومية، و انتشار السلاح، والفوضى في الشرطة والأجهزة الأمنية. فانفتح الصراع الشامل من مالي وموريتانيا في غرب إفريقيا إلى الصومال في منطقة القرن الأفريقي، وأصبح صراع تنظيم «القاعدة» والمنظمات المرتبطة به، ذو طبيعة عنفية، مرتبطاً برؤية جيوبوليتيكية. وصارت الصوملة بمنزلة النموذج الجديد المتوقع أن يسيطر على تطور الأحداث القادمة في تلك المنطقة التي تضم الصحراء الكبرى والقرن الإفريقي.
بعد سقوط نظام القذافي تحولت منطقة المغرب العربي إلى مسرح حقيقي لنشاط الجماعات الإسلامية الجهادية، لا سيما من جانب «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، الذي وسّع نشاطه ليشمل المناطق الممتدة من جنوب موريتانيا إلى السودان، مروراً بالبلدان الواقعة جنوب الصحراء الكبرى: مالي والنيجر وتشاد.
بعد الضربات التي تلقاها تنظيم «القاعدة» في العراق، و اليمن، وأفغانستان، بفعل الدور الذي لعبته القوات المسلحة المحلية ووكالة المخابرات المركزية الأميركية «سي. آي. إي»، عملت قياداته على تأسيس ملاذات آمنة جديدة في منطقة المغرب العربي، وبلدان الصحراء الكبرى، والصومال، حيث تمكنت التيارات السلفية الجهادية المرتبطة بالقاعدة من شن عمليات ضد الولايات المتحدة الأميركية أو وكلائها في هذه المناطق.
في دراسة معمقة عن أيديولوجيا القاعدة و محاولة« التكيف » مع الثورات العربية(1)، يبين لنا الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية، الدكتور محمد أبو رومان، الخطاب الأيديولوجي للقاعدة، والسلفية الجهادية عموما، الذي لا يؤمن باللعبة السياسية، ولا بصندوق الاقتراع في التغيير، ولا حتي بالتغيير السلمي، لأنه أسقط من حساباته الخيارات كافة، وأبقى على العمل المسلح والسري، بصوره وصيغه المتعددة. وقد استقر هذا الخطاب الأيديولوجي والإعلامي منذ ما يزيد علي عشرة أعوام علي توحيد وجهة الصراع مع «العدو القريب» (الأنظمة العربية الحاكمة) والعدو البعيد (الولايات المتحدة الأمريكية، والغرب عموما)، بل ومنح الأولية والأهمية للصدام مع الولايات المتحدة، باعتبارها الداعم الرئيسي لهذه الأنظمة. التحول في الأيديولوجية الجهادية من قتال الأنظمة العربية -«العدو القريب»- التي دشن مرتكزاتها كتاب عبدالسلام فرج «الفريضة الغائبة»(1) في ستينيات القرن الماضي إلى قتال الولايات المتحدة العالمية – «العدو البعيد»- مع كتاب «فرسان تحت راية النبي» لأيمن الظواهري، ظهر مفهوم «عولمة الجهاد»، الذي قاد إلي عمليات كبرى للقاعدة، وردود فعل أميركية ودولية، تخللتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، والحرب الأفغانية، و«حرب أمنية» شملت كثيرا من بقاع العالم. وبعد تسلم أيمن الظواهري زمام قيادة القاعدة وجد نفسه أمام تحدّي الثورات الديمقراطية العربية، التي تطرح أسئلة جوهرية علي ما كرسه هو نفسه من بناء أيديولوجي يقوم علي أولوية مواجهة العدو البعيد من ناحية، واستخدام السلام بوصفه طريقا وحيدا للتغيير، من ناحية أخرى (2).
لقد قدم عدد من القيادات البارزة «للقاعدة» مقاربات فكرية للثورات الديمقراطية العربية، حيث تبدو رسائل أيمن الظواهري، حول الثورات الديمقراطية، من أهم «الوثائق» بهذا الخصوص، وتحديدا ما سمي بـ«رسالة الأمل والبشرى لأهلنا في مصر» (ربيع الثاني 1432هـ)(3)، وكذلك مقالة أبي يحيي الليبي، وهو المفتي الشرعي والفقهي للقاعدة، بعنوان «ثورات الشعوب بين التأثر والتأثير»، في العدد 18من مجلة «طلائع خراسان» (ربيع الثاني 1432)، وهي المجلة الأكثر تأثيراً وحضوراً لدي تنظيم القاعدة، وتحمل المواقف الأكثر أهمية لقادتها، وأخيرا مقالة أنور العولقي، بعنوان «تسونامي التغيير»، في مجلة «الإلهام» التي تصدرها قاعدة الجزيرة العربية باللغة الانجليزية(4).
يعد الظواهري بمثابة المنظر الأيديولوجي للقاعدة، وتناوله لموضوع الثورات علي درجة من التأثير في مسار القاعدة وأفكارها، ويمكن أن يمثل ملامح الخطاب الجديد أو التغيرات في خطابها. في رسالته، يخصص الظواهري الجزء الأكبر للشأن المصري، ويسهب في نقاط رئيسية، أبرزها:
– اعتبار أن ما حدث من ثورات ديمقراطية عربية هو جزء مكمل للحرب التي تخوضها القاعدة في العراق وأفغانستان ضد الغرب والأنظمة المتحالفة معه، بهدف تحرير الأمة من الاستبداد والاحتلال. «أمتنا تخوض معركة واحدة ضد غزاة الحملة الصليبية ووكلائهم حكامنا الفاسدين المفسدين» (5).
– التحذير من الأجندة الأميركية والغربية، والتشكيك في جدوي دعمهم للثورة المصرية، بل وتأكيد أنهم لا يريدون إقامة حكم حر حقيقي في العالم العربي، يمثل نظاماً إسلامياً شورياً ويرفض احتلال أراضي المسلمين، ويواجه المطامع الإسرائيلية. بل يري الظواهري أن كل ما تريده الولايات المتحدة هو «نظام يعطي الشعب بعض الحريات، ولا يهدد مصالحها، ولا يمس أمن إسرائيل» (1). – ثم يشير الرجل إلى التحالف بين الولايات المتحدة الأميركية والمجلس العسكري في مصر، معتبرا أن ما تم هو «ثورة انتهت بانقلاب عسكري»، ومحذراً من أن بعض الإنجازات التي تحققت لا تعادل ما بقي علي حاله، مما يعني أن الأهداف الحقيقية للثورة لم تنجز، بل تم التحايل عليها من خلال دور الجيش.
– الجزء الأكثر أهمية في رسالته يبدو في تحذير الظواهري من «سرقة الثورة»، بعدم تحكيم الشريعة الإسلامية أو التلاعب بهوية مصر الإسلامية. وفي هذا السياق، يطالب الإسلاميين والمصريين جميعا بالدفع نحو تطبيق الشريعة الإسلامية، وعدم القبول بالحكم الديمقراطي بديلا عنها، وضحا لفوارق بين الشوري الإسلامية والديمقراطية الغربية(2).
أما أبو يحيي الليبي، فهو أحد أبرز قادة القاعدة اليوم، وتحديدا في مجال التنظير الفكري والفقهي. وتبدو مقالته «ثورات الشعوب بين التأثير والتأثر» أكثر تحديدا ودقة من رسالة الظواهري، إذ يحدد فيها – بصورة حاسمة – لأنصار التيار في مختلف البقاع ما هو مطلوب منهم، وما هي أهدافهم، وما المحددات في تفاعلهم مع الثورات، حتي لا تؤثر سلبا في ولاء الأفراد للقاعدة، فكراً وتنظيماً. وهو يرى أن هذه الثورات تشكل «فرصة سانحة» يجب استثمارها، لكن مع عدم الاندفاع وراء «صيحات التغيير» من غير تثبت واستبصار. ويصوغ لذلك قاعدة رئيسية: «المطلوب من المجاهدين أن يتقنوا الولوج للأحداث، محافظين علي جهادهم ومبادئهم، وأن يحذروا من تسلل شيء من (المفاهيم) المعوجة إليهم في غمرة الانشغال والانفعال مع التغيرات الكبرى المتسارعة الباهرة، وأن تكون مرتكزات مسيرتهم راسخة في أذهانهم، مصقولة في تصوراتهم، وأن يكون هم المحافظة عليها وصيانتها وتدعيمها وزيادة ترسيخها فوق كل شيء» (3).
من الواضح أن «المعادلة» التي يضعها الليبي توازن بين أمور عدة. فهي من جهة، لا تريد أن تبدو القاعدة وكأنها الخاسر من هذه الثورات أو في جهة مضادة لها، بل يريد أن تظهر وكأنها في المسار نفسه. ومن جهة أخرى، يدفع باتجاه المشاركة في الأحداث، حتى تكون القاعدة جزءًا من الأحداث والتغييرات. لكن في المقابل، هنالك الخشية من «الانبهار» بالثورات وما تؤول إليه، مما يضعف فكر القاعدة وخطابها، وهذا عين ما يخشاه الرجل ويحذر منه في فقرات متعددة من مقالته(4).
في تعريفه لموقف القاعدة من الثورات، يستعين الليبي بمثل توضيحي: انتقال سجين منذ أبد بعيد «مكبل الأيدي والأرجل داخل غرفة انفرادية، ممنوع فيها من الكلام ولا يري من النور إلا خيوط أشعة رقيقة تخترق أحيانا ثقوبا من نافذتها» إلي غرفة جماعية ضمته بعدد من (السجناء الأحرار) «داخل زنزانتهم المتسعة فرأي النور، وتكلم مع رفقائه متى شاء، وصلي معهم جماعة، ودار معهم وسط غرفته الجديدة برجلين طليقتين من القيود»(5).
عندما انطلقت الثورات الديمقراطية في البلدان العربية، وتحولت في سيرورة ارتقائها إلى ثورات الشعوب العربية بأكملها بجميع أطيافها ومكوناتها رجالا ونساء مدنيين وعسكريين ورجال أمن، توحدوا مع الثوار وطوروا مطالبهم، بات معظم المحللين العرب يعتقدون أن تحقيق ثورات ديمقراطية فعلية في هذه البلدان، هي التي تقوض بصورة حقيقية معاقل تنظيم القاعدة، الذي أصبح الخاسر الأكبر من التغيرات الجارية في العالم العربي.
غير أ ن تجربة حركات الإسلام السياسي التي فازت في الانتخابات من بوابة الآليات الديموقراطية في دول «الربيع المغاربي»، و تحالفت مع الحركات الجهادية التي تمارس الإرهاب، أنبتت ربيعاً مغاربياً مشوباً بعلامات الشيخوخة المبكرة. ولعل في كتاب رضوان السيد الصادر عام 2005 عن دار الكتاب العربي في عنوان «الصراع على الإسلام – الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية»، ما يختصر صورة المشهد الحالي في بلدان« الربيع المغاربي»، وما قد يترتب عليها من نتائج، بقوله:… نحن لا نملك في الفكر العربي والإسلامي المعاصر رؤية للعالم، لا بالمعنى النظري ولا بالمعنى الاستراتيجي – السياسي – نعيش غياب مؤسسات الحوار مع الآخر في الدين والسياسة – تياران يحكمان العالم الإسلامي اليوم: التيار الرسمي والشعبي التقليدي، والتيار الإحيائي بشقيه السلفي والأصولي المعتدل أو المتطرف – صعوبة تحقيق الإصلاح – وجود هجمة قد تطيل من عمر هذه الحركات الأصولية-
-4-
وفيما كانت الدول العربية تهتز تحت وطأة الاضطرابات الداخلية، خرج تنظيم «داعش» ليعلن في شهر جوان 2014عن إنشاء «الدولة الإسلامية في العراق و الشام »، بوصفها دولة الخلافة الاسلامية، ويدعو المسلمين إلى مبايعة أبي بكر البغدادي خليفة لهم.. وبمعزل عما إذا كانت هذه «الخلافة» قابلة للحياة والاستمرار، فإن مجرد الاعلان عن ولادتها، يعكس المدى الذي بلغه مشروع التطرف والتكفير الذي ترفعه الحركات الجهادية، على أنقاض مقولات الاعتدال والوسطية والعيش المشترك والتنوع.
و فيما يخص الدراسات المعمقة حول تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق و الشام» -«داعش» يشكل كتاب عبد الباري عطوان، الحامل لعنوان «الدولة الإسلامية -الجذور، التوحش المستقبل»(1) مصدراً مهماً لفهم تلك الظاهرة، نظرا لما يحتوي عليه من معلومات عن هذا التنظيم- الدولة، الذي ولد حديثا بالعراق، حيث أن الاحتلال الأميركي للعراق منذ عام 2003، شكل الحاضنة الحقيقية لقيامه، بسبب سياسات الاحتلال التدميرية للدولة العراقية ومؤسساتها، لا سيما الجيش العراقي و أجهزة المخابرات، إضافة إلى سياسات القهر و التهميش و الإقصاء والإذلال التي مورست على الطائفة العربية السنية في العراق، أثناء فترة الاحتلال التي امتدت أكثر من 11 سنة، وهي من العوامل التي هيأت البيئة الملائمة لنمو «بذرة» الدولة الإسلامية وترعرها وامتدادها، وتحولها إلى نموذج يجذب عشرات الألاف من الشباب العربي والمسلم المحبط في مختلف أنحاء العالم.
ولكن تنظيم «داعش» أيضاً هو النتاج الطبيعي لطبيعة النظام الطائفي و المذهبي في العراق الموالي لإيران، في عهد رئيس الوزراء نوي المالكي، الذي مارس سياسية ثأرية و انتقامية تجاه الطائفة السنية، لا سيما بعد أن تبنى بعض أبناء هذه الطائفة السنية نهج المقاومة للاحتلال والعملية السياسية المنبثقة من رحمه. و يعتبر تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» الامتداد الطبيعي لتنظيم «القاعدة ببلاد الرافدين» الذي أسسه أبو مصعب الزرقاوي في 17 أكتوبر 2004، وتحول إلى الجماعة الأساسية التي تجمع المقاتلين العرب و الأجانب الذين قدموا إلى العراق بغية محاربة القوات الأميركية، ومن أجل إقامة دولة العراق الإسلامية.
كان لقرار إدارة بوش السابقة غزو العراق عواقب وخيمة على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وعلى العالم العربي نفسه، وأدّى إلى تشكيل حكومة متحالفة مع إيران ومنعزلة عن العالم العربي، هي حكومة نوري المالكي التي وضعت العراق على شفا التفكك، مع اتجاه كردستان إلى الاستقلال أكثر من أي وقت مضى، واتجاه السكان السنة إلى التمرد ضد الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة، وهو ما ساعد في اشتعال الصراع الطائفي بين السنة والشيعة والذي يجتاح منطقة الشام والخليج الآن ويمزق سوريا.
وتظل الحاضنة الأديولوجية ل«الدولة الإسلامية»، التيار السلفي الجهادي العالمي، القاسم المشترك مع «القاعدة»، فهناك أصول مشتركة جامعة، مثل مبدأ «الحاكمية»( أي تحكيم الشريعة الإسلامية و تطبيقها تطبيقاً محكماً مثل ما كان الحال في دولة المدينة)، والكفر بالطاغوت (تكفير كل الأنظمة التي لا تطبق الشريعة)، و الولاء و البراء، ( الالتزام المطلق بالجماعة المسلمة الموحدة و البراء من الكفار و المشركين والمرتدين )، والانطلاق من الدعوة النظرية للإسلام و العقيدة إلى الجهاد المسلح كأداة للتغيير وتحقيق الأهداف و أبرزها فرض الشريعة والقضاء على الطواغيت.
في نظر المحللين المتخصصين بشؤون الحركات الجهادية التكفيرية، تعتبر العمليات التي يقوم بها تنظيم «داعش» الإرهابي، لا سيما عمليات الذبح، مرحلة جديدة ترتكز على بث الفوضى في المدن وإثارة الرعب في نفوس المدنيين من خلال استهدافهم بعمليات نوعية، في تطوّر الظاهرة الإرهابية في البلدان العربية. ويعتبر «التوحش » جزءًا أساسياً من ترسانة السلاح النفسي للجهاديين، وقد تم التعبير عنه في شكل جلي من خلال دراسة طويلة في العام 2004 معنونة « إدارة التوحش- أخطر مرحلة ستمر بها الأمة»، من إعداد أبو بكر ناجي (اسم حركي)، أحد منظري تنظيم «القاعدة»، والذي اتخذته في ما بعد الجماعات التكفيرية والجهادية كدليل توجيهي يحكم وجودها وتطوّرها، ودستورًا تتقيّد به في تحرّكاتها. وتحدّثت هذه الدراسة عن ثلاثة مراحل أساسية لبلوغ الهدف الأسمى بالنسبة لهذه الجماعات التكفيرية وهي إقامة دولة الخلافة، وهي مرحلة «شوكة النكاية» ومرحلة «إدارة التوحّش» ومرحلة «التمكّن »..
وجاء في الكتاب الذي يعكس فكر الدولة الإسلامية والجهاديين الإسلاميين :«إن أفحش درجات التوحش أخف من الاستقرار تحت نظام الكفر»، و يضيف :«إذا نجحنا فيها فهي المعبر نحو الدولة الإسلامية المنتظرة منذ سقوط الخلافة»، ولهذا ليس على المجاهدين انتظار نشوء التوحش تلقائياً بل التسريع به من خلال ضربات النكاية و الإنهاك.
الدولة الإسلامية التي حملت هذه التسمية رسمياً في جوان 2014، بعد استيلاء قواتها على مدينة الموصل، ومبايعة أبي بكر البغدادي في مسجدها الكبير «خليفة»، هذه الدولة لم تنشأ من فراغ، ولا أجنداتها الإسلامية المتشددة التي وجدت في دولتين علمانياتين مثل العراق وسوريا. ويعود نجاحها و نشوئها بالسرعة المفاجئة إلى عدة عوامل أساسية معقدة ومتعددة، وأحداث وظروف غير مسبوقة، منها: الفوضى، وعدم الاستقرار، والطائفية، وسوء التقدير، والظلم، والإقصاء، والاستبداد، والتدخلات الإقليمية الإيرانية في العراق، والرغبة الأميركية –الصهيونية في تفتيت الدول العربية المركزية تحت عناوين الحضارة ومحور الإمبراطوريات، كلها عوامل، متفرقة، أو مجتمعة، قدمت الفرصة الذهبية ل«الدولة الإسلامية» للنشوء والتوسع و بذر بذور نواتها الأولى في منطقة شاسعة من الأراضي تمثل ثلث مساحة سوريا(الرقة ودير الزور وجوارهما)، وربع أرض العراق (الموصل و الرمادي وصلاح الدين )، أو ما يعادل ثلاثة أضعاف مساحة إنكلترا التي كانت في يوم من الأيام إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس. و تتحمل السياسة الخارجية الأميركية و تدخلاتها «غير المقصودة» في التسعينيات (حرب الكويت ) وأوائل القرن الحادي والعشرين (احتلال العراق سنة 2003) المسؤولية الكبرى في هذا الصدد.
تركيبة قيادة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»- «داعش»، وكيف تتم إدارة العمليات العسكرية وشؤون المناطق التي يسيطر عليها. في هذا السياق، لا بد من القول أن زعيم «داعش» أبا بكر البغدادي غيّر الطريقة التي كان يعتمدها سلفه أبو مصعب الزرقاوي، الذي كان يدير شؤون «الدولة الإسلامية في العراق» بطريقة مركزية في اتّخاذ القرارات، حيث عين البغدادي عدداً من المساعدين، يعملون مثل «حكومة كاملة» تعمل على جبهتين، الأولى العمليات العسكرية في سوريا والعراق، والثانية إدارة الشؤون اليومية للسكان الذين يعيشون في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم. ويقول المحلل هشام الهاشمي الذي اطّلع على الوثائق التي حصل عليها الجيش العراقي :«أعتقد أنّ البغدادي بمثابة الراعي، ونوابه مثل الكلاب التي تحرس القطيع، فقوة الراعي تأتي من كلابه».
وتوضح هذه الوثائق أنّ للبغدادي معاونين رئيسيين، هما اللواء السابق في الجيش العراقي أبو علي الأنباري، الذي يدير العمليات العسكرية للتنظيم في سوريا، والثاني هو أبو مسلم التركماني، وكان مقدّماً في الاستخبارات الحربية العراقية. و هناك مجموعة من الأشخاص يساعدون التركماني والأنباري، وتضم «ولاة» على المناطق التي يسيطر التنظيم عليها. وبحسب الوثائق فان أبا صالح، واسمه الحقيقي موفق مصطفى محمد الكرموش، يدير مالية «داعش» في المحافظات العراقية، كما أن هناك أشخاصا مسؤولين عن الأسرى ونقل الانتحاريين إلى مناطق التفجير، وغيرهم يهتم بعائلات «الشهداء». وأشار الهاشمي ومسؤول رفيع المستوى في الجيش العراقي إلى وجود 25 ألف شخص منضوين في «داعش». وهناك حوالى ألف قيادي ميداني، يملكون خبرات عسكرية، بينما يتفاوت المعاش من 300 إلى ألفي دولار شهريا.
تعتمد هذه الدولة الإسلامية «داعش»، على استقطاب المقاتلين الأجانب المدفوعين بأيديولوجية دينية مشتركة، والانتماء إلى هوية وطنية عابرة للحدود( وهي «الأمة الإسلامية» في هذه الحال). ومن المهم الإشارة هنا إلى أن مفهوم الأمة يعتبر أساسيا في أيديولوجية الجهاديين. و «أمة المسلمين » ليس لها حدود، كما أن الجهاديين يرفضون بشدة الحدود المصطنعة التي رسمتها القوى الاستعمارية الغربية بعد الحرب العالمية الأولى، وفق اتفاقيات سايكس بيكوسنة 1916.
*- مفكر وناقد وباحث تونسي معروف متخصص في قضايا المجتمع والفكر السياسي. له عدد كبير من المؤلفات في مختلف القضايا القومية والسياسية في المجتمع العربي المعاصر .
(1)- بول سالم:مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط – بيروت، تونس تَقلِبُ المشهد السياسي العربي، صحيفة الحياة، الخميس, 20 جانفي 2011.
(1)- محمد أبو رمان وحسن أبو هنية، «أنصار الشريعة» أشكال استجابة القاعدة للتحول الديموقراطي في العالم العربي، صحيفة الحياة، الخميس 3 جانفي 2013.
(1)- محمد أبو رومان، أيديولوجيا القاعدة و محاولة «التكيف» مع الثورات العربية، مجلة السياسة الدولية، العدد 185، جويلية 2011، (ص 28).
(1)- انظر:حول كتاب عبد السلام فرج، الفريضة الغائبة، مقال عمر الشحات، «الفريضة الغائبة، كتاب عبد السلام فرج الذي أسس لفكر التنظيم»، صحيفة المصري اليوم، 17نوفمبر 2007.
(2)-انظر خبر تولي الظواهري خلافة بن لادن، صحيفة الحياة اللندنية، 7جوان 2011، بعنوان : الظواهري المطلوب الأول في العالم.
(3)- انظر نص رسالة الظواهري على الرابط التاليshowthread. php?t=4434/www. aljahad. com/vb/:
(4)- انظر: ترجمة المقال بالعربية، الرابط التالي:
ands. blogspot. com/30/2011/blog-post. 5449html
(5)-أيمن الظواهري، رسالة البشري والأمل لأهلنا في مصر، مرجع سابق.
(2)-المرجع السابق عينه .
(3)- أبو يحيى الليبي، ثورات الشعوب بين التأثير و التأثر، مجلة طلائع خراسان، ع18، ربيع الثاني، 1432
(4)-(د. محمد أبو رومان، أيديولوجيا القاعدة و محاولة «التكيف» مع الثورات العربية، مجلة السياسة الدولية، العدد 185، جويلية 2011، (ص 28).
(5)- أبو يحيى الليبي، ثورات الشعوب بين التأثير و التأثر، مجلة طلائع خراسان، ع18، ربيع الثاني، 1432.
(1)-عبد الباري عطوان ، الدولة الإسلامية الجذور، التوحش، المستقبل ، دار الساقي ، بيروت ، الطبعة الأولى 2015.