قراءة في كتاب: العقل المحكم، راهنيته: التحديات والرهانات

1- تمهيد:

 كتاب العقل المحكم من تأليف المفكر الفرنسي إدغار موران، وترجمة أستاذ علم الاجتماع التونسي المرحوم منصف وناس (1958 / 04 نوفمبر 2020). ويعتبر عصارة تفكير إدغار موران في الفلسفة والثقافة التربية والعلوم والمعرفة الكونية، لذلك لم يهدر الأستاذ منصف وناس الفرصة فاغتنمها ليترجم الكتاب لما فيه خير للإنسانية في الاستفادة من بعضها بعضا. فكانت هذه الترجمة التي نتناولها في قسمين كبيرين: مدار القسم الأول على التقديم المادي للكتاب، والقسم الثاني على أهم القضايا التي بسطها الكتاب للدرس والتأمل والحوار.

2- القسم الأول: التقديم المادي للكتاب:

2 -1- العنوان:

العقل المحكم: إعادة التفكير في الإصلاح وإصلاح التفكير، كتاب للفيلسوف الفرنسي المعاصر إدغار موران (Edgar Morin) بعنوان: «La tête bien faite: Repenser la réforme- réformer la pensée» الصادر عن دار Seuil)) سنة 1999.

عرّبه عالم الاجتماع الأستاذ الجامعي والباحث المميز المرحوم منصف وناس وراجعه الأستاذ فرج معتوق، ونشره معهد تونس للترجمة في طبعته الأولى سنة 2020، أي شهورا قبل رحيل المترجم… ولهذا العمل في مثل هذا التاريخ والسياق الثقافي والحضاري المحلي والعربي والعالمي دلالات كثيرة وعميقة سنحاول تجليتها لاحقا…

والكتاب من الحجم المتوسط (13.5 / 21) وعدد صفحاته مئتان (200).

2-2- أقسام الكتاب:

يتألف الكتاب من قسمين كبيرين غير متكافئين كميا: تسعة فصول وأربعة ملاحق.

*القسم الأول وهو الأكبر (حوالي 130 صفحة): توطئة وتسعة فصول هي:

  • الفصل 1 التحديات
  • الفصل 2 العقل المحكم
  • الفصل 3 الوضع البشري
  • الفصل 4 تعلم كيفية العيش
  • الفصل 5 مجابهة الارتياب
  • الفصل 6 تعلم وضع المواطن
  • الفصل 7 المراحل الثلاث
  • الفصل 8 إصلاح التفكير
  • الفصل 9 فيما وراء التناقضات
  • القسم الثاني الأصغر (حوالي 60 صفحة): الملاحق الأربعة وهي:
  • -الملحق 1 ثقب اللائكية الأسود
  • – الملحق 2 التخصصية البينية والمتعددة والعابرة
  • – الملحق 3 الهجرة والاندماج
  • – الملحق 4 مفهوم الذات.

2 -3- تأطير كتاب العقل المحكم محليا وكونيا:

      من الواضح أن ترجمة كتاب أو وثيقة أو عمل فني هو في الغالب الأعم اختيار واع من المترجم تقصّده ليبلّغ رسالة لمن يهمّه الأمر في لحظة انسداد فكري وثقافي وعلمي وحضاري لم يعد مأمونا تحقيق الأهداف المنشودة، ولا سيّما إصلاح المجتمع عبر الخطاب المباشر في ذلك الانسداد وما يحدث  أثناءه  من جلبة وضوضاء بل وجعجعة حول المشكلات وحلولها دون فوائد تذكر أو ثمار تقطف…لذلك وجب تأطير الكتاب في سياقاته العالمية والمحلية، والتخلّص إلى أهم القضايا التي طرحها الكتاب وتحليلها ونقدها بما يجلي غايات الكتاب ورسائله وكيفيّة استفادتنا منه نحن العرب عامة، والتونسيين خاصة، لما نعيشه من أزمة تربوية خانقة  أكّدت  حاجتنا إلى إصلاح العقول بما يخدم التربية وإصلاحها، وبما ينير العقول ويساعد على فهم التحديات المعاصرة ومعرفة سبل مجابهتها بعيدا عن كافة أشكال الجهل والتعصب والإقصاء والكراهية والشعور بالدّونية ….

3- القسم الثاني: القضايا الكبرى للعقل المحكم:

وبالعود إلى كتاب العقل المحكم، فإنّ إدغار موران قد طرح فيه قراءته لأزمة التعليم والفكر قراءة شاملة ومعمقة، يمكن تركيزها في أربعة محاور كبرى هي:

  • التحديات التربوية والثقافية والحضارية المحلية بفرنسا والكونية بالعالم. وتشمل تجليات الأزمة وعواملها المختلفة
  • الرهانات الفكرية والحضارية في الألفية الثالثة محليا وكونيا
  • الرهانات التربوية
  • الإصلاح الفكري والتربوي بين الترقيع والجذرية

3 -1- التحديات التربوية والثقافية والعلمية والحضارية:

   يحاول إدغار موران أن يفهم الصعوبات والعراقيل التي تقف دون نجاح المدرسة اليوم في أداء رسالتها التربوية والثقافية والحضارية. وهو يختار عمدا عبارة تحديات عوضا عن الصعوبات والعراقيل والأزمة … بغية التأكيد، منذ البدء، على ضرورة مجابهة هذه الصعوبات، وحل المشكلات، وتخطي العراقيل، وتيسير التعقيدات وتجاوزها.

ولعل ضبط عددها وطبيعتها ومداها خير وسيلة للسيطرة عليها. فالتحديات عند موران سبعة.

ويمكن تقسيمها إلى نوعين نوع أصل/ أم ويتوزع إلى ثلاثة تحديات، ونوع ثان فرع وينقسم إلى أربعة.

3 -1-1- التحديات الأمّهات:

    تقف أمام الفكر البشري العلمي والتربوي والثقافي والحضاري، راهنا وأكثر من يوم آخر سابق، تحديات أمهات ثلاث يصنفها موران بأنها تحديات “تنظيم المعرفة”.

3 -1-1-1 التحدي الأول: الشمولية والتعقيد:

يعتقد إدغار موران أن أبرز تحدّ اليوم يواجه الإنسان اليوم هو تحدي الشّمولية والتعقيد.

فمن المعلوم أن الثقافة والعلوم والمعرفة بصفة عامة قد غادرت الموسوعية مثلما كانت قبل القرن التاسع عشر، وخاصة منذ القرن العشرين ونحت نحو ثقافة التخصص[1]، فانعكس ذلك على المناهج التربوية وميز المعرفة في الحضارة الحديثة. وهذا المنحى التخصّصي شديد الدقة يقف حائلا دون مجابهة تطور المعرفة اليوم، ولا سيما بعد الثورتين العلميتين الهائلتين اللّتين جدّتا في القرن العشرين. أما الثورة الأولى فكانت في بداية القرن وقد “بدأت بالديناميكا الحرارية التي وضعها بولتزمان (Boltzmann)… وتواصلت عبر تفكك مفهوم “لا بلاس” (Laplace) للكون [التي]غيرت تصورنا للعالم بشكل عميق. ونسفت السريان المطلق للمبدأ الحتموي…كما أنها كشفت حدود المسلمات المتصلة بالهوية للمنطق الكلاسيكي…كما استثارت أشكلة العقلانية العلمية المجسّدة خاصة في أعمال باشلار (Bachelard) وبياجي (Piaget) وبوبر (Popper)… لقد تعلمنا أنّ كل ما هو كائن لم يكن لينشأ إلا وسط الفوضى والاضطراب…”[2]. أما الثورة الثانية، والتي بمقدورها حسب موران أن تساهم في بناء عقل محكم، ” قد تم البدء فيها على جبهات متعددة في ستينات القرن العشرين [إذ] أنجزت ترابطات كبرى قادت إلى الإدراج في السياق وشوملة المعارف التي كانت حتى ذلك الحين مجزأة ومفككة وتسمح بتمفصل الاختصاصات بعضها ببعض بطريقة ناجعة فيما هو قادم”[3].

المشكلة التي يعانيها التعليم في فرنسا وفي العالم هو عدم الوعي بمكتشفات الثورات العلمية ومنهاجياتها المنجزة في العقود الأخيرة ولا سيما بعد الستينات. وبقيت مناهج التعليم وبالتالي الثقافة والتفكير متأثرة بالتخصص والتفكك، ولم تستوعب بعد ضرورة الشوملة. يقول موران: “ثمة عدم تلاؤم يتزايد اتساعا وعمقا وخطورة بين معارفنا المفككة والمجزأة والمقسمة بين الاختصاصات من جهة وحقائق أو مسائل تنحو إلى أن تكون متعددة الاختصاصات ومستعرضة ومتعددة الأبعاد وعابرة للأوطان وشاملة وعالمية أكثر فأكثر من جهة أخرى”[4].

ويرتبط بتحدي الشمولية تحدي التركيب. كيف يمكن اليوم بناء معرفة دقيقة وسليمة بالكون والأشياء والإنسان دون المقدرة على تقديم فهم متكامل وغير مجزأ أومفكك. إنه تحدي التركيب والتعقيد الذي يفرض علينا معرفة شمولية ومعقدة في الآن نفسه. إن أي قراءة لمعطيات الواقع دون الإحاطة بكل جوانبه وترابطات مكوناته يعطينا قراءة اختزالية تبسيطة أحادية تشوّه الواقع وتقصر عن تحدياته.

وهو ما يلح عليه موران بقوله “إن تحدي الشمولية هو في الوقت نفسه تحدي التعقيد. وفعلا، يحضر التعقيد حينما تكون المكونات المختلفة المشكلة للكلّ (مثل الاقتصادي والسياسي والسوسيولوجي والنفسي والعاطفي والأسطوري) غير قابلة للفصل، وحينما يكون النسيج ترابطيا وتفاعليا بين الأجزاء والكل والكل والأجزاء. والحال أن التطورات الخاصة بقرننا هذا وبكوكبنا تجعلنا نواجه وبحتمية أكبر فأكبر تحديات التعقيد”[5].

وقد اهتم إدغار موران بقضية التركيب والتعقيد التي باتت تميز المعرفة راهنا فتناولها في كافة مؤلفاته، ولا سيما كتاب المنهج في ستة أجزاء مفسرا منبها، ثم خصص ما لا يقل عن ثلاثة كتب لتحمل عنوان التعقيد وموضوعه، منها الفكر والمستقبل: مدخل إلى التفكير المركب ” Introduction à la pensée complexe ” والتعقيد البشري”La complexité humaine” والعلوم ووعي التعقيد “Science et conscience de la complexité”…

ويعرّف موران التعقيد في كتابه: “الفكر والمستفبل” قائلا: “ما هو التعقيد؟ من أول وهلة نقول إن التعقيد هو نسيج (complexus: ما نسج ككل) من المكونات المتنافرة المجمعة بشكل يتعذر معه التفريق بينها. إنه يطرح مفارقة الواحد المتعدد. ثانيا، بالفعل إن التعقيد هو نسيج من الأحداث والأفعال والتفاعلات والارتدادات والتحديدات والمصادفات التي تشكل عالمنا الظاهراتي. ولكن في هذه الحالة يحمل التعقيد بشكل مقلق سمات الخليط وغير القابل للفصل والاختلال والغموض واللايقين …من ثمة تظهر ضرورة تنظيم المعرفة للظواهر عبر كبت الاختلال وإزاحة اللايقيني أي انتقاء عناصر النظام واليقين وإزاحة الغموض والتوضيح والتمييز والترتيب…”[6].

إنّ ضرر عدم الوعي بأهمية التركيب العلمي المنهجي للمعطيات وبلورتها في معرفة متكاملة من شأنه أن ينعكس سلبا على وعينا وفهمنا. بل إن تركيز مفاهيم التخصص والتفكك والتجزئة بين ما حقه الشمولية التأليفية المنهجية والربط المحكم بين القوانين والمعطيات والتوحيد بينها يغرس مبكرا في أذهان الناشئة ويتدعم مع سن المراهقة والشباب ليصبح معرفة نهائية ومقدسة لدى الجميع صغارا وكبارا. وهذا ما تقع فيه الأنظمة التربوية. يقول موران: “قبل أن يدخل نظامنا التعليمي بعض التعديلات على مثل هذه التطورات أذعن لها. فهو يعلمنا منذ السنوات الأولى للمدرسة الابتدائية عزل الأشياء (عن محيطها) وفصل الاختصاصات (بدل الربط والإدماج). إنه يملي علينا ضرورة اختزال المركب إلى البسيط بمعنى تفريق ما هو مرتبط والتفكيك عوض إعادة التركيب وإلغاء كل ما من شأنه أن يجلب الفوضى أو التناقضات إلى إدراكنا”[7].

3 -1-1- 2- التحدي الثاني: السيطرة على المعرفة:

   كيف يمكن للمعرفة اليوم أن تسيطر على هذا الكم الهائل من المعلومات المتوالدة والمتكاثرة والمتعددة والمتنوعة؟ ليس بمقدور الإنسان اليوم أن يحيط بقدر محدود من الكم المتفجر من المعلومات. فالعصر حينئذ ليس عصر الفكر الموسوعي. لقد كان هذا الضرب من المعرفة ممكنا حينما كانت المعلومات محدودة مهما توسعت. ولكنها اليوم واسعة بل محيط متراكم متزايد لا قبل للدماغ به.

يقول موران:” …فالازدياد غير المنقطع للمعارف يؤسس لبرج بابل ضخم يعج بلغات متنافرة. وهذا البرج يسيطر علينا لأننا لا نستطيع السيطرة على معارفنا…”[8].

والخشية كل الخشية – إن لم يستنبط الفكر البشري منهجية تسيطر على التوسع المعرفي- أن “يفلت انتشار المعارف الرهيب من السيطرة البشرية”[9].

3- التحدي الثالث: إدماج المعارف العلمية والإنسانية

  تميز المعارف العلمية العصرية بالتخصص والدقة وعدم التحاور مع المعارف الإنسانية خلق هوة بين العلماء والتقنيين والخبراء الفنيين من جهة والأدباء والفلاسفة والأنتروبولوجيين وعلماء الاجتماع والنفس من جهة أخرى. فالتحدي المطروح حسب موران:” لم نتمكن من إدماج معارفنا لتسيير حياتنا.. “[10].

وينبه موران إلى تأثير هذه التحديات الثلاثة في مجالات الثقافة والسوسيولوجيا والحياة المدنية وتحدي التحديات والذي يقصد به الفكر المنهجي الجديد.

3 -1- 2- التحديات الفرعية:

3- 1- 2- 1- التحدي الرابع: التحدي الثقافي:

تكشف المعاينة الدقيقة لطبيعة الثقافة السائدة محليا وعالميا أننا لا نمتلك ثقافة شاملة ومتزنة وجامعة لفروع المعرفة الإنسانية اليوم بل هي كما يراها موران: “مقسومة إلى كتلتين. فحالة الانفكاك الكبرى بين ثقافة الإنسانيات والثقافة العلمية التي بدأت في القرن الأخير وازدادت في قرننا الحالي …”[11].

وعوض أن تسعى الثقافتان العلمية والإنسانية إلى التحاور بحكم التجاور والتقارب قصد التدامج في صيغة ذكية مجدية فإنهما، وعلى العكس من ذلك، وبسبب سوء التفاهم، تبادلتا الاتهامات وتنافرتا وتفاصلتا. فبينما حقرت الثقافة العلمية والتقنية من شأن ثقافة الإنسانيات إذ لم تر فيها إلا: “زينة أو ترفا جماليا”[12]، فإنّ عالم الإنسانيات لا يرى في عالم التقانة والعلم إلا: “كتلا مجتمعة من المعارف المجردة أو المهددة”[13].

ولقد أهدر فرعا الثقافة فرصة التلاقي والتعاون من أجل خير الإنسانية. فالتحدّي الثقافي يتجسّد في الإمساك بنقطة الالتقاء بين فرعي الثقافة في حلّ يدمج بينهما إدماجا مجديا يتجاوز القصور والإخلالات الثاوية فيهما. فثقافة الإنسانيات -حسب موران- “تتجه إلى أن تصبح مثل طاحونة محرومة من حبوب المكتسبات العلمية حول العالم وحول الحياة التي من المفترض أن تغذي التساؤلات الكبرى في حين أن الثانية المحرومة من القدرة التفكيرية حول المشاكل العامة والشاملة تصبح عاجزة عن أن تفكر في ذاتها وعن أن تفكر في المشاكل الاجتماعية والإنسانية التي تطرحها”[14].

بل إن التحدي الثقافي اليوم في ميلاد مثقف واع بالمنجزات العلمية والتقنية وخصائص العلم اليوم وقادر على رسم الحلول العامة لمشكلات الإنسانية بحكم امتلاكه للغة والخيال والبلاغة والتفكير الفلسفي…

3- 1- 2- 2- التحدي الخامس: التحدّي السوسيولوجي:

 ما يميز العصر هو التعقيد الناجم عن تفجّر المعلومة وتعدّد الاختصاصات والعلوم وتطور المفاهيم العلمية والتكنولوجية، وصلتها بتعقّد الأنشطة الاقتصادية والفنية والاجتماعية والسياسية. هذا التعقّد وهذه التطورات تطرح تحديا سوسيولوجيا اليوم وغدا: كيف يمكن التحكم فيها؟ وينبّه موران إلى أن “المعلومة هي مادة أولية يتوجب على المعرفة التحكّم فيها وإدماجها”[15].

كيف يمكن استيعاب التطورات العلمية الكبرى وتأثيرها على حياة المجتمع فكرا وفهما وتصورا واستعمالا وتأنسا بعيدا عن الجهل والقصور والغربة والخضوع؟ فقد مرت الإنسانية من سيطرة علمية تكنولوجية على الطبيعة والاقتصاد والاجتماع إلى انقلاب الصورة وبداية تخلف الإنسان في فهم التطورات المختلفة نتيجة لهذه التحولات العميقة والمتسارعة. لعلّ مظهرها الأبرز يكمن في سيطرة الحاسوب والإنسان الآلي والتي تنذر اليوم بسيطرة الآلة على الإنسان وإخضاعه.

إن التحدي السوسيولوجي هو تحد فكري بالأساس ذلك أن ” التفكير هو أكثر من أي وقت مضى أثمن رأس مال بالنسبة إلى الفرد والمجتمع”[16].

3 -1- 2- 3- التحدّي السادس: التحدّي المدني:

لعلّ أهم مقومات المدنية التوافق المجتمعي على جملة قيم ومبادئ توحّد المجتمع وتقوّيه وتطوّره برغم الاختلاف بين مكوناته. فهو التعاقد الاجتماعي الذي تحدّث عنه جون جاك روسو. وهو المواطنة وحقوق الإنسان. وهو الديموقراطية الحقيقية لا المزيفة…لكن ما يلاحظه موران هو أنّ حالة من الجهل المعمّم الذي يسود الإنسانية اليوم بسبب تطور التقنية والعلوم الصحيحة وهيمنة الخبراء والتقنيين على الحياة بعيدا عن فهم الناس، أغلب الناس، هو الذي يفقر الحس المدني والمواطنة، ويحرم الناس من المشاركة الإيجابية في بناء المجتمع وإصلاحه. يشير موران إلى:” قصور ديموقراطي متزايد راجع إلى وضع الخبراء والمختصين والتقنيين عددا متعاظما من المشاكل الحيوية “[17].

وسبب هذا القصور عائد إلى احتكار التقنيين والخبراء المعرفة العلمية وتجاهل بقية الشعب. فينشأ مجتمع يسير بسرعتين متفاوتتين: مجتمع العلماء والخبراء مغلق وسري أشبه بعالم الكهنوت قديما يسيطر على المعرفة وشؤون الناس، فيخضعون لفهمهم وأخلاقهم وبرامجهم، وأغلبية شعبيّة تسبح في عالم الجهل والأمية التقنية المسمّاة حضارية.

فوجود شعبين متفاوتين محليا وعالميا يؤشر على وقوع الإنسانية في مأزق مدني، إذ ينعدم التوافق الاجتماعي والتعايش المدني، وتسود لغة القوة والهيمنة التكنولوجية والعلمية المدمرة ولا سيما أمام وجود أسلحة الدمار الشامل النووية والبيولوجية وغيرها التي تهدد البشرية في وجودها، إذ أنها اليوم تحت رحمة كبسة زر…إنه واقع محيّر ومآل فاجع. وينبه موران إلى خطورة الحال والمآل مؤكدا: “إن مواصلة المسار التقني العلمي الراهن وهو إلى ذلك “مسار أعمى” يفلت من رقابة ضمير وإرادة العلماء أنفسهم تفضي إلى تراجع قوي للديموقراطية “[18].

فالتحدي المدني حينئذ في بناء ثقافة مدنية تتجاوز انشطار المعرفة وانقسام المجتمع عموديا بين علماء وجهلة بل أميين حضاريا، وتحقيق ديموقراطية توافقية تشاركية بين الجميع وإنسانية وواعية بالمكتسبات العلمية.

3- 1- 2- 4- التحدّي السابع: تحدّي التحديات أو من أجل “ثقافة ثالثة”:

 يطرح موران إشكالية التحدّيات باعتبارها كلا مترابطا، فروعها ناجمة عن أمهاتها. ويحدّد مهمة الفكر الناجح والمستقبلي في قدرته على: “رفع كل التحديات المترابطة التي قمنا االآن بإحصائها”[19].

أما الإصلاحات عامة والإصلاحات التربوية خاصة التي اقترحت إلى حد اليوم، فهي مقترحات فاشلة. ومصدر فشلها أنها كانت محدودة وضيقة الأفق، إذ اقتصرت على إصلاح “برامجي”، ولم تنفذ إلى إصلاح هو تحدّ معرفي ثقافي منهجيّ يدرك “الثقب السود” الذي تردّى فيه الفكر اليوم. بل أصبح الإصلاح البرامجي ثقافة العصر في الميدان الثقافي والسياسي والانتخابي …إلخ. هو إصلاح تقني يشخّص المشكلات تشخيصا محدودا مختزلا ويتكرّم بإغداق الحلول والوعود. وكثيرا ما يتبيّن كذب تلك الوعود لحول التشخيص وغياب القدرة أو المصداقية في التنفيذ….

إن المطلوب اليوم في التربية والتعليم والثقافة والعلوم والحضارة هو تحديد الاستراتيجيات والأفكار المنهجية الكبرى الجامعة لفروع الفكر والمعارف جمعا محكما لا تلفيقا لتجاوز تحدي الفشل التربوي والفكري.

لذلك ينتهي موران إلى استنتاج الاستنتاجات، وتحدي التحديات، وهو أن: “إصلاح التعليم يجب أن يقود إلى إصلاح التفكير وإصلاح التفكير يجب أن يقود إلى إصلاح التعليم”[20].

ويمكن – حسب رأيي- تنزيل هذه الرؤية التربوية والثقافية والعلمية الإبستمولوجية في تيار “الثقافة الثالثة” و”الإنسانيين الجدد”.

هو تيار ما بعد حداثي إن شئنا يتصدى إلى تحديات العصر عامة والمستقبل البشري خاصة، ومن أعلامه البارزين اليوم جون بروكمان[21] الذي يعرّف الثقافة الثالثة بقوله: «إنَّ بزوغ هذه الثقافة الجديدة فيه برهان على جوع ثقافيّ شديد، وتوق إلى الأفكار الجديدة المهمة التي تقود زماننا: تطورات ثورية في البيولوجيا الجزئية، والهندسة الوراثية، والنانو تكنولوجيا، والذكاء الاصطناعيّ، والحياة الاصطناعيّة، ونظرية الشواش، والتوازي المكثف، والشبكات العصبّية، والكون التضخميّ (الانتفاخيّ)، والتشكّلات، والنظم التكيفيّة المركبة واللسانيات والأوتار الفائقة والتنوع الحيويّ، والجينوم البشريّ والنظم الخبيرة والتوازن المتقطع، (…) والفضاء السيبيريّ (المعلوماتيّ)…”[22].

انطلقنا من تحديد أهم التحديات المطروحة في جدول أعمال الإصلاحات التربوية في فرنسا وفي العالم لننتهي إلى ضرورة إصلاح الفكر السائد اليوم في فرنسا وفي العالم. وخلصنا إلى أن أهمية كتاب العقل المحكم ليس في بسطها إشكالات الإصلاح التربوي كما تعيشها فرنسا وسائر الدول، وإنما إشكالات إصلاح الفكر الإنساني برمّته.

إن أزمة التربية هي وجه من وجوه الأزمة الفكرية التي يعيشها العالم اليوم. وكلّ محاولة لإصلاح المدرسة والتربية تجهل أزمة الفكر الإنساني اليوم أو تتجاهله (والتي اصطلح عليها موران بالثقب الأسود) هي محاولة فاشلة تعيد إنتاج الأزمة، على معنى إعادة الإنتاج بمفهوم بيار بورديو أي توريث الثقافة السائدة وعلاقات التفاوت الاجتماعي بلا إصلاح ولا تجاوز. من هنا كانت التحديات السبعة هي تحدّ واحد كبير وجامع هو تحدّ تنظيم المعرفة. ولا سبيل لتحقيق هذا الهدف إلا برسم رهانات لعل نجاحها يتحدد بمعانقتها الفكر الجديد فكر المستقبل والذي اصطلح بعض المفكرين العلماء والأدباء على تسميته بالثقافة الثالثة.

لكن ما نؤاخذ عليه موران في نقده الثقافة السائدة اليوم هو تجاهله للأزمة الروحية الدينية العقائدية التي تعصف بالإنسانية في عصر هيمنة العلم الجامد والتقنية الباردة، فرمت بالكثيرين في حيرة وجودية ولاسيما الشباب. فتزايدت نسب الانتحار وخاصة في الغرب، في حين تغوّلت الحركات الأصولية والإرهابية في الشرق يزين لها قصر نظرها أنّ العنف والتطرف وتكفير غير المؤمنين بأفكارهم الدينية هو سبيل الخلاص والفلاح.

فما هي رهانات الثقافة الثالثة اليوم عند موران؟ وكيف يرى إصلاح منظومتي التربية والفكر؟

3 -2- الرهانات الثقافية والحلول المنشودة:

  اخترنا مصطلح التحدّيات تعبيرا منا عن خطورة المشكلات التي يطرحها إصلاح التعليم والتفكير محليا وعالميا. وبالمثل اخترنا الرهانات باعتبارها مكافئا موضوعيا للتحديات. التحديات صعوبات ومخاطر، والرهانات مخاطرة وركوب للخطر ومجابهة الصعوبات والغامض واللامتوقع… ولئن كانت التحديات عند موران سبعة فقط، إذ قد تجاهل التحدي الروحي الإيماني، فإن الرهانات الفكرية والمنهجية الكبرى بعدد الأربعة وتتفرع عنها رهانات عدة خاصّة بكلّ مجال علمي وفكري…

3- 2- 1- الرّهان الأول: تنمية الذكاء العام وتشجيع الكفاءة التّساؤليّة:

 يذكرنا موران برأي مونتانيMontaigne (1592– 1533) حول العقول حينما قال: “من الأفضل أن يكون العقل محكما على أن يكون مكتظا”[23].

لقد قال مونتاني ذلك منذ القرن السادس عشر، ونحن اليوم في تونس وفي فرنسا مثلما يقرّ بذلك موران وفي كثير من دول العالم مازالت المناهج التربوية تهتم بحشو الرؤوس وملئها بالمعلومات أكثر من اهتمامها بتربية العقل على التساؤل وتنمية الذكاء العام.

فرصف المعلومات وتركيمها يفقد الطفل الاختيار والانتقاء وتنظيم الأفكار. بل إن حشو الأدمغة يتعارض مع ملكة الطفل التي جبل عليها: “وهي ملكة حب الاطلاع التي يطفئها التعليم في أغلب الأحيان”[24].

بينما المطلوب من المدرسة هو تحفيز تلك الملكة وإيقاظها إذا ما نامت.

كما أن حشو الأدمغة بالمعلومات بذريعة جهل الطفل والمراهق بالعلم تفقد الطفل الكفاءة التساؤلية والشك في ما يقدّم له من معلومات. إنّ الرهان اليوم معقود على تربية أجيال تتوفر على قدر محترم من الذكاء العام الذي يقود إلى التفكير الجيد ومتعدد الاختصاصات في عصر معقّد مركب الثقافات.

نحن اليوم في حاجة لأجيال تحسن التفكير والتساؤل والأشكلة أكثر من أجيال تحفظ وتراكم وترصّف بلا تساؤل ولا مراجعة ولا نقد.

3- 2- 2- الرهان الثاني: تنظيم المعارف:

  لئن كان راهن التربية والثقافة قائما على التفكك والفصل والتخصص المفرط والانغلاق، فإنّ رهان التربية اليوم أن يتمّ تجاوز كلّ هذه العراقيل من خلال بناء عقل محكم. ومن خصائصه – حسب موران-: “هو عقل مؤهل لتنظيم المعارف ومن ثم تجنب تراكمها بشكل عقيم…”[25].

كما أن رهان الثقافة المنشودة أن تربط بين الخاصّ والعامّ والخصوصيّ ضمن الكوني. وهو ما يطلق عليه موران خاصية التبيئة أو التّسييق أي الوضع في السياق الملائم. يقول: “إن تنمية القدرة على الإدراج في السياق تنحو إلى إنتاج عملية ظهور لفكر “بيئوي”. بمعنى أنّها تضع كل حدث أو معلومة أو معرفة في علاقة لا انفكاك فيها مع المحيط الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي وبطبيعة الحال الطبيعي…”[26].

على أنّه ينبغي لنا ألاّ نخلط بين تركيم المعارف وفتح المجالات على بعضها وهو ما يتنافى ومعنى التنظيم المعرفي وبين التنظيم المنهجي للمعرفة. يوضح موران ذلك بالقول: “إن المشكلة ليست فتحا للحدود بين الاختصاصات بقدر ما هي تحويل لما ينتج هذه الحدود أي المبادئ المنظمة للمعرفة”[27].

3- 2- 3- الرّهان الثالث: فكر علميّ جديد:

 حاز الرهان الثالث النصيب الأوفر من كتاب العقل المحكم، فقد استغرق كميا اثنتين وخمسين صفحة من الصفحة رقم ثلاثين إلى الصفحة الثانية والثمانين. كما تميّز بجدّة مفهوم الفكر العلمي، فلم يعد مقصورا على ما هو سائد “العلوم الصحيحة” من رياضيات وفيزياء وبيولوجيا وعلوم طبيعية… بل هو مفهوم جديد يشمل العلوم “الصحيحة” والعلوم الإنسانية وهو ما يصطلح عليه الإنسانيون الجدد اليوم بالثقافة الثالثة.

لقد بدأت هذه الثقافة العلمية الجديدة في التبلور منذ الثورة العلمية الثانية في ستينات القرن كما سبق ذكره، وميزتها، حسب موران، تبيئة المعارف وشوملتها بعد أن كانت حتى ذلك الحين مجزّأة ومفككة ومعزولة…

ففي جميع الاختصاصات العلمية الصحيحة حصلت تطوّرات حطمت ثقافتنا التقليدية المميزة بالوثوقية والاختزالية … فقد ظهرت منذ الستينات علوم جديدة “نسقية” مسّت علم البيئة وعلوم الأرض والكونيات (علم الكون). فعلم البيئة ولا سيما البحث البيئي: “توسع بدءا من سبعينات القرن العشرين إلى المحيط الحيوي في مجمله …ويستدعي عالم البيئة …اختصاصات فيزيائية متعددة لتصور المدى الحيوي…”[28].

وهو ما يؤكّد توسّع العلوم المختلفة وترابطها بعضها مع بعض.

كما تطورت علوم الأرض خلال: “ستينات القرن العشرين وعلى إثر اكتشاف تكتونية الصفائح تصورت علوم الأرض كوكبنا الأرضي على أنه منظومة معقدة تنتج ذاتها بذاتها وتنتظم بذاتها…”[29].

وهو ما يؤثر في علم الجغرافيا وامتداداتها الجغراسياسية…ويذهب موران إلى أن نظرية إنشتاين في النسبية قتلت الكون نتيجة تصوره للفضاء والزمان. لكن الكون، أو تصورنا له، انبعث من جديد مع: “استكشاف هابل (Hubble) لتباعد المجرات ولفرضية الذرة البدائية التي قال بها ” لوماتر” (Le maitre) …”[30]. وهكذا ساهمت هذه الاكتشافات في تعاون اختصاصات متعددة كعلم الفلك والفيزياء والميكوروفيزياء والرياضيات…إضافة إلى تفكير يكاد يكون فلسفيا في محاولة فهم الكون.

ومثلما هو الشأن في العلوم الصحيحة شهدت العلوم الإنسانية تطورات مذهلة، فالتاريخ مثلا: “يتجه نحو التحوّل إلى علم متعدّد الأبعاد يدمج في داخله الأبعاد الاقتصادية والإناسية …فهو يتحوّل إلى أن يصبح علم التعقيد الإنساني..”[31]. ولقد تأثّرت بقية العلوم الإنسانية من فلسفة وأنتروبولوجيا وأدب بالاكتشافات العلمية الصحيحة والإناسية بثقافة العصر الجديدة، ثقافة الترابط عوض التفكك والتمدد، والانفتاح عوض الانغلاق والتقوقع وثقافة الارتياب عوض الحتمية والوثوقية، وثقافة التحاور والتواصل عوض الترصيف والتركيم والانعزال.

وجدير بالانتباه أن موران لا يؤمن بالحتميات لا في البيئة ولا في الثقافة ولا في العلم ولا في نشأة الحياة والكون. ويذكر بأن الثورات العلمية المتتالية ولا سيما في القرن العشرين نسفت مبدأ الحتمية وإتقان اللهالكون وأكدت أن نشأة الكون والحياة جاءت صدفة. يقول: “وتاريخ الكون هو مغامرة شديدة الفخامة خلاقة وهدامة في الآن نفسه ومطبوعة، منذ البدء، بإلغاء شبه تام للمادة المضادة من قبل المادة المتغنّى بها من خلال الإشعال لشموس لا تحصى ولا تعد تمّ تدميرها تدميرا ذاتيا وعبر الارتطامات بين النجوم والمجرّات. وهي مغامرة تمثلت إحدى تغيراتها الهامشية في ظهور الحياة فوق الكوكب الثالث التابع لشمس صغيرة في ضاحية درب التبانة “[32]. ويعارض موران الدين عامة والإسلام خاصة في تأكيد القرآن خلق الله للكون خلقا محكما وبدقة متناهية، ويحث البشر على التدبر في هذا الخلق إذ يقول: ” إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ”[33]

بل إن موران -معتمدا على الاكتشافات العلمية في علوم الأحياء– يسلم بأن الحياة: “لم يكن لها أن تنشأ إلا من خلال هذا المزيج من الصدفة والضرورة، ولكن ليس باستطاعتنا تحديد مقادير هذا المزيج”[34].

وهذا الارتياب يجب أن يشمل جميع المعارف التي تروج جهلا الحتمية التاريخية والعلمية والفلسفية …

ولذلك فإنّ الحلّ المنهجي اليوم لمجابهة المعرفة- حسب موران-يتمثل في القاعدة التالية:” لئن حافظنا واكتشفنا أرخبيلات جديدة من التيقنات، فإنه يجب أن نعلم أننا نبحر في محيط من الارتياب”[35].

ولقد صاغ موران تصوّره للعقل الجديد: “يتوجب أن نراهن على مثل هذا الفكر لنشجع الذكاء العام والقدرة على الأشكلة وتحقيق ارتباط المعارف فيما بينها. كما يتوجب مستقبلا أن نضيف إلى الفكر العلمي الجديد الفكر المتجدد لثقافة الإنسانيات. ذلك أنه يجب ألا ننسى أن ثقافة الإنسانيات تشجع الانفتاح على كل المشاكل الكبرى والاستعداد للتفكير وإدراك التعقيدات الإنسانية والتأمل في المعرفة وإدماجها في الحياة الخاصة من أجل إضاءة أفضل، بشكل مترابط، على السلوك ومعرفة الذات…”[36].

فالرهان هنا يستهدف بالضبط بناء العقل المحكم المنشود. العقل الجديد ما بعد الحداثة، عقل الثقافة الثالثة التي ترفض التمترس في ثقافة علمية يزعم أصحابها أنها صحيحة في مقابل ثقافة إنسانية إنشائية لا صلة لها بالمعرفة الصحيحة.

يوضح موران قائلا: “إن تربية تستهدف عقلا محكما منهية الانفصال بين الثقافتين قد تخلق القدرة على مجابهة التحديات الهائلة، تحديات الشمولية والتعقيد الموجودة في الحياة اليومية والاجتماعية والسياسية والوطنية والعلمية..”[37].

ما نسجّله هنا هو توفق موران في طرح أهم إشكالات الفكر والعلم اليوم في سعيه إلى تحديد معالم العقل المحكم وذلك من خلال ضرورة اطلاع العقل على المناهج العلمية وتفتحه على الثقافات وربطه بين العلمي والثقافي ودعوته إلى التسلح بسلاح الشك والارتياب في مقاربة الحقائق بما فيها قضايا الخلق والحياة والموت والمصير. وبقدر ما نشاطره الرأي في أهمية الاطلاع على العلوم وتبنّي الشك المنهجي المجدي الذي عرّفه الجاحظ منذ القرن التاسع ميلاديّا، بقوله:” وتعلم الشك في المشكوك فيه

تعلما”[38]،فإننا لا نجاريه في تبنّي منهج الارتياب الذي يجعل من خلق الكون صدفة، ومصير الكون والبشر صدفة. فأنْ نتسلح بالشكّ العلمي هذا ضروري، ولكن أن ننفي الدين وحقائقه دون تدبر ولا نقاش له يسلمنا إلى العدمية والريبيّة غير المجدية.

3- 2- 4- الرّهان الرابع: رسالة التربية بناء الشخصية والمواطن الإنسان:

 يتميّز هذا الرهان بإعادة طرح موران لمواضيع قديمة عريقة، ولكن بفهم جديد وليد. قضايا المواطنة والوطنية والهوية في عصر العولمة وما بعد العولمة.

يسارع موران إلى التذكير برسالة التربية وهي: “أن تساهم في التكوين الذاتي للشخص (تعلم النهوض بالوضع الإنساني وتعلم كيفية العيش) وتعلم كيف يصبح المرء مواطنا. فالمواطن يعرف في الديموقراطية من خلال تضامنه مع وطنه وشعوره بالمسؤولية إزاءه. وذلك ما يفترض تجذّر الهوية الوطنية في داخله”[39].

ويلاحظ موران شبه غياب لمفهوم الوطنية والهوية في البرامج المدرسية الفرنسية ودستور الجمهورية وفي القانون الدولي. وهو ما يسمح له بالخوض في تعريفهما وتاريخهما وأهمّيتهما.

يربط موران الوطنية والهوية بمفاهيم متعدّدة أوّلها الدولة الأمة التي جهلها أغلب المؤرخين بل وتجاهلتها بعض النظريات كالماركسية:” قللت …. من واقع الأمة مسلطة الأضواء على ما يقسمها (الصراعات الطبقية) وليس على ما يوحّدها”[40].

والحال أن الدولة الأمة المكتملة هي: “كائن ترابي وسياسي واجتماعي وثقافي وتاريخي وأسطوري وديني في آن واحد”[41]. فالدولة الأمة كيان سياسي واجتماعي استقر على أرض ووحده التاريخ المشترك ويرنو إلى مستقبل مشترك بحكم وحدة المصير. يوضح موران الأمر قائلا: “إن للجماعة طبيعة ثقافية / تاريخية. فهي ثقافية من جهة القيم والعادات والطقوس والمعايير والمعتقدات المشتركة وهي تاريخية من حيث التغيرات ومعاناة المحن التي واجهتها على تعبير أوتو باور(Otto Bauer) وحدة المصير”[42].

وبالرغم من إيمان موران بالدولة الأمة وبالقوميات، فإنه يعتقد أن النزعة العدوانية للقومية والتي اقترنت بالنظرة الشوفينية مع النازية والفاشية قد آن الأوان أن تتجاوز إيجابيا. لقد ارتأت عديد التيارات الفكرية واللّيبرالية والماركسية ضرورة إنكار القومية والمرور إلى ما فوقها أممية أو ما شابه. بيد أن القومية حقيقة ماثلة وإن انزلقت أحيانا إلى العدوانية بذريعة الدفاع عن النفس. ولكنها وحدت الجماعات والشعوب المحلية وحاربت من أجل ضمان وحدة الدولة وسلامة الأرض سابقا، أما اليوم، وأمام بروز تحديات كونية تهدد مصير الإنسانية قاطبة من أسلحة الدمار الشامل وتعاظم التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والعلمي بين الأمم فضلا عن داخلها فهي مدعوة إلى التخفّف من غلوائها، والاتجاه إلى ما يضمن وحدة المصير الإنساني. من هنا توجّب أن تفكر الأمم في وحدة عابرة للقوميات وعابرة للقارات بل وكونية. ولذلك نادى موران في أغلب مؤلفاته بالكوكبة، ولا سيما في كتيبه “تربية المستقبل” فقد جاء فيه: “إن الجماعة البشرية ذات المصير الكوكبي تسمح بالعمل على تحقق واكتمال هذا الجزء من الأنتروبو- أخلاقية والمرتبط بالعلاقة بين الفرد المتفرد وبين النوع البشري بما هو كل. عليها أن تعمل على جعل النوع البشري يتطور في اتجاه الإنسانية مع الحفاظ على شرطه البيولوجي –التناسلي وهذا يعني العمل على تحقيق الوعي المشترك والتضامن الكوكبي للجنس البشري”[43].

ولعل ما يلفت الانتباه حقا أن موران-يساري الجذور- يخالف كلّ الطروحات اليسارية الماركسية والليبرالية العولمية أو الأصولية الدينية الرافعة لشعار عالمية الإسلام (في مقابل القومية) التي ترفض الهوية وتتهجم عل متبنيها واصمة إياهم بتيار الهوية أي المحافظين والتراثيين والماضويين معمّمين بين الماضويين فعلا والمعتزين بهويتهم والمدافعين عنها من التمزق الداخلي والعدوان الخارجي. فموران يقرّ بوجود هوية فرنسية عريقة ومتميزة: “فتاريخ فرنسا يمتلك خصوصية نادرة تهملها الكتب المدرسية ويتوّجب إبرازها”[44].

دأب أغلب خبراء الثقافة والعلوم والتربية في العقود الأخيرة إلى التحقير من شأن الإنسانيات عامة والتاريخ واللغة خاصة حتى أنّ بعضهم نادى بتخفيف ساعات تدريس هذه المواد لعدم الحاجة إليها في عصرنا، في مقابل تعاظم الحاجة للعلوم والمعلوماتية، وآية ذلك أن حجم ساعات التاريخ والجغرافيا في مدارسنا بمختلف مستوياتها في تونس مثلا قد تمّ، في السنوات الأخيرة، “تخفيفها” من قبل وزراء التربية مستأنسين بنصائح بعض خبرائنا الذين بدؤوا يلوحون بضرورة التخلي عن مادّتي التاريخ والجغرافيا لعدم أهميتهما اليوم. أمّا موران، على العكس من ذلك تماما، فهو يلح على أهمية التاريخ الوطني فرنسيا كان أم غيره يقول: “إن تدريس التاريخ غير قابل للاستغناء عنه من أجل تجذير الهوية القومية، ولا بد من إعادة أهمية التاريخ الوطني بشكل كامل كذلك، فهو يسمح بإدماج الطفل في تلك المجموعة المعقدة والحية التي يمثلها الوطن. أو ما يعني بالأحرى إدماج التاريخ الثري بالمحطات والانتصارات والهزائم والأحزان والأمجاد في الطفل والمراهق، الأمر الذي يجعل منه “ابن الوطن” …”[45].

وإدراكا من موران لأهمية التاريخ الوطني الفرنسي المنسي والمهمّش، يعود إلى تاريخ نشأة الأمة الفرنسية ومراحل الميلاد المتجددة من الميلاد بداية بالشعب الغالي ((Gaulois وصولا إلى المرحلة الراهنة مرورا بالثورة الفرنسية. وينبّه موران إلى أهمية عامل الفرنسة Francisation) ) في تشكّل الأمة الفرنسية وتطورها. لقد حققت الفرنسة اندماج جميع مكونات الأمة الفرنسية ماضيا، وهي اليوم تحقق نجاحا باهرا من خلال إدماج المهاجرين. يقول موران: “وهكذا فإن تاريخنا هو تاريخ فرنسة تدريجية تمكنت مع قيام الجمهورية، وبعد أن ألحقت في المناطق الداخلية للبلاد إثنيات بشرية كانت في البدء شديدة التنوع من السماح لأطفال المهاجرين بالاندماج في الهوية الفرنسية”[46].

إلا أن هذا المسار مسار الفرنسة وإيجابياته لا يجب أن يعمي البصيرة عن مسار الإنسانية الذي يشمل الهوية الأروبية والهوية الأرضية. ففرنسا، حسب موران، في حاجة إلى تبني هويتها الأوربية التي ساهمت فرنسا في بنائها والاستفادة من مكتسبات الثورات العلمية والتكنولوجية والإنسانية الأوروبية: “يتسنى الوعي بالانتماء للهوية الأوروبية أن يشجع تطور مواطنة أوروبية”[47].

أما فيما يتعلق بالهوية الأرضية فيبادر موران إلى التمييز بين عولمتين بدأتا في الظهور منذ القرن السادس عشر: “كانت ثمة عولمتان تشتغلان مرتبطتين ومتناقضتين في الآن نفسه، عولمة الهيمنة والاستعمار والاستغلال وعولمة الأفكار الإنسانية التحررية العالمية والحاملة لوعي مشترك بالإنسانية”[48].

وبالطبع فإن موران يتبنى العولمة الثانية في فكره وتوجهاته ومؤلفاته، ولا سيما في كتابه “ثقافة أوروبا وبربريتها” ولذلك يدعو أوروبا إلى الوعي باللحظة التاريخية الحرجة بل الحافة كما وصفها جون بروكمان في كتابه “الإنسانيون الجدد/ العلم عند الحافة” الناجم عن خطر أسلحة الدمار الشامل والذي يستدعي تضامن الأمم ووحدتها من أجل مواجهة هذه المخاطر ومعالجتها بما يضمن الأمن والسلام العالميين.

فالهوية، حينئذ عند موران، ليست مجرد فكرة متخلفة تجاوزها الزمان، كما أنها ليست شعارا فضفاضا أو مقدسا نرفعه ضد العلم والمعرفة والتقدم وإنّما هي قضية حقيقية لا مزيفة تتخذ أبعادا وطنية وإقليمية ما فوق الوطنية وقارية وكوكبية في عصرنا الموضوع بين شفا بناة الحضارة والإنسانية وبين المجرمين والإرهابيين مدمري الحضارة والبشرية. ويستخلص موران العبرة من تعقيدات الهوية قائلا: “وهكذا تتوجب المساهمة في التكوين الذاتي للوطن الفرنسي وإعطاء المعرفة والوعي بما تعنيه كلمة الأمة. ولكن يتوجب علينا كذلك توسيع كلمة المواطن إلى كيانات لا تملك إلى حد الآن مؤسسات مكتملة مثل أوروبا …أو تلك التي لا تملك مؤسسات سياسية مشتركة بالمرة مثل كوكب الأرض. فمثل هذا التكوين من شأنه أن يسمح بالتجذر داخل الذات للهوية الوطنية والهوية الأوروبية والهوية الكوكبية”[49].

ولعلّ أهمية هذه الاستخلاصات لا تكمن في واقعها الفرنسي والأوروبي فحسب، وإنما في صلاحيتها في الواقع العربي والمغربي والعالمي. ولا يمكن إنكار الهوية وتطورها ولا يمكن تجاهل الكوكبة. من هنا كان ضروريا التنبه إلى ضرورة المواءمة بين الخصوصية والكونية. وهو ما حضر بصفة مباشرة وخاصة بصفة غير مباشرة في العقل المحكم. وكان موران قد تبسط فيه في كتب أخرى مثل تربية المستقبل[50].

وإذ نثمّن مثل هذا الفهم العميق لقضايا الهوية اليوم، وهو حفز المرحوم منصف وناس على ترجمة هذا الكتاب، فإننا نؤاخذ موران على تجاهله لمختلف استراتيجيات الهيمنة الغربية والفرنسية التي، تدعو إلى احترام الهويات والمعتقدات والضمير، ولكنها تفرض، في الآن نفسه، الفرنسة على المهاجرين بما تحمله من ثقافة ترفض حرية الضّمير وحقّ الاختلاف الثقافيّ. كما أن الفرنسة كانت في فترة استعمار فرنسا لشمال افريقيا وغيره مناسبة لإلحاق الأهالي باللّغة الفرنسية والثقافة الفرنسية والمعتقدات الفرنسية الدينية واللائكية على حد سواء… بل إنّها لجأت إلى المخاتلة والخديعة حينما اضطرت إلى إنهاء استعمارها المباشر لمستعمراتها، فطرحت مداخل للمحافظة على الهيمنة الثقافية إضافة إلى السيطرة الاقتصادية والسياسية. ومن تلك المداخل “صنارة” الفرنكفونية التي تتدعي ربط صلات ثقافية وتقديم مساعدات اقتصادية واجتماعية للدول الحاصلة على استقلالها من الاستعمار الفرنسي المباشر، لكنها، في حقيقة الأمر، تروم إبقاء السيطرة السياسية والحضارية بطريقة ناعمة غير مفضوحة. فمساعدة البلدان وربطها باللغة الفرنسية هو، في حقيقته، رهن لشعوب تلك البلدان بالمركزية الفرنسية فكرا واقتصادا وسياسة وحضارة…ولا أعتقد أن موران يوافق اندراج الثقافة الثالثة في سياق ارتهان الشعوب والأمم.

فما هي رهانات التربية في تحقيق رهانات الثقافة والحضارة؟

3-3- الرهانات التربوية:

إن الإنسان أسّ والتربية بناء. وفهم طبيعة الإنسان منذ الطفولة الأولى أساس لكل تعليم ناجح وتربية سليمة. ولما كانت طبيعة الطفل الدهشة وحبّ الاطلاع، فإنّ الفلسفة التربوية المناسبة هي تلك التي تُبنى على عقل تساؤلي لا عقل تقبلي للسائد:” فبدل كسر حالات الفضول الطبيعية التي هي خاصة بكل وعي يستفيق يتوجب الانطلاق من تساؤلات أولية: ما هو الكائن البشري؟ وماهي الحياة؟ وما هو المجتمع؟ والعالم؟ وما الحقيقة؟…”[51].

3- 3- 1-  المرحلة الابتدائية:

ولا شك في أنّ منهجية التساؤل حول الحياة والكون ومنزلة الإنسان ستقود إلى طبيعة الكائن البشري:” فهي أحيائية وثقافية في الآن نفسه”[52]. فبدءا من المدرسة الابتدائية سننجز تمشيا:

” يجمع بين التساؤل حول الوضع البشري والتساؤل حول العالم “[53]. وبما أن المعول في التربية على البناء مبكرا فإن تربية الطفل على الفصل والربط والتحليل والتوليف مبكرا هو الذي سيضمن تعلم الطفل للمعرفة تعلمه الحياة. ويستدعي هدف تعلم الحياة مسارين. مسار داخلي: “يمر عبر فحص الذات والتحليل الذاتي والنقد الذاتي…”[54]. ومسار خارجي: ” يمكن أن يكون المدخل إلى معرفة وسائل الإعلام…”[55].ومن المناسب أن يتدرب الأطفال مبكرا على التعامل مع وسائل الإعلام ليتزودوا من الثقافة الاتصالية فيعرفوا طرائق بناء الحقيقة وطمسها …

ولا ينسى موران أهمية تدريس التعلمات الأساسية في بناء عقل الطفل وهويته:” وبطبيعة الحال فتدريس الفرنسية والنحو والصرف والتاريخ والحساب سيظل مستمرا بالكامل خلال الدرجة الأولى (أو المرحلة الأولية)”[56].

فما يميز المرحلة الابتدائية أنها مرحلة أولية أساسية في بناء عقل محب للمعرفة حر منطلق ولكن منغرس في بيئته وهويته الثقافية الخاصة ومنفتح عقلا ومنهجا على الحياة والكون.

3- 3- 2- المرحلة الثانوية:

إن كانت المرحلة الابتدائية لحظة تأسيس عقلي منهجي مبني على التساؤل وحب المعرفة فإن المرحلة الثانوية لحظة التجسيد الفعلي لمعالم الثقافة المنشودة.

يقول موران في هذا المعنى:” سيكون التعليم الثانوي مجال تعلم ما يجب أن تكون عليه الثقافة الحقة، تلك التي تقيم جسور الحوار بين ثقافة الإنسانيات والثقافة العلمية…”[57]. ويلح موران على أهمية الآداب إلى جانب العلوم. ويعظم موران من أهمية أربع مواد هي التاريخ والفلسفة والرياضيات وعلم نفس المراهق. فللتاريخ دوره الهام في بناء الهوية البشرية الحضارية المعقدة والمركبة من بعد خصوصي وقاري وأرضي وكوكبي:” ويجب أن يلعب التاريخ دورا رئيسيا في المرحلة الثانوية بالسماح للتلميذ بأن يمتزج وينصهر في تاريخ أمته وأن يتموقع في الصيرورة التاريخية لأوروبا وفي مجال أوسع تاريخ الإنسانية وأن يطور بداخله نمطا للمعرفة يدرك بدقة الخصائص المتعددة الأبعاد أو المعقدة للواقع البشري…”[58].

ولعل موران هنا يردّ على الدعوات المحقرة للتاريخ، والمهمشة للهوية والتي تتبنى العولمة العارية وأحادية النمط الغربي الاستهلاكي فاقد الخصوصية بل والإنسانية والمرتمي في شراك المساواة المثالية بين الشعوب والأمم والوحدة الإنسانية الموهومة.

ولئن كان بعض التربويين والخبراء ينادون بالتخفيف من التعلمات الخاصة بالإنسانيات، فإنّ موران، على العكس من ذلك، ينادي بأن: “يعظم على النقيض من ذلك (إحدى المهام الرئيسية للتعليم الثانوي هي الحفاظ على ثقافة الإنسانيات) …”[59]. وفي هذا الإطار على الفلسفة أن تتبوّأ مكانة عليا في الثانوي هي جديرة بها إذ يعوّل عليها موران في تدريس العلوم والإنسانيات.

أما المادة الثالثة المهمة هي الرياضيات باعتبارها: “نمط تفكير منطقي …”[60].

أما المادة الرابعة الجديرة بالتعظيم، فهي علم نفس المراهق والتربية الشبابية التي يؤكّد موران أنّ: “.. من واجب مدرسي المرحلة الثانوية اكتساب التربية والدراية بعالم المراهق وبثقافته…”[61]. إضافة إلى مواصلة التعليم الانفتاح على عالم الوسائطية/الميديولوجيا[62] الذي بات يشكل عالما مهيمنا على حياة الشباب والناس عامة وضرورة معرفته، وربط صلات تفاعل معه عوض تجاهله ومناصبته العداء.

وأعتقد أن البديل الذي اقترحه موران للتعليم الثانوي بديل عصري مواكب لخصوصيات العصر ولحاجات الشباب والمراهقين وتطلعاتهم. وما يمكن نقده هو تغييب الثقافة الروحية، ولا سيما الدين. ولعل ما يتعرّض له العالم من إرهاب تقوده حركات أصولية متطرفة مس العالم ولم يستثن فرنسا جدير بتعليم الشباب حرية الضمير والاعتقاد وكيفية تفكيك الفكر الديني المنغلق والعنيف، للحدّ من خطورته وتوسعه، ومحاورة الدين لعل فيه بعدا دنيويا يحث على القيم والعدالة والمساواة وبعدا روحانيا مفيدا ومطمئنا عل المصير الفردي والجماعي…

3- 3- 4- المرحلة الجامعية:

 تضطلع الجامعة برسالة على غاية من الأهمية، فهي تحافظ على الثقافة المحلية وتنفتح على الثقافة العالمية وتدمجها. وهذه المهمة المزدوجة لا تتحقق بدمقرطة التعليم وتعميم المعرفة وتجديدها بل تتجاوز مهمتها هذا النطاق على أهميته إلى مهمة أخطر هي إصلاح: “يهم استعدادنا لتنظيم المعرفة أي تنظيم الفكر”[63]. ومن المنطقيّ أن نقتضي هذه الرسالة إعادة هيكلة للجامعة سواء كانت فرنسية أو أوروبية أو غيرهما.

3- 3- 5- واقع الجامعة:

يلاحظ موران، انطلاقا من الجامعة الفرنسية، أنّ التعليم الجامعي يعاني عدة تحدّيات فرضها التطور العلمي والتكنولوجي مثل: “ضغط تكيف مفرط يدفع باتجاه أقلمة التعليم والتباحث مع المطالب الاقتصادية والتقنية والإدارية للحظة الراهنة”[64]. وهو ما جعل الجامعات تسابق الزمن من أجل مواكبة متطلبات السوق وآخر المناهج العلمية واقعة في خطأ يتمثّل في: “اختزال التعليم العام وتهميش الثقافة الأنسية”[65].

كما تعاني الجامعة من عيب، هو: “التفكك الجذري بين الاختصاصات والصعوبة البالغة في إقامة جسر مؤسساتي (بينها)”[66]. هذه الصعوبات أضرت بدور الجامعة ومردوديتها وعوض أن تكون مصدر الابتكار والتجديد والإبداع المتوازن علميا وتكنولوجيا وإنسانيا، فإنها أصبحت ميدانا للتدريس وتركيم المعارف…

3- 3- 6- إصلاح الجامعة:

  يعتقد موران أن إصلاح الجامعة يمرّ عبر إصلاح هيكلي أي إعادة تنظيم الجامعة وأقسامها لا وفق الاختصاصات المفككة والمتنافرة بل وفق تصور حديث يحقّق تناغم وترابط الاختصاصات وتكاملها.

يقول موران: “إن هذا الإصلاح يمكن أن يتضمن إعادة تنظيم عام من خلال إقامة كليات وأقسام ومعاهد متخصصة في العلوم التي أنجزت إعادة هيكلة متعددة الاختصاصات حول نواة منظمة ومنسقة..”[67].

وانطلاقا من هذه الفلسفة الجديدة، يمن بعث نواة علمية معرفية لعديد الاختصاصات تتجمع حولها جامعات ومعاهد وأقسام متخصّصة، ويمكن إنشاء كليات عدة منها:” كلية للكون (تتضمّن فرعا فلسفيا) وكلية للأرض (علوم الأرض وعلم البيئة والجغرافيا الطبيعية والبشرية). كما يمكن أن يقيم الإصلاح كلية للمعرفة تجمع الإبستمولوجيا وفلسفة المعرفة والعلوم العرفانية …(و) يكون مهما خلق كلية لما هو إنساني (تتضمن ما قبل التاريخ والإناسة الأحيائية والعلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية مع إدماج إشكالية الفرد / النوع / المجتمع). إنه يتوجّب على التاريخ أن يتوفر على كلية ممتلئة ومكتملة حيث يمكن أن ندرس بها ليس التاريخ الوطني والعالمي فحسب، وإنما أيضا تاريخ الحضارات في آسيا وإفريقيا وأمريكا (بكل بلدانها) …”[68]. وهكذا يمكن إحداث تخصّصات أخرى نواتها فكرة جامعة مثل “كلية للمشاكل المعولمة”[69].

ولا يقتصر الإصلاح عند موران على إعادة الهيكلة الجديدة، بل يتجاوزها إلى تعميم منهجية التفكير والبحث العابرة للاختصاصات والتي يمكن التعبير عنها بالـ “الكفايات الفوقية”. ويسميها موران:” ضريبة إيبستمولوجية عابرة للاختصاصات” توظف على كافة الكليات بأن تقتطع 10% من أوقات الدروس من أجل تدريس مشترك يُعنى أساسا بالعناصر المفترضة أو المسلمة لمختلف المعارف. أمّا أهمّ المجالات أو الكفايات الفوقية، فيذكر موران منها:”

–” معرفة المحدّدات وافتراضات المعرفة

-العقلانية والعلومية والموضوعية.

-التأويل

-البرهنة والتدليل والحجاج.

الترابط والتواصلات بين العلوم …

-العلاقة بين العالم البشري والعالم الحيّ والعالم الفيزيائي الكيميائي والكون ذاته….”[70].

وهكذا ينطلق موران من فلسفة تعلمية تعليمية (ديداكتيكية) تؤمن بمنهجية التساؤل الفطرية في الطفل إلى بناء عقل واع متسائل في الابتدائي، فبانٍ لمعرفة تغرس الإنسان في بيئته وهويته وتمدّه بآفاق الانفتاح على الغير بإيمان بوحدة الإنسانية مع التميز الخصوصي. وتلعب اللغة والآداب والإنسانيات في المرحلة الثانوية، ولا سيما الفلسفة والتاريخ، دورا أساسيا في عمليات التنشئة فالتاريخ يحدد الخصوصية والفلسفة تعقلنها وتؤنسنها. أما العلوم والتكنولوجيا والرياضيات فبقدر ما تمدّ الإنسان بالوسيلة الفعالة للتمدّن والتطور، فإنّها تبرهن على وحدة الكرة الأرضية وصغرها وهشاشتها إن لم نصنها ونتعامل معها بحبّ لا بعنف وعنجهية ووحشية الهيمنة على الغير. أمّا مرحلة التعليم العالي فتثمين للتراث والخصوصيات وتجديد لهما. لكنه يعاني من ضغوط العصر والأخطاء الفكرية السائدة ممّا يتطلب إصلاحا يبدل فلسفة التعليم الجامعي، وينخرط في مطالب توحيد فروع المعارف وفق منهجيات علمية ابستمولوجية موحدة للاختصاصات المترابطة تعيد هيكلة الجامعات وفق هذا المنظور.

ولا نجاح لهذا الإصلاح إلا بإدماج منهجيات التجديد المقترحة من موران والثقافة الثالثة بما يضع حدّا للتفكك بين جناحي المعرفة الإنسانية ويرشدهما بمخاطر الانعزال والغلوّ…

ولكن موران يؤكد ارتباط الإصلاح التربوي بالإصلاح الفكريّ الشامل.

فما هي خاصيات هذا الفكر الجديد وطبيعة الإصلاح الجذريّ المنشود؟

3- 4- الإصلاح الفكري والتربوي بين الترقيع والجذرية:

3- 4- 1- أسس الإصلاح الفكري:

انطلاقا من مكاسب الثورتين العلميتين اللتين شهدهما القرن العشرون، فإن إدغار موران يضبط مبادئ سبعة يعتقد أنّها حصيلة التطور العلمي والفكري اليوم وهي الكفيلة بتحديد معالم التفكير المستقبلي.

  • المبدأ النسقيّ أو التنظيمي: الذي يربط معرفة الأجزاء بمعرفة الكلّ حسب المكوك الذي أشار إليه بسكال بقوله: “إني أعتبر أن معرفة الأجزاء دون معرفة الكل أمر مستحيل، وكذلك الشأن بالنسبة إلى معرفة الكل…”[71].
  • مبدأ التصوير التجسيمي الليزري الهولوغرامي:”يكشف هذه المفارقة الظاهرة المعقدة حيث لا نجد الجزء في الكل وحسب، ولكن الكل مسجلا في الجزء…الكل موجود في الجزء. فالمخزون الوراثي بأكمله موجود في كل خلية فردية. والمجتمع حاضر كذلك في كل فرد باعتباره كلا وذلك عبر اللغة والثقافة والمعايير…”[72].
  • مبدأ الدائرة أو الحلقة الارتجاعية: ويسمح بمعرفة المسارات الذاتية التعديل. “فهو يقطع مع مبدأ السببية الخطية. فالسبب يؤثر في الفعل والفعل في السبب…”[73].
  • مبدأ الحلقة التكرارية: ويتجاوز مفهوم التعديل إلى مبدإ الإنتاج الذاتي والتنظيم الذاتي…”إن العناصر البشرية تنتج المجتمع في/ ومن خلال التفاعل بين بعضها بعضا. ولكن المجتمع باعتباره كلا صاعدا فهو ينتج إنسانية أفراده بإعطائهم اللغة والثقافة “[74].
  • مبدأ الاستقلالية / التبعية (التنظيم البيئي الذاتي). “إن مبدأ التنظيم البيئي الذاتي ينطبق بطبيعة الحال بطريقة خصوصية على الأفراد الذين ينمون استقلاليتهم ارتباطا بثقافتهم وعلى المجتمعات التي تتطور من خلال الارتباط بمحيطها الجغرافي- البيئي…”[75].
  • المبدأ الحواري: لابد من تصور حوارية بين النظام / الفوضى…”فعندما ننظر إلى النوع أو المجتمع يختفي الفرد. وعندما نقدر الفرد يختفي النوع والمجتمع. إنه يتوجب على الفكر أن يؤمن حواريا المصطلحين اللذين يتجهان إلى نفي كل واحد منهما الآخر”[76].
  • مبدأ إدخال العارف في كل معرفة: إن كل معرفة هي إعادة بناء / ترجمة بواسطة عقل في ثقافة وزمن محددين. “إن إصلاح التفكير ليس ذا طبيعة غير برامجية وإنما هي مثالية نموذجية باعتبارها تعني قدرتنا على تنظيم المعرفة. إنه هو الذي يسمح بالامتثال لغاية العقل المحكم أي الذي يمكن أن يسمح بالاستعمال الكامل للذكاء. ولذلك يتوجّب أن نفهم أن وضوح رؤيتنا مرتبط بتعقيد نمط تنظيم أفكارنا…”[77].

تمثل هذه المبادئ السبعة أساسا معرفيا ايبستمولوجيا جديدا لمعرفة المعرفة بفرعيها الكبيرين العلمي والإنساني، خاصيته الكبرى الربط بين روافد المعرفة ربطا ذكيا لا تلفيقيا والفهم العميق للفكر من الداخل لا مجرد تفسيره من الخارج.. وهي مبادئ تتجاوز الإيبستمولوجيا التقليدية التي صفاتها حسب موران:” السببية الأحادية وأحادية التوجه…وصرامة المنطق الكلاسيكي …”[78]. في حين أن ميزة المعرفة الجديدة إضافة- إلى الربط بين المعارف ومواجهة الارتياب بمحاورة الارتياب لا التسليم -بناء معرفة:” تقهمية وهي مبنية على التواصل والإحساس المرهف بالآخر، بل وعلى التعاطف الذاتي البيني نفسه”[79].

تميز الفكر الكلاسيكي بالحتمية الناجمة عن يقين امتلاك الحقيقة العلمية والانغلاق والجفاف بل الجفاء بين فروع العلوم ونظريات الفكر والثقافة ممّا ولّد التباعد والتفكّك وبالتالي التنافس الحادّ والإقصاء والصراع، لذلك فإن فضل الفكر الجديد أنه حسب موران: “قادر على الامتداد إلى أخلاقيات (إيتيقا) الربط والتضامن بين البشر”[80].

فما هو تأثير هذه الإيتيقا على الإصلاح التربوي المستقبلي؟

3- 4- 2- الإصلاح التربوي المستقبلي:

لا يمكن أن ننجز إصلاحا تربويا حقيقيا إن لم نشخّص الواقع التعليمي التربوي اليوم في فرنسا وفي أغلب بلدان العالم إن لم نعمّم.

3- 4- 2 -1 – واقع التعليم:

تختزل مشكلات التعليم عالميا في عبارات كمية من “مزيد من الاعتمادات” و”مزيد من المدرسين” …إلخ وإن كانت هذه المشكلات حقيقية وجب معالجتها فإنّ أزمات التعليم أعمق. وأهمها:

أولا: الجمود والتقليد والبيروقراطية الضخمة التي تؤزم التربية وتقف ضدّ كل إصلاح حقيقي. يقول موران:” فمكنة التربية الضخمة متيبسة وجافة وقاسية ومبقرطة. وثمة عدد كبير من المدرسين المستقرين في عاداتهم وفي سيادتهم الاختصاصية…”[81].

ثانيا: سيطرة الأفكار العامة الناجمة عن سيطرة المختصين والتخصص. وهذه العقلية المتمترسة في ثقافة التخصص تزين لأصحابها أنهم الأعلم بحكم التخصص وبحكم هذا التخصص يزعمون أنه لا فائدة من الأفكار العامة في حين أن: “سيطرة المختصين هي سيطرة الأفكار العامة الأكثر خواء. ولكن الأكثر خواء هي تلك القائلة بأنه لا يتوجب أن تكون ثمة أفكار عامة”[82].

ثالثا: العلاقة المأزومة بين المدرسة والمجتمع. فمهمة المدرسة المركوزة في إصلاح العقول تتعرض لعائق عضوي يتمثل في عطب المجتمع الذي ينتج عقولا مأزومة ويعيد إنتاجها إن حاولت المدرسة إصلاح تلك العقول. يوضح موران الصورة قائلا: “إن هذه العلاقة لا تصدر عن مرآة بقدرما هي أقرب من التصوير التجسيمي الليزري ودائمة التكرر. إنها صورة ثلاثية الأبعاد: فكما تحمل نقطة منفردة واحدة من الهولوغرام أي التصوير التجسيمي في طياتها مجمل الصورة الممثلة تحمل المدرسة في فرادتها حضور المجتمع بأكمله في داخلها. وهي تكررية لأن المجتمع ينتج المدرسة التي تنتج بدورها المجتمع”[83].

هذه الأزمات، والتي وصفها موران بالانسدادات، تضعنا في انسداد حقيقي أيهما أولى بالإصلاح اليوم: المدرسة أم المجتمع؟ وبصفة أخرى من أين نبدأ؟

3- 4- 2- 2- خصائص البديل التربوي:

يؤمن موران بأن: “إصلاح التعليم يجب أن يقود إلى إصلاح التفكير وإصلاح التفكير يجب أن يقود إلى إصلاح التعليم”[84]. أما كيف؟ وبصفة أدق من يقوم بمهمة الإصلاح؟ وما هي غاياتها؟ يجيب موران بالتركيز على محورية المربّي. ولكن ما خصاله؟ وماهي رسالته؟

3- 4- 2- 3- خصال المربي المستقبلي:

تنطبع مهمة المربي المنشود بطبيعة مهمته. وككلّ مهمة تاريخية يتطلب إنجازها فئة قليلة، ولكن مؤمنة برسالتها لا تخشى المعارضين ولا تتأثر لسلبية المتجاهلين، ولا تستسلم لجهل الجاهلين وليس لها مطامع مادية أو شهرة أو حظوة. فكل ما يحركها هو حبها لمهمتها وإيمانها بها. يقول موران: “من سيربي المربين؟ فستكون أقلية من المربين يحدوها الإيمان بضرورة إصلاح التفكير وإعادة إحياء التعليم. وسيكون المربون من صنف أولئك الذين يحملون في داخلهم معنى مهمتهم”[85].

وأعتقد أن موران يلمح إلى دور المفكّرين الكبار والفلاسفة العظام الذين سبق أن غيروا بأفكارهم العالم مثل جون جاك روسو وماركس ودوركايم…ولا يمنع من أن نستنتج كذلك تلميحه إلى دور القديسين والأنبياء.

يحدد موران مهمة المربي الجديد في “مهمة التبليغ”[86]. وهذه المهمة تقتضي الكفاءة والموهبة الفنية.

أي أن يكون المربي محترفا، وهو ما تلح عليه النظريات التربوية الحديثة، وأن يكون موهوبا وفنانا يؤدي مهمته / رسالته بدافع الحب، ويصطلح عليها موران بـ”الايروس” يقول:” إيروس (إله الحب) الذي هو في الآن نفسه رغبة ولذة وحب رغبة ولذة النقل والإيصال وحب المعرفة وحب للمتعلمين…”[87].

ولكنها لا تتوقف عند الكفاءة والحب، وإنما تتمدد إلى الإيمان. “فالمهمة تفترض بداهة الإيمان. وهي تعني هنا الإيمان بالثقافة، والإيمان بإمكانيات العقل البشري. ولذلك تكون المهمة عالية وصعبة بما أنها تفترض في الآن نفسه الفن والإيمان والحب”[88].

إن قرن موران مهمة المربي بالإيمان هي التي جعلتنا نتحدث عن رسالة المربي بدل المهمة. فأظن أن موران يسبغ على التربية الطابع الإيماني الديني الروحي وإن لم يصرح.

3- 4- 2- 4- الرسالة الجديدة:

 يضبط موران الرسالة التربوية في ست غايات كبرى هي:

-” توفير ثقافة تسمح بتمييز المشاكل المتعددة الأبعاد والشاملة والرئيسية وتبين سياقها وعولمتها ومعالجتها.

-تهيئة العقول لوضع التحديات التي يضعها تعقيد المشاكل المتنامي للصعوبة الإنسانية.

-تهيئة العقول لمواجهة الارتياب الذي ما فتئ يتزايد.. بتشجيع الذكاء الاستراتيجي فيها والمراهنة على عالم أفضل.

-التربية من أجل التفاهم البشري بين الأقربين والأبعدين.

-تعليم الانتماء إلى فرنسا وإلى تاريخها وإلى ثقافتها وإلى المواطنة الجمهورية وإدخال الانتماء إلى أوروبا.

-تعليم المواطنة الأرضية من خلال تعليم الإنسانية في وحدتها الإناسية.. وفي تنوعاتها الفردية والثقافية…”[89]

والملاحظ أن هذه الغايات تعتبر تركيزا مكثفا لطبيعة التربية البديلة التي يتبناها موران، وتلتقي مع الثقافة الثالثة في التوحيد بين الخصوصية والكونية والعلوم والإنسانيات…فماهي معالم هذه الثقافة حسب موران؟

3- 5- معالم الثقافة المستقبلية:

ينطلق موران من حقيقة ثابتة عنده وهي: أن “إصلاح التفكير هو ضرورة تاريخية مفتاحية”.[90] فمثلما تعاني التربية انسدادات عديدة فإن الثقافة تشكو انغلاقا متعدّد الوجوه. يعاني الفكر تسلط التقنيين والبيرواقراطية” هو الفكر المحتوي على فراغات، فكر التقنو– علوم المبقرطة الذي يقطع النسيج المركب للواقع إلى نقانق”[91]. ويشكو تضخم الهووية فهو “فكر منغلق ومنطو على الإثنية أو الأمة والذي يقسم إلى قطع صغيرة نسيج الوطن- الأرض”[92]. أي أنّ الثقافة السائدة لا في فرنسا أو أوروبا فحسب، بل في الكوكب الأرضي اليوم ممزقة بين الأصولية الهووية والتكنو بيروقراطية الحداثية.

ولا يوجد بين هذين التيارين الفكريين صلات تواصل وتعارف وتعاون. لذلك لا بدّ من البحث عن حلّ منهجي جذري يضع حدّا لهذا الانفصال ويحدّ من المغالاة والجمود والتعالم والحدود بين التخصصات.

 فالحل -حسب موران- أنّ الثقافة المستقبلية عليها أن تنهض على أساسين هما إحياء اللائكية وميلاد ديموقراطية عرفانية.

3- 5- 1 اللائكية الجديدة:

طبعا المناداة بلائكية جديدة ينهض على تجاوز لائكية قديمة. ولئن كانت اللائكية عموما laïcité، مفهوم يعبر عن فصل الدين عن شؤون الحكومة والدولة وكذلك عدم تدخل الحكومة في الشؤون الدينية، فإن اللائكية الفرنسية بصفة خاصة: “لا تكتفي بتحرير السياسي من سيطرة الكنيسة وإنّما تراهن على مقارعة الدين عامة وطرده من الفضاء العام لتحل محله القيم اللائكية الصلبة، لتحل المدرسة بدورها محل الكنيسة في إعادة صياغة الوعي الفردي والجماعي”[93]. وبالرغم من تبنّي موران لهذه اللائكية فإنّه يؤاخذها بسبب تحجرها وتوقفها في الماضي. يقول موران: “فلائكيتنا، في بداية القرن، ظنت أن العلم والعقل والتقدم كانت ستقدم الحلول لكل هذه التساؤلات (حول العالم والطبيعة والحياة والإنسان والإله)”[94]. ولكنها فشلت لأنها انغلقت على علم اللاهوت وصدت أذنها عن مطالب التقدم ومخاطر التقنية وارتياب العقل. لذلك لقد تبدلت مهمة اللائكية اليوم تبدل الأرض وتغير إشكالات الوجود والحياة والمصير.

من هنا يتوجّب حينئذ– حسب موران- ولادة لائكية جديدة من أوكد مهامّها: “ألا تقتصر على أشكلة الإنسان والطبيعة والعالم والإله، فقط، ولكن يتوجّب أن تؤشكل أيضا التقدم والتقنية والعقل. إنه على اللائكية الجديدة أن تؤشكل العلم من خلال كشف ازدواجياته العميقة. كما يتوجب عليها أن تؤشكل العقل من خلال وضع العقلانية المفتوحة في مواجهة العقلانية المغلقة. كما يتوجّب عليها أخيرا أن تؤشكل التقدم الذي لا يرتبط بضرورة تاريخية وإنما بالإرادة الواعية للبشر. وهكذا قد يتسنى إذن للائكية عائدة إلى الحياة أن تخلق الظروف الملائمة لنهضة جديدة”[95].

على اللائكية أن تطبع مع حقائق العلم والمعرفة المعاصرة، وأن تغادر محافظتها الجامدة وتنخرط في ثقافة جديدة منفتحة مؤمنة بالتطور والتواصل بين فروع المعرفة والشعوب والأمم.

3- 5- 2-ضرورة ميلاد ديموقراطية عرفانية:

ينحت موران مفهوما جديدا غير مسبوق هو “ديموقراطية عرفانية” يربط فيه بين الديموقراطية والعرفانية. الديموقراطية مفهوم سياسي يعرف مختلف أشكال تنظيم التعايش بين الأفراد في إطار سياسي. كالديموقراطية التمثيلية التي تقوم على التمثيل النيابي والديموقراطية التشاركية التي تنظم العملية السياسية بين أطراف يكونون شركاء. والديموقراطية المباشرة التي تقوم على حضور الناس المباشر وانعدام الوساطة في اتخاذ القرار وتنفيذه…إلا أنّ الديموقراطية العرفانية مصطلح جديد يريد موران به تجاوز المفهوم السائد للديموقراطية القائم على التصور النخبوي للخبراء والتقنيين والمتخصصين إلى مفهوم شعبي جماهيري أوسع. ويستعير موران مصطلح عرفانية من بياجي.  وتعني عنده “مجموع الحالات والسيرورات (التمشيات) التي تقع داخل نظام فيزيائي أو طبيعي أو اصطناعي لاكتساب أو إنتاج تمثلات داخلية انطلاقا من معطيات خارجية من أجل أخذ قرارات ذات صبغة ذهنية أو سلوكية “[96]. والغرض من هذه الديموقراطية العرفانية أن يكون الشعب، كافة الشعب، مشاركا في صنع القرار من خلال الحوار والتعلم والتثقف لا من خلال الإقصاء وحصر الممارسة السياسية في التكنو بيرواقراطيين العارفين بعلوم العصر وميداينه ومتطلباته على عكس أغلب الناس.

لذلك يقول موران: “إن إصلاح الفكر ضرورة ديموقراطية مفتاحية. فتكوين مواطنين قادرين على مواجهة مشاكل عصرهم هو كبح لجماح التلف الديموقراطي الذي يثيره في كل حقول السياسة توسع سلطة الخبراء والمختصين من مختلف الهيئات والذي يحد من كفاءة المواطنين…”[97].

ويعتقد موران أن إصلاح اللائكية بعلمنتها وفتحها على روح العصر وثقافته ومكتسباته من ناحية وتثقيف الشعوب بمساعدتها على التعلم واستيعاب معارف العصر ومنهاجياته العلمية والثقافية هي الشروط الضرورية لتحقيق إصلاح تربوي وثقافي لا في فرنسا فحسب بل في كافة دول العالم والإنسانية. يقول: “فهو إذن إصلاح حيوي لمواطني الألفية الجديدة قد يسمح لهم بالاستعمال الكامل لكفاءاتهم الذهنية وقد يشكل لا الشرط الوحيد بالتأكيد ولكن الشرط اللازم للخروج من وحشياتنا.”[98]

هكذا يتدرج موران في بسط إشكاليات التعليم والتربية والثقافة اليوم من المحلي أي فرنسا فالقاري أي أروبا إلى العالمي.

يشخص موران وضع التربية والثقافة فيسجل وجود أزمة عميقة لا تتوقف عند ضعف الإمكانيات المادية وتفاوتها من بلد إلى آخر، بل تتعدى ذلك إلى تفكيك طبيعة الأزمة التربوية العائدة إلى أزمة فكرية علمية منهجية تتسم بنزعة التفكك بين المعارف والمجالات والاختصاصات، فبنى الإنسان المعاصر حدودا ومعازل بين العلمي والأدبي والثقافي والتكنولوجي وسيطر فيها التعميم والتبسيط لواقع يعرف التعقيد والتركيب بسبب تطور المعارف وتفرعها.

يستنهض موران الثقافة والفكر الإنساني البصير بتعقد المعرفة والساعي إلى فتح الحدود بين التخصصات وتجسير الطرق بينها وتكييف المنهاجيات وتوحيد الفلسفات بما يراعي الثقافي الخصوصي ويخدم الوحدة البشرية.

فمن أجل إصلاح التعليم والتربية وجب وجود مفكرين مبدعين علماء مؤمنين برسالتهم الثورية في بناء المعرفة المعقدة وتيسيرها للأجيال وتقريبها من الأفهام.

ويقترح موران تجديد اللائكية التي تتجاوز الانغلاق والانعزال والمفاضلة بين المعارف وتؤمن بدور الإنسان في صنع مصيره. كما نادى موران بتطعيم الديموقراطية الليبرالية التي قادت إلى رأسمالية متوحشة بثقافة عرفانية تتجاوز احتكار الخبراء والتقنيين الاقتصاديين والتكنولوجيين والعلميين والقانونيين ورؤيتهم الضيقة والأوليغارشية لتسيير الأمور إلى ديموقراطية جماهيرية واسعة تدمج كل الشعب في فهم مشكلات عصره للقدرة على بناء مستقبله ومواجهة مصيره…

وبالرغم من هذا الجهد التحليلي التوليفي لقضايا التربية والثقافة الكونية وما قدمه موران من إضاءات معرفية فكرية فلسفية إيبستمولوجية شديدة الأهمية، فإن مشروع موران الإصلاحي الإنساني ظلّ منقوصا، إذ تجاهل البعد الديني الروحي في بناء إنسان متوازن يعيش حياته مفكرا متسائلا عاملا مجتهدا متدبرا عبر الشك المنهجي لا الارتيابيّ المنفلت من كل قيد  في السائد،  ناظرا  في الخلق لا مسلما خانعا للواقع والتقليد والموروث… حتى يستطيع الإبداع والإضافة  كأنه يعيش أبدا، ولكنه يفكر في مصيره بيقين المؤمن الواثق في وجود إله عادل، ويوم آخر يجازي فيه البشر على ما فعلوا بما يجعل من  خلق الحياة أمرا محقا لا عبثا، والآخرة حقا لا وهما.

كما سكت موران- وهو اليساري الجذور ومقاوم النازية والرأسمالية المتوحشة – عن الإصلاح الجذري الاقتصادي الاجتماعي الذي تحتاجه اليوم جميع الشعوب والأمم لتتجاوز الطبقية الظالمة والتفاوت غير العادل الذي يمزق المجتمعات ويفجر الحروب ويفرض الاستعمار والاستيطان والهيمنة الامبريالية وضرورة إرساء نظام ديموقراطي اجتماعي يحقق العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص والشراكة الحقيقية في صنع المستقبل داخل الشعوب وفيما بينها…


[1]– “فالتنظيم الاختصاصي تمت إقامته خلال القرن 19 خاصة مع تكون الجامعات الحديثة ثم تطور في القرن 20 مع نهوض البحث العلمي …” ينظر إلى العقل المحكم، الملحق 2، “التخصصية البينية والمتعددة والعابرة”، ص 153.

[2]– إدغار موران، العقل المحكم، تر. منصف وناس، مرا. فرج معتوق، تونس، معهد تونس للترجمة ط.1، 2020، ص 72 و73.

[3]– المصدر نفسه، ص 30.

[4]– المصدر نفسه، ص 11.

[5]– المصدر نفسه، ص 12 و13

[6]– إدغار موران: الفكر والمستقبل مدخل إلى الفكر المركب، ترجمة: أحمد القصوار ومنير الحجوجي، ط1، دار توبقال للنشر، المغرب، 2004، ص 17.

[7]– العقل المحكم، مصدر سابق ص 14.

[8]–  المصدر نفسه، ص 16.

[9]– المصدر نفسه.

[10]– المصدر نفسه.

[11]– المصدر نفسه، ص 17.

[12]– المصدر نفسه.

[13]– المصدر نفسه.

[14]– المصدر نفسه.

[15]–  المصدر نفسه، ص 18.

[16]– المصدر نفسه.

[17]– المصدر نفسه.

[18]– العقل المحكم، ص 19.

[19]– المصدر نفسه، ص 20.

[20]– المصدر نفسه، ص 21.

[21]– بروكمان (جون): (JhonBrockman)، من مواليد 16 فيفري 1961 في بوسطن بأمريكا. كاتب وأديب أمريكي تخصص في الأدب العلمي. من مؤلفاته، الإنسانيون الجدد: العلم عند الحافة والخمسون سنة المقبلة…الموسوعة الحرة بالفرنسية.

[22]– د. ضياء عبد الله،خميس الكعبي: سرديات جون بروكمان الثقافة الثالثة والإنسانيون الجدد، موقع بالعربية نات، 14 مايو 2020.

[23]– العقل المحكم، ص 23.

[24]– المصدر نفسه، ص 24.

[25]– المصدر نفسه، ص 27.

[26]–  المصدر نفسه، ص 28.

[27]– العقل المحكم، ص 29.

[28]– المصدر نفسه، ص 32.

[29]– المصدر نفسه، ص 33.

[30]– المصدر نفسه، ص 34.

[31]– المصدر نفسه، ص ص 38 و39.

[32]– المصدر نفسه، ص 73.

[33]– سورة آل عمران: 190- 191

[34]– العقل المحكم، ص 74.

[35]– المصدر نفسه، ص 76.

[36]– المصدر نفسه، ص ص 39 و40.

[37]– العقل المحكم، ص 40.

[38]– الجاحظ: كتاب الحيوان، تحقيق وشرح، عبد السلام هارون، الطبعة الأولى، 1988، دار الجيل، لبنان، ج 6، ص 35.

[39]– العقل المحكم، ص 83.

[40]– المصدر نفسه، ص 84.

[41]– المصدر نفسه.

[42]– المصدر نفسه، ص 85.

[43]– موران (إدغار): تربية المستقبل (المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل)، ترجمة عزيز لزرق ومنير الحجوجي، ط1، دار توبقال ومنشورات اليونسكو، 2002، ص ص 106 و107.

[44]– العقل المحكم، ص 89.

[45]– العقل المحكم، ص 89.

[46]– المصدر نفسه، 95.

[47]– المصدر نفسه، ص 97.

[48]– المصدر نفسه.

[49]– العقل المحكم، ص 100.

[50]– فالثقافة تحافظ دوما على خصوصيتها…تحافظ الثقافة على الهوية الإنسانية وبشكل أدق على الأشياء الأكثر خصوصية فيها …وقد تعطي الثقافات الانطباع بأنها تنغلق على ذاتها حفاظا على هويتها الخاصة لكنها في الواقع تظل دوما مفتوحة…إن الكائن البشري إذن كائن واحد ومتعدد في نفس الآن…إن كل كائن بشري يحمل الكون كله في داخله…”. ينظر إلى: موران (إدغار)، نربية المستقبل، مصدر سابق، ص 53.

[51]– العقل المحكم، ص 101.

[52]– المصدر نفسه.

[53]– المصدر نفسه، ص 103.

[54]– المصدر نفسه، ص 104.

[55]– المصدر نفسه.

[56]– المصدر نفسه، 105.

[57]– المصدر نفسه.

[58]– المصدر نفسه.

[59]– المصدر نفسه، ص 106.

[60]– المصدر نفسه، ص 107.

[61]– المصدر نفس.

[62]– ميديولوجيا: “إننا نسمي (وسائطية) médiologie المبحث الذي يتكلف بالكشف عن نقط لقاء وتوحيد التقنية والسياسة والتصوف…” دوبري(ريجيس): حياة الصورة وموتها، ترجمة: فريد الزاهي، إفريقيا الشرق، المغرب، 2002، ص 85.

[63]– العقل المحكم، ص 112.

[64]– المصدر نفسه.

[65]– المصدر نفسه.

[66]– المصدر نفسه

[67]– المصدر نفسه.

[68]– العقل المحكم، ص ص 113 و114.

[69]– المصدر نفسه، ص 114.

[70]– المصدر نفسه، ص ص 114 و115.

[71]– العقل المحكم، ص 126.

[72]– المصدر نفسه، ص 126.

[73]– المصدر نفسه، ص 127.

[74]– المصدر نفسه، ص ص 127 و128.

[75]– المصدر نفسه، ص 128.

[76]– المصدر نفسه، ص 129.

[77]– المصدر نفسه، ص ص 129 و130.

[78]– المصدر نفسه، ص 125.

[79]– المصدر نفسه.

[80]– المصدر نفسه، ص 131.

[81]– العقل المحكم، ص 134.

[82]– المصدر نفسه.

[83]– المصدر نفسه، ص 135.

[84]– المصدر نفسه، ص 21.

[85]– المصدر نفسه، ص 136.

[86]– المصدر نفسه.

[87]– المصدر نفسه.

[88]– المصدر نفسه، ص 137.

[89]–  العقل المحكم، ص ص 137 و138.

[90]– المصدر نفسه، ص 140.

[91]– المصدر نفسه.

[92]– المصدر نفسه.

[93]– الموسوعة السياسية، موقع inkedin.com

[94]– العقل المحكم، ص 139.

[95]– المصدر نفسه.

[96]– بياجي (جون): بسيكولوجيا الذكاء، منشورات أرمون كولان،1967، ص 115.

[97]– العقل المحكم، ص 139.

[98]– المصدر نفسه، ص 140.

مقالات أخرى

قراءة في كتاب: البينيّة في الأكاديميا العربية والإسلاميّة من الاختبار التقني إلى المسؤولية الحضارية

الطاقة الاستلابية للعنف الرمزي في المنظور التربوي عند علي وطفة

تقديم كتاب:”خطاب الاستعراب بتونس في عهد الحماية، الخصائص والخلفيّات” لنجاة قرفال

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد