التناغم الإيديولوجي في السوسيولوجيا النقدية

ملخص:

   تروم هذه المقالة إبراز التناغم الإيديولوجي الذي يميز الجماعة العلمية في السوسيولوجيا، مثل أنصار السوسيولوجيا النقدية التي أسسها بيير بورديو (Pierre Bourdieu). إذ كثيرا ما يشار إلى هذا التقليد السوسيولوجي في الأدبيات السوسيولوجية الفرنسية والإنجليزية بالعديد من الأسماء، مثل “سوسيولوجيا الهيمنة” أو “دعاة الحتمية” أو سوسيولوجيا بورديفان (Bourdevine).

الكلمات المفتاحية: السوسيولوجيا النقدية ـ الحتمية ـ الإيديولوجيا ـ الجماعة العلمية

Abstract:

This article aims to demonstrate the ideological harmony that characterizes the scientific community in sociology, such as the supporters of critical sociology founded by Pierre Bourdieu. This sociological tradition is often referred to in the French and English sociological literature by many names, such as “sociology of hegemony” or “advocates of determinism” or a sociology of Bourdevine.

Keywords: Critical sociology – determinism – ideology – the scientific community.


1- المقدمة:

   تتميز السوسيولوجيا بتعدد الاتجاهات والتيارات، وكل اتجاه يقوم على براديغم ومقاربات نظرية معينة تهدف إلى فهم الظاهرة الاجتماعية وتفسير قوانينها. وهذا الأمر يغني السوسيولوجيا بسبب تعدد المناهج والمقاربات النظرية، إلا أنه قد يكون خطرا على السوسيولوجيا عندما تصبح هذه الاتجاهات والتيارات عبارة عن مذاهب فكرية (الإيديولوجية) تحاول أن تنتصر وتهيمن بمفردها على الحقل السوسيولوجي. إذ يبدو أنّ إغراق السوسيولوجيا في مستنقع التناغم الإيديولوجي معرّض لها إلى الانهيار، لأن العلم يتأسس على النسبية.

   وتعتبر سوسيولوجيا بيير بورديو أحد أهم التيارات التي فرضت نفسها منذ أوائل الستينيات بفرنسا، بفضل العمل الذي أنجزه بورديو وفريقه في مركز السوسيولوجيا الأوربية، بسبب مزجه لتقاليد فلسفية وسوسيولوجية متنوعة، وتجسيده لما يسمى بالمثقف العضوي بتعبير أنتوني غرامشي (Antonio Gramsci). فقد تميزت أعمال بورديو بأنها كانت ذات طابع نقدي بدرجة أولى، حيث عمل بورديو من خلال أعماله على تكييف الماركسية مع البنيوية في إطار ما يسمى بـ”البنيوية التكوينية” Structuralisme constructiviste. كما كان لأعمال بورديو ونقاشاته تأثير كبير على زملائه وتلاميذه وأتباعه من اليساريين الذين حولوه إلى عراف اليسار الفرنسي (Bourdevine).

   من هنا، تروم هذه المقالة إلى إبراز التناغم الإيديولوجي الذي يميز أتباع بيير بورديو في السوسيولوجيا، إذ يشار إلى هذا التقليد السوسيولوجي بالعديد من الأسماء، مثل “السوسسيولوجيا النقدية” و”سوسيولوجيا الهيمنة” أو “دعاة الحتمية”.

2- أهمية البحث وأهدافه:

   يعد علم اجتماع النقدي عند بيير بورديو محاولة لفهم الممارسة ضمن قيود العالم الاجتماعي، من حيث أنّه يسعى إلى ردم الفرق بين العوالم الاجتماعية الذاتية والموضوعية. ويتمثل ذلك في سعيه إلى تجاوز مجموعة من الانقسامات المترابطة: الجماعي والفردي، النسق والفعل، الكلي والجزئي.

  ولقد قام بورديو بتأسيس مجموعة من أدوات التفكير التي سمحت له باستكشاف ظواهر اجتماعية مختلفة، ظواهر مثل عدم المساواة في التعليم، التمايز الطبقي، الهيمنة الذكورية، النزاعات الثقافية…، وذلك من خلال ابتكار مجموعة من الأدوات وهي عبارة عن مفاهيم مترابطة تهدف أثناء تطبيقها إلى أن تفسر وتشرح وتفصح عن عدم المساواة والتمايز في الطبقات الاجتماعية المختلفة. ولم يكن القصد من هذه المفاهيم أن تستخدم فقط كنظرية، بل كطريقة للتحليل. لكن المشكلة التي أصابت هذه النظرية بعد أن تم تبنيها من طرف الباحثين الفرنسيين الذين لهم انتماء يساري، أنهم جعلوا منها أشبه بالعقيدة المرجعية التي لا يمكن الخروج عنها في فهم الحقائق الاجتماعية.

   ومن هذا المنطلق، تأتي أهمية المقالة في إبراز التناغم الإيديولوجي الذي يميز الجماعة العلمية في السوسيولوجيا، مثل أنصار السوسيولوجيا النقدية التي أسسها بيير بورديو. فهذه المقالة لا تقل أهمية عن النقد الذي قدمه العديد من الباحثين لهذا التيار السوسيولوجي، مثل الباحثة الفرنسية جانين فيردس ليروس (Jeannine Verdès-Leroux) في أحد مؤلفاتها[1]، حينما اعتبرت أن ممارسة بورديو للسوسيولوجيا هي ممارسة ترتبط برجل السياسة، إذ يمارس فيها ما تسميه بالإرهاب السوسيولوجي على خصومه ومعارضيه، وهو ما نجده عند العديد من أنصار بورديو في وقتنا الراهن.

   وبالتالي، يبقى الهدف الذي نسعى إليه من هذا العمل المتواضع هو أن نحذر من كل معرفة إيديولوجية، إذ لا يمكن أن نثق في تلك المعرفة مهما اقتربت من الحقيقة، خصوصا حينما يكون خطاب صاحبها مصبوغا بالمواقف السياسية، لأن تلك المعرفة لن تخدم إلا فئة معينة. أما الهدف الثاني، فإنه يكمن في التذكير بأن دور الباحث ليس تبني المواقف السياسية في المقالات أو المؤلفات أو المنابر الإعلامية، وإنما إنتاج المعرفة العلمية. لهذا، يجب على عالم الاجتماع أن يكون بعيدا عن أي انتماء حتى يحافظ على مصداقيته في واقع يحمل الكثير من التناقضات.

3- البناء الإشكالي والمنهجي:

   بعد 17 سنة من وفاة عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، نشرت مجلة (Le Débat)[2] في سنة 2017 العدد 197، ملفا مثيرا للانتباه يتحدث عن مخاطر السوسيولوجيا النقدية التي يمثلها أنصار بيير بورديو، منتقدة هذا الاتجاه في تسييس الحقل السوسيولوجي من جهة، ومن جهة أخرى الممارسة العلمية القائمة على ثقافة التبرير لكل الوقائع والظواهر الاجتماعية باعتبارها تقوم على الهيمنة والحتمية.

   يرجع هذا الانتقاد إلى الأحداث الإرهابية التي عرفتها فرنسا سنة 2015، إذ كان للوزير الأول السابق مانوال فالس (Manuel Valls) دور مهمّ في إثارة النقاش حول ما أسماه بثقافة التبرير التي يمارسها بعض المثقفين المحسوبين على اليسار، وذلك بدعوته علنا إلى القطع مع من يحاول البحث عن تفسيرات اجتماعية أو ثقافية من أجل تبرير العمليات الإرهابية، الأمر الذي أثار ضجة واسعة بين الباحثين في العلوم الاجتماعية، بين من يرفضون موقف الوزير السابق ومن يؤيده، خصوصا بين أنصار بيير بورديو وأنصار ريمون بودون (Raymond Boudon).

   ومن المعلوم أن التبريرات التي يقدمها علماء الاجتماع تصدر عن خلفية نظرية معينة، غير أن السوسيولوجيا لا تستطيع دائما أن تجيب على سؤال: أية نظرية أو مقاربة يمكن تطبيقها لفهم الواقع الاجتماعي؟

   نجد بعض الباحثين الفرنسيين المحسوبين على اليسار ينتصرون لنظرية الممارسة عند بورديو ويعملون على توظيفها في البحث السوسيولوجي دون استحضار السياق الزمكاني للظاهرة المدروسة أو تعدد منطق الفعل عند الفاعل الاجتماعي. وعلى نقيض من يستخدمها كنظرية شاملة من أجل توجيه دراسته أو كمفهوم في إطار موضوع دراسته، نجد أن هناك من يستغني عن النظرية عموما ويحاول أن يدرس الواقع الاجتماعي المعيش بعيدا عن أي توظيف للمقولات النظرية، مستلهما في ممارسته السوسيولوجية شعار “من الميدان إلى الميدان”، وذلك حتى لا يسقط في التحزب النظري.

   في هذا السياق، يمكن طرح السؤال التالي: هل تتأسس السوسيولوجيا النقدية على الحياد الموضوعي أم على الإيديولوجيا والمواقف السياسية؟

   وللإجابة على هذه الإشكاليّة، سنحاول أن نعتمد على المستوى المنهجي على الأطر النظرية التي نتوفر عليها بغرض إبراز التناغم الإيديولوجي الذي يميز السوسيولوجيا القتالية (النضالية)، أو ما يسمى بدعاة النزعة الحتمية أو الهيمنة، إذ يتسم هذا التقليد بالعودة إلى ما نسميه بـ “سوسيولوجيا المعدة”[3]، أي تلك السوسيولوجيا التي يتم ترويجها واستهلاكها في وسائل الإعلام، وفي الفصول الدراسية، وفي المجلات العلمية والثقافية، دون أي مقياس للذكاء النقدي، فهي سوسيولوجيا تفرح أصحاب الأمعاء الفارغة وتسر أصحاب الموائد.

   وننبه في هذا الإطار إلى أن استعمالنا لمصطلحات أومفاهيم مثل السوسيولوجيا النقدية، أو دعاة الحتمية، أو الهيمنة، أو أنصار بورديو لا يلغي بعضها البعض، بمعنى أنها تعني نفس التقليد السوسيولوجي الذي نتحدث عنه في هذه المقالة.

4- السوسيولوجيا عند أنصار الهيمنة:

   يمكن إدراج السوسيولوجيا النقدية ضمن ما يسميه آلان تورين (Alain Touraine) بالخطاب التأويلي السائد، وهو تأويل يساري مستوحى ممّا بعد الماركسية الذي يقوم على عدم الاعتراف بمنطق الفاعلين وعلى قدرتهم على الفعل والحركة. حيث يقول تورين: “أتصور هذا الخطاب التأويلي السائد أداة لاستبعاد الفاعل بصفته ذاتا وإنكار وجوده”[4]. فهو خطاب ينظر إلى الحياة الاجتماعية على أنها خاضعة للهيمنة، أو لسلطة مطلقة. وهو الخطاب الذي ساد بين عدة فئات اجتماعية (الأساتذة والطلبة…). فقد تطور هذا الخطاب على أنقاض روح 1968 وحركة ماي، خصوصا في سنوات السبعينيات من القرن العشرين.

   يتميز أنصار السوسيولوجيا النقدية أو الهيمنة كما يسميها البعض، برفضهم لكل سوسيولوجيا خارجة عن إطارهم. إذ نجد أنّ بعضهم يتّهم سوسيولوجيا إدغار موران (Edgar Morin) وميشيل مافيزولي (Michel Maffesoli) بأنّها معيارية أو ميتافيزيقية، وذلك لعدة أسباب تبدو معظمها ذاتية، ربّما لأنهما “معروفان لدى الجمهور الواسع نظرا لأن وسائل الإعلام استدعتهما كثيرا من المرات إلى برامجها وقدمتهما على أنهما عالما اجتماع، وذلك من أجل أن يقدما رأيهما في المواضيع الاجتماعية المتنوعة جدا”[5]. علما أن أفكارهما العلمية والفلسفية ازدادتا أهمية عن باقي الأطروحات المصبوغة بالإيديولوجية، والتي لم تعد قادرة على أن تتكيف مع التحولات العالمية التي أثرت في المجتمعات الإنسانية، وأدت إلى تعقيد الواقع الاجتماعي ممّا جعلها تخشى من كل فكر علمي إبداعي يمكن أن يسهم في فهم كل ما يحيط بالحياة الاجتماعية. لهذا، فإنّ خطاب الهيمنة أو الحتمية يعتبر أن “علم الاجتماع لم يتخل بعد كليا عن التفسيرات الميتافيزيقية التي ترجع أصل الظواهر الاجتماعية إلى كائنات مشكوك فيها وذات قوة عليا”[6]. وعندما نريد البحث عن بعض الفاعلين الاجتماعيين مثل الحركات الاجتماعية باعتبارها تمتلك القدرة على أن تمرّ من الهوية الدفاعية إلى الهوية الهجومية، يتدخل خطاب الهيمنة لكي يلغي دور الفاعل. “فاليسار أو اليسار المتشدد يخلق أفكارا حتمية إلى درجة استخدام نفس تحليل خصومه في بعض الأحيان كما حصل مع الماركسية التي تطابقت توقعاتها في الواقع مع توقعات الاقتصاد الليبيرالي”[7].

   يرفض أنصار السوسيولوجيا النقدية كل سوسيولوجية غير نقدية للهيمنة، لأن ذلك يكبح الفاعلين على المقاومة، وهو ما يجعل من هذه السوسيولوجيا كأنّها مسيسة وتنطوي على انحراف كبير في فهم العالم الاجتماعي، فهي تربط كل شيء بالهيمنة على المستوى الروابط الاجتماعية والطبقات الاجتماعية والحقول والرساميل. فضلا عن ذلك، فإن هذه السوسيولوجيا ترى نفسها أنها تلبي حاجيات الأفراد ومصالح الجماعات المهمشة من خلال إبراز التفاوت والتمايز الاجتماعي الحاصل في المجتمعات الرأسمالية، عن طريق تفكيك آليات الهيمنة والسلطة التي تميز الحقول الاجتماعية. فأنصار السوسيولوجيا النقدية، مثل لويك فاكون (Loïc Wacquant) يعتبرون أنّ الحقول الاجتماعية قائمة على الصراع ولا تخلو من التمايز الطبقي. وبالتالي، فإنّ الهدف من السوسيولوجيا النقدية هي دفع الأفراد والجماعات المهمشة إلى المقاومة والنضال من أجل تحرير أنفسهم من الهيمنة، فمن الأمور المهمة لهذا التقليد السوسيولوجي هو مفهوم المثقفين الملتزمين اجتماعيا الذين يتمثل واجبهم في إعادة ضخ ثمار انعكاساتهم وملاحظاتهم في المجال المدني والعام[8].

   لا نخفي أننا نعارض فكرة ما يسمى بعلم اجتماع ملتزم، أو ما يسمى بالسوسيولوجيا النقدية التي تغالي في الايديولوجيا وتميل إلى النضال، أو ما يطلق عليه ألان تورين بالخطاب التأويلي السائد الذي يمجد الماضي، ويجعل من كل واقعة اجتماعية مرهونة بالصراع والحتمية. تلك السوسيولوجيا التي لا تفرق بين مهنة العالم ورجل السياسة بتعبير ماكس فيبر (Max Weber)، أو أولئك الذين يعيدون إنتاج نفس الخطاب البورديوسي ولا يعرفون من إنتاجات بورديو إلا مقولة أو شعار “السوسيولوجيا هي رياضة قتالية” «sport de combat»، والتي يسقط فيها العديد من الباحثين من الجيل الحالي دون وعي منهم. فالسوسيولوجيا النقدية لا تصف الحقائق الاجتماعية فقط، ولكنها تشارك أيضا في إنشائها، الأمر الذي يجعلها سوسيولوجيا سياسية في المقام الأول. إذ يظهر أن هذا التقليد السوسيولوجي الذي يتزعمه بورديو قد تحول من ممارسة العلم إلى ممارسة السياسة، وذلك راجع إلى أن بورديو نفسه قد تخلى عن موقف العالم بعدما ارتدى معطف السياسة. وهذا ما يؤكده زيجمونت باومان (Zygmunt Bauman) بقوله: “بمراجعة المجموعة الأحداث لمقالات بورديو اللاذعة، وبياناته العامة، لاحظ توماس فيرينشزي (Thomas Ferenczi) تخلي بورديو في السنوات الأخيرة في عدد من مداخلاته عن موقف العالم ليتخذ موقف المناضل[9].

   يلاحظ أن اليسار في فرنسا يمثل أحد المشكلات الرئيسية التي تعاني منها السوسيولوجيا منذ مرحلة السبعينات من القرن الماضي. فالذين جعلوا من السوسيولوجيا تعيش أزمة معرفية هم العلماء أنفسهم الذين “يحركهم غضب مقدس”. فقد جعلوا من السوسيولوجيا وسيلة لإعلان مواقفهم السياسية في المعاهد والجامعات بدل أن يساهموا في إنتاج المعرفة العلمية. وقد تم تأكيد ذلك باعتراف الباحثين والعلماء.

  في هذا الإطار، نجد عالمة الاجتماع الفرنسية نتالي إينيك في حوارها مع FIGAROVOX تنتقد أنصار بورديو الذين جعلوا من السوسيولوجيا أداة سياسية وتقول: “هناك المنتمون إلى علم اجتماع ملتزم، علم اجتماع “الرياضة القتالية” على حد استخدام بيير بورديو، “علم اجتماع نقدي” يميل إلى الاندماج مع النضال، ويعتبر أن علم الاجتماع، كما قال إميل دوركهايم (Émile Durkheim)، “لم يكن ليستحق ساعة من التألم” لو أن هدفه كان توقعيا محضا. من ناحية أخرى، هناك من يعتبرون، وأنا منهم، أن كل الآلام يمكن تحملها في سبيل إنتاج المعرفة، وأن على الباحث أو المدرس، كما يرى ماكس فيبر، التمييز بوضوح بين آرائه الشخصية ونتائج أبحاثه، بحيث يترك آرائه الشخصية عند مدخل الفصول الدراسية وبعيداً عن المنشورات العلمية. هذا هو أيضا موقف المؤسسات الأكاديمية -كالجامعة والمعهد الوطني للبحوث العلمية والمنظمات البحثية- التي لا تدفع لباحثيها من أجل الدفاع عن مواقف سياسية بل من أجل إنتاج ونقل المعرفة”[10].

   من خلال ذلك، يظهر أن مهمة السوسيولوجيا تكمن أساسا في إنتاج المعرفة ونقلها فقط، حيث يجب عدم الانسياق وراء النقد انطلاقا من منطق كيف يجب أن يكون الوضع الاجتماعي أو الواقع الاجتماعي، بل يجب الاكتفاء فقط على ما هو كائن وإبرازه للوجود. فضلا عن ذلك، يفترض في السوسيولوجيا أن تتطهر من كل التصورات النظرية التي تقوم على الدوغمائية أو الحركية النضالية التي يسيطر عليها “كهنة العلم”، والذين أظهرهم ماكس فيبر على أنهم يمارسون السياسة أكثر من ممارستهم للعلم.

   إن التفكير حول السوسيولوجيا ينبهنا إلى مسألة مهمة تتمثل في أن “العديد من علماء الاجتماع يرون أنفسهم، وغالبًا دون الاعتراف بذلك، نقادا اجتماعيين. النقد الاجتماعي هو نشاط مهمّ، لكنه ليس علمًا. إنه تمرين في أحكام القيمة”[11]. وهذا ما نجده في الممارسة العلمية عند أنصار الحتمية التي لا تخرج عن نظرية الممارسة عند بورديو، لأن تفسيرهم للممارسة الاجتماعية يقوم دائما على استحضار مسألة التمايز والهيمنة في إطار الحقل (Champ)، فيجعلون من الفرد محكوما بظروف وشروط معينة باستخدامهم لمفهوم الهابتوس (Habitus) باعتباره نسقا من الاستعدادات المستدامة والقابلة للنقل، والتي تنتج أفعالا بطريقة غير آلية تجعل من ممارسة الفرد متكيفة مع منطق الحقل، بمعنى أنّها ممارسة خاضعة للحتمية. وعلى سبيل المثال، يزعم أنصار بورديو أن المؤثرات الثقافية والاجتماعية الخاصة بالتلاميذ لها تأثير كبير على المسار الدراسي لديهم، بمعنى أن التلاميذ الذين ينتمون إلى الطبقة الدنيا أو الفقيرة، يساهمون في إعادة إنتاج نفس التوجه الأكاديمي الذي يميز موقف أبائهم، وهو تصور يلغي استقلالية الأفراد ودور الإرادة لديهم في التغيير الاجتماعي.

   ويمكن التأكيد أن دعاة الهيمنة مؤمنون بالحتمية الاجتماعية بشكل مفرط. ومن الأمثلة اللافتة للنظر برنار لايير (Bernard Lahire)، تلميذ بورديو، الذي يرفض أي هامش للحرية لدى الفاعلين الاجتماعيين، إذ يؤكد ذلك بقوله: “إنّ الإرادة الحرة مجرّد وهم، بمعنى أنّ أي فرد يخضع لتنشئة اجتماعية متعددة قوية، ولتحديد متعدد شديد، يمنعانه من أن يكون واعيا بالحتميات التي تحدده”[12]. وبالتالي، فإنّ هذا التفسير القطعي مهما كان شكله، يعمل على تعزيز الفكر الثابت عند دعاة الحتمية، إذ نجد “في روايات علم الاجتماع النقدي، إذا لم يكن هناك سحر أسود، فهناك القوة الخفية للكيانات التي تسمى النظام والبنية والثقافة وما إلى ذلك”[13].

   تلك هي أهمّ المشكلات التي تواجه أنصار السوسيولوجيا النقدية، فهم لا يعترفون بالفاعل الاجتماعي بقدر ما يرونه مجرد وكيل أو تابع للبنية الاجتماعية التي تفرض عليه ممارسة فعل ما، أو أنه ضحية لسيطرة النخب المتحكمة في المجتمع، منطلقين من رؤية بورديو التي تقول بأن حرب الأغنياء على الفقراء تبدأ من المدرسة. علاوة على ذلك، إنّ هذه الرؤية، تستهدف في الأساس أن تنتزع من الفرد عقلانيته واستقلاليته وقدرته على أن يحدث تغييرا في محيطه الاجتماعي. ومع ذلك، حتى لو افترضنا أنه ليس فاعلا، فهو يمتلك هامشا كبيرا من الحرية التي تجعله قادرا على الفعل والحركة باستمرار. وهو ما يعني أنه ليس دمية تحركه الحتمية الاجتماعية[14].

   يمكن النظر عموما بأن السوسيولوجيا النقدية هي سوسيولوجية سياسية، أو بعبارة أخرى هي سلاح سياسي للطبقات المهيمن عليها، إنها أداة من أجل حماية الطبقة البروليتارية من الهيمنة الرمزية التي تحدثها أو تمارسها المؤسسات والتنظيمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على الفئات الاجتماعية المهيمنة عليها.

5- التناغم الإيديولوجي عند جماعة بورديفان:

   تقول نتالي إينيك (Nathalie Heinich): “الويل للباحثين الشباب الذين يرغبون اليوم في ممارسة نمط آخر من السوسيولوجيا، أكثر انفتاحا وشمولا، أو ببساطة، منتبها لتعددية التجربة”[15]. تلك هي أكبر مشكلة تواجه الباحثين الشباب اليوم. لأنّ بعض الباحثين يميل إلى محاباة من هم معهم في آرائهم ويتجاهلون كل من يخالفهم في الرأي أو في موقف معين، ودائما ما يعملون على تقييم من لا يتفقون معهم، خصوصا من يحاولون التجديد في المعرفة العلمية. وغالبا ما يخدعون أنفسهم بأنّ ما يقدّمونه من بحوث هي جيدة وأفضل لأنها تدخل في إطار العلم والصرامة العلمية.

   من المفيد أن نستحضر سوسيولوجيا الجماعة العلمية في مقالتنا. فلكي نفهم ما يجري مع أنصار السوسيولوجيا النقدية لابدّ من الاهتمام بالقواعد الاجتماعية والأخلاقية، أي تأثير علماء الاجتماع الكبار على زملائهم أو على الباحثين الصغار، لأن ذلك له تأثير كبير على المعرفة السوسيولوجية، إذ تكتسب القواعد الاجتماعية والأخلاقية مثل العادات والأعراف عن طريق التعامل مع علماء آخرين. و”تنتقل هذه القواعد من خلال التعامل الاجتماعي والذي من خلاله يتماثل ويتأقلم العالم الشاب مع مجموعة من العلماء الذين ينوي الانتماء لهم”[16]. وهذه القواعد تصبح لها جوانب منحرفة في الحقل العلمي حينما تصبح العلاقة بينهم قائمة على التحيز الفكري أو على المحاباة، أو مرتبطة بالانتماء الحزبي. وهي جوانب تؤثر بشكل سلبي على طبيعة المعرفة العلمية.

   تبيّن عالمة الاجتماع الفرنسية نتالي إينيك في حوارها مع FIGAROVOX: “أنه منذ شهر ماي 1968، شهدنا صعودا لعلم اجتماع بورديوسي الذي أصبح بمثابة عقيدة لليسار الراديكالي، إذ أصبح بورديو- الذي عاش حياته هامشيا- أكثر من مجرد مرجعية: نوع من الطوطم الذي يميل عند البعض إلى أن يكون المرجعية الوحيدة لعلم الاجتماع بكامله”[17]. هذه العقيدة هي ما يجتمع عليها أنصار بورديو الآن، ويحاولون الدفاع عنها بكلّ الطرق المشروعة وغير المشروعة، وباستماتة كبيرة تظهر أثناء حواراتهم مع الخصوم، والتي تبدو من وجهة نظرهم علمية وموضوعية. إذ يبدو لنا بأن بورديو قد سلك مسلك أوكست كونت (Auguste Comte) بتأسيسه لدين جديد. وهذا ما يتأكد لنا بالملموس عندما نجد في فرنسا أن بعض زملائه وتلاميذه وأتباعه يتعاملون مع هذا التقليد السوسيولوجي على أنّه مرجعية دينية قائمة على تقديس سلطة النبي. وكما تقول نتالي إينيك “إنّ المتعصبين لعلم الاجتماع النقدي يصرخون بشكل منهجي فقط على الغصن الذي يجلسون عليه”[18]، مثل   لويس بنتو (Louis Pinto) الذي يعد واحدا من المنتصرين لسوسيولوجيا بورديو، فهو يضع بورديو في مقام الأنبياء، نظرا للرؤية النظرية والسياسية التي اقترحها بورديو حول العالم الاجتماعي، والتي ترتبط بالخلاص الاجتماعي من الهيمنة، من خلال تقديم آليات للفهم تساعد الفاعلين الاجتماعيين في المقاومة. وكما يقول بورديو: “إذا كان لعالم الاجتماع دور، فسيكون إعطاء الأسلحة بدلاً من تدريس الدروس”[19]. مع العلم أن عالم الاجتماع والنبي لا يملكان معا رسالة كاملة لتفسير معنى الوجود والعالم.

   يمكن ملاحظة التحيز الفكري بين أنصار بورديو، حينما يقومون بالاعتراض على الليبراليين في العديد من القضايا الاجتماعية لأنّ هؤلاء (الليبراليين) ينتصرون للحرية وللمسؤولية الفردية، ولكونهم يرفضون إرجاع الأسباب إلى قوى غير اجتماعية أو ظروف اجتماعية معينة. ويتجلى التحيز الفكري عند أنصار بورديو عندما يستخدمون في حواراتهم الصحفية مفردات أو كلمات تدل على أنهم يعيشون في حرب أو معركة، مثل “الخصوم” و”الرجعيين” أو عندما يعملون على توجيه أصابع الاتهام إلى الباحثين الليبراليين على أنهم ينتمون إلى السوسيولوجيا البرجوازية أو الميتافيزيقية. وهذا الاتهام الذي يصدر من دعاة الحتمية راجع أساسا إلى كونهم متأثرين بسلطة الأب أو الزعيم، أي الخطاب البورديوسي. وهو ما يحجب عن أنصار السوسيولوجيا الهيمنة رؤية الأشياء والظواهر بمنظور مختلف، ويجعلهم “ضحايا التحيزات الفكرية التي كلما زادت سهولة تبنيها تحولت إلى اختيارات إيديولوجية، وأمكن للغة الباطنية وذات مظهر علمي أن تخفيها عن ذهن القارئ”[20].

   تظهر علامات التحيز عند أنصار السوسيولوجيا النقدية، عندما يعلن بعضهم الانتماء إلى اليسار من باب أن نظرية بورديو حول التمايز الاجتماعي تعد مكملة للفلسفة الماركسية التي ترى بأن تاريخ المجتمعات هو تاريخ صراع بين الطبقات الاجتماعية، أي الصراع بين من يمتلكون وسائل الإنتاج ومن لا يمتلكونها، أو بين «المهيمنون» و«المهيمن عليهم». وربما هذا ما جعل من نظرية بورديو جذابة ومثيرة بالنسبة إليهم ومتوافقين معها، فهم ينظرون إلى أنفسهم بأنهم يجسدون المثقف الملتزم الذي يهدف إلى الجمع بين أدوار الباحث والمواطن المناضل[21]. ولهذا، كثيرا ما يؤدي بهم في غالب الأحيان إلى السقوط في الانحرافات الإيديولوجية، فالسمة الخاصة بهؤلاء أنهم عازمون على معارضة الليبيرالية الجديدة. بحيث يجادلون فكرة أنّ العلوم الاجتماعية لديها “القدرة على أن تكون مذيبة لأي حسّ ليبيرالي من خلال النقد المنهجي للفئات والمواضيع التي تنسج الخطاب المهيمن”[22].

   وتتجلى العصبية لدى علماء الاجتماع في أنهم يرون بضرورة قبول الأحكام الواقعية باعتبار أن الطريقة التي يمارسون بها السوسيولوجيا هي مجال للاستدلال الدقيق. إذ يصرّون على أنها وسيلة ممتازة لفهم ما يجري من الصراعات والنزاعات في إطار الحقول الاجتماعية. كما يرى بعضهم بأنه ينبغي “استرداد كلمة تبرير؛ نظرا لأن التبرير برنامج يساري جميل يسمح بمقاومة هجومات الفكر الرجعي”[23]. وقد يعتمد بعضهم على “البيانات عندما يصفون أشياء مثل مستوى عدم المساواة في الدخل أو تاريخ العبودية. قد يقومون حتى بتأكيدات حول كيفية اشتغال العالم، لكنهم يفعلون ذلك بهدف تشجيع أو منع التغيير الاجتماعي، وليس لتحديد أوالتحقّق من الآثار التنبؤية لتأكيداتهم. إنهم “أيديولوجيين متحجرين”، يشاركون في مجهودات يمكن أن تكون جديرة بالاهتمام ولكن الأمر يبقى غير علميًا”[24].

   ومن جانب آخر، نجد أن الحقل الأكاديمي في فرنسا والعديد من البلدان الأوروبية مليء بالباحثين المؤدلجين (اليسار)، فهناك من يتخذ من أعمال بورديو ورمزيته وسيلة ممتازة لترويج الإيديولوجيا اليسارية حتى لا تنقرض أمام المد النيوليبيرالي. ومن الأمثلة مجلة “اليسار الجديد” (New left Review) التي قالت: “بموت بيير بورديو فإن العالم فقد أكثر السوسيولوجيين شهرة، كما فقد اليسار الأوروبي أكثر الأصوات المؤثرة على حركته والمعبرة عنه خلال العقود الأخيرة”[25]. ولهذا، يجب أن نميز بين الأعمال الرصينة والأعمال الإيديولوجية. فالأعمال الرصينة والمتميزة هي التي تقوم على الإبداع النظري والمنهجي والحياد، وتمتاز عن غيرها بأنها بعيدة عن التقليد وإعادة إنتاج نفس الخطاب. وكما نستنتج من بعض مواقف الباحثة ناتالي اينيك، أنّه كانت تظهر حول بورديو مجموعة صغيرة من الأتباع المزعومين الذين يعملون كطائفة سياسية ويستخدمون بورديو كدعم لهم.

   إنّ المشاكل التي نجدها عند أنصار السوسيولوجيا النقدية كثيرة جدا. على سبيل المثال، يخشى بعضهم من التطورات التي تحدث في الحقل السوسيولوجي، خصوصا تلك التي يتزعمها ميشيل مافيزولي وإدغار موران في فرنسا وفرانكو فيراروتي (Franco Ferrarotti) في إيطاليا وهوارد بيكر (Howard Becker) في أميركا، لأنّ المدّ الفكري القائم على التجديد والتطوير والنسبية الذي يميز هؤلاء العلماء يحضر بشكل كبير ولافت من خلال وسائل الإعلام. ويتمثل هذا الخوف في المبالغة من خلال الدفاع عن المنهج الوضعي بشكل مفرط. وعلى سبيل المثال، نجد برنار لايير وهو أشدّ الوضعيين شراسة، يكتب حول أطروحة إليزابيت تيسييه[26] (Elizabeth Teissier) بقوله: “لا يتوجب على علم الاجتماع بأي حال من الأحوال أن يدلي بموقفه مساندا أو معارضا له، ولا يقول إن ذلك من الأمور الحسنة أو السيئة… إن إليزابيت تيسييه تظل على الدوام في خضم التقويم المعياري للوضعيات وللأشخاص ولوجهات النظر، مبينة بذلك أنها تكتب بوصفها عالمة تنجيم لا بوصفها عالمة اجتماع تدرس الممارسات التنجيمية… ليس في نص إليزابيت تيسييه أي أثر لإشكالية علمية اجتماعية مبنية، ولا لمعطيات خبرية ولا لطرائق في البحث جديرة بهذه التسمية”[27]. وهو نقد وجّهه لايير إلى السوسيولوجيين الذين يرفضون دراسة الوقائع الاجتماعية على أنها أشياء، خصوصا إلى ميشيل مافيزولي الذي يسمح بإمكانية إقحام الذاتية في البحوث السوسيولوجية، علما أن هذا الأخير يؤكد أن أطروحة إليزابيت كانت بحثا في كيفية تناول الإعلام لمسألة التنجيم، ولم يكن دفاعا عن التنجيم[28].

   ويشير مافيزولي في مجموعة من أعماله (دفاعا عن العقل الحساس/نظام الأشياء) إلى أنّ جماعة هذا التقليد السوسيولوجي (أنصار بورديو) تتّسم بنوع من الدوغمائية، نظرا لأن المقاربة التأويلية التي تعتمد عليها، تهدف إلى اعتبار أن لكل شيء حلاّ، ولكل مشكلة بتا، وأن العالم الاجتماعي قائم على الهيمنة من خلال تصوير العلاقات والممارسات الاجتماعية في أبعادها العمودية. وبمعنى آخر، لا يمكن للسوسيولوجيا النقدية دائما أن تكرر لنا مقولة الصراع الطبقي والتمايز الاجتماعي في جميع المجتمعات، لأن التأويل القائم على الفهم حسب مافيزولي، يتميز بانعتاقه من جميع الادعاءات الدوغمائية، ويقول: “يعد الفهم متسامحا بنيويا، ولا دوغمائي أساسا، ونسبيا في الجوهر، لا يمكن إدراجه ضمن أي حرب مجتمعية (sociomachie) تعتبر أن السوسيولوجيا هي رياضة قتال، وإنها لخاصية الأذهان التي غالبا ما تبقى على حالها مدعية وضعيفة”[29].

   تظهر هذه الدوغمائية التأويلية عند أنصار بورديو من خلال بورديو نفسه باعتباره المؤسس الفعلي لتيار السوسيولوجيا النقدية، وتتمثل هذه الدوغمائية من خلال تكرار مقولاته في كتبه بغرض تأكيدها على أنها حقائق علمية، وهذا ما تؤكده عالمة الاجتماع جانين فيردس ليروس بقولها: “التكرار في كتب بورديو (التكرار الذي يرهب بالذهول، أو الذي يدقّ ناقوس الخطر) يعبر عمّا يريده. “المهيمن هو الذي يمتلك الوسيلة لكي يفرض على المسيطر عليه إنه ينظر إليه بالطريقة التي يطلبها”. من خلال تكراره، بلهجته المؤكدة، بلغته اللغوية، يسعى بورديو إلى فرض حقيقته علينا. “بمجرد وجود مساحة اجتماعية، هناك صراع، هناك صراع على الهيمنة، هناك قطب مهيمِن، هناك قطب مهيمَن، ومنذ تلك اللحظة فصاعدًا، هناك حقائق معادية. بغض النّظر عن ما نفعله، فإن الحقيقة معادية. إذا كانت هناك حقيقة واحدة، فهي أن الحقيقة هي نتيجة معركة”[30].

6- استنتاجات:

   يتميز دعاة الحتميّة (النقديين) عن باقي الاتجاهات السوسيولوجية أنهم يمثلون كتلة متجانسة، إذ يسود بينهم ما نسمّيه بالتناغم الإيديولوجي، وهو أسلوب في التفكير يميز مجموعة من الأفراد عندما يشتركون في جماعة معينة لها نفس الأهداف والمعايير والاتجاهات، وتحاول بدورها أن تسيطر على الحقل الذي يحفز نشاطهم وممارستهم. وهذا التناغم الإيديولوجي كثيرا ما يمس الجماعة العلمية، لأنه يقوم أساسا على إقصاء أي تجديد في القواعد النظرية والمنهجية في العلم. إذ يعتمد العلم بالنسبة إليهم على إجماع الجماعة العلمية، وبالتالي يعملون على تجاهل وجهات النظر الخارجة عنهم وقمعها باعتبارها غير علميّة. أما المخالفون، فمنهم من يتمّ العمل على تهميشه، وعزله، وتوجيه الاتهام له بعدم العلمية، أو “يظلون صامتين للحفاظ على سمعة العلم كمصدر للثقة، وفي الغالب الأغلب كمعرفة منزهة عن الخطأ”[31].

   إنّ ما يميز الجماعة العلمية الموسومة بالتناغم الإيديولوجي أنها تعمل ضدّ كل جماعة تناقض أهدافها ومصالحها. ويمكن التعرف على الجماعة العلمية التي تعاني من التناغم الإيديولوجي كالتالي:

  • تعطي التبريرات التي تتخذها الجماعة العلمية بكيفية مغالية.
  • تعتبر دائما أنّ موقفها يقوم على الصرامة العلمية.
  • تقلل من قيمة الجماعات العلمية الأخرى.
  • تسعى إلى حماية مشروعها من وراء أفكار قائدها.
  • تسخر إجماعها العلمي ضد أي تفكير نقدي لها.

   إنّ التناغم الإيديولوجي الذي يميز الجماعة العلمية يجعل من ممارسة النقد عبارة عن تطرف، لأن المعرفة السوسيولوجية، هي معرفة إنسانية، وليس بالضرورة أن تمرّ النتائج العلمية من نفس المعايير التي وضعتها الجماعة العلمية. فالعديد من النتائج العلمية التي أبهرت العالم قد تمّ اكتشافها من أناس عاديين وبأدوات بسيطة، ولم تكن حينها تدخل في إطار المعايير العلمية. ومع ذلك، فإن الكثير من هذه الجماعات تتميز بالتجذر في مواقفها ولرؤيتها للعالم، لأن التناغم الإيديولوجي له أثر كبير على الفرد مهما كانت درجة عقلانيته، فهو الذي يحمي النسق الذي يرتبط بالجماعة العلمية حتى تثبت صواب أحكامها ومواقفها المتبناة ضد أي مواقف خارجية.

   وبالتالي، فإن تفكيك التناغم الإيديولوجي يبقى هو السبيل الوحيد في تحرير الباحث من تطرف الجماعة العلمية، والعودة إلى الاستقلال الذاتي الذي يميز العقل الحر، والذي يمكنه من الإبداع والتفكير في العلم بشكل يساهم في تقدمه وتطوره. وذلك بعيدا عن القيم المضللة والمزيفة التي تحيط بالعلم شريطة الإيمان بأن الزمن هو الشرط المساعد في إظهار الحقيقة للناس مهما حاولت الجماعة العلمية أن تخفيها في مرحلة تاريخية معينة.

7- خاتمة:

   إنّ الكثير من الباحثين داخل الوطن العربي وخارجه، لا يستحضرون في ممارستهم العلمية تلك الخصومات الخفية والمعلنة التي تنشب بين العلماء في الضفة الأخرى من العالم (المتروبول الفرنسي)، لأنّ هذه الخصومات مهما كانت طبيعتها، فإنّها تؤثر في المعرفة العلمية التي يتمّ تداولها بين الباحثين والممارسين في الحقول المعرفية مثل السوسيولوجيا، الأمر الذي قد يؤدي بشكل أو بآخر إلى تزييف الواقع الاجتماعي دون الاعتراف من طرف الباحثين. لهذا، لا يفترض في الباحث الاصطفاف مع أي تقليد أو تيار سوسيولوجي يدعي الموضوعية في ممارسته المنهجية وبنائه النظري. ومع ذلك، فإننا نلاحظ أنّ السوسيولوجيا المعاصرة ومع العديد من العلماء تعيد النظر في ذاتها. فهناك موجة عالمية في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا تعتبر أن المعرفة السوسيولوجية تتميز باللايقين، وتتطلع من ورائها إلى التخلي عن النظريات باعتبارها إيديولوجيا.


[1]– Jeannine Verdes-Leroux (2001) ; Deconstructing Pierre Bourdieu_ Against Sociological Terrorism from the Left. Algora Publishing- New York.

[2]– Le Débat: histoire politique société, Novembre-décembre 2017/5 (n° 197), Gallimard.

[3]– هي أِشبه بالعبارة التي استخدمها الكاتب جوليان غراك (Julien Gracq) في كتابه “أدب المعدة” من أجل السخرية من “الأدب الملتزم” في فترة الخمسينات من القرن العشرين.

[4]– ألان تورين، التفكير على نحو مغاير: علم الاجتماع ونهاية الاجتماعي، ترجمة عبد المالك ورد، شمس برينت ـ الرباط، 2019، ص 47.

[5]– جيرالد برونير وإيتيين جيان، الخطر السوسيولوجي: في نقد خطاب الحتمية الاجتماعية، ترجمة حسن احجيج، مؤسسة عبد العزيز آل سعود ـ الدار البيضاء، ط 1، 2019، ص 25.

[6]. المرجع نفسه، ص 26.

[7]– ألان تورين، التفكير على نحو مغاير، مرجع سابق، ص 48.

[8]– Loïc Wacquant (2009) : The body, the ghetto and the penal state, Qualitative Sociology, 32, P.124.

[9]– جين نيكولاس: مستقبل النظرية الاجتماعية، ترجمة يسرى عبد الحميد رسلان، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة 1، 2014، ص 86.

[10]– Nathalie Heinich: «La sociologie bourdieusienne est devenue un dogme de la gauche radicale». FIGAROVOX: Par Eugénie Bastié, Publié le 4 août 2017.

[11]– Sheldon Ekland-Olson & Jack P. Gibbs (2018) : Science and Sociology ; Predictive Power is the Name of the Game. Routledge: London and NewYork, P. 20.

[12]– جيرالد برونير وإيتيين جيان، الخطر السوسيولوجي، مرجع سابق، ص 39.

[13]– Gérald Bronner, Étienne Géhin «Les prophéties autoréalisatrices de la sociologie déterministe», Le Débat 2017/5 (n° 197), p. 135.

[14]– جيرالد برونير وإيتيين جيان، الخطر السوسيولوجي، مرجع سابق، ص 137.

[15]– Nathalie Heinich, «Misères de la sociologie critique», Le Débat 2017/5 (n° 197). P.121.

[16]– دومنيك فينك، علم اجتماع العلوم، ترجمة ماجدة أباضة، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000، ص 32.

[17]– Nathalie Heinich: «La sociologie bourdieusienne est devenue un dogme de la gauche radicale». FIGAROVOX: Par Eugénie Bastié, Publié le 4 août 2017.

[18]– Nathalie Heinich, «Misères de la sociologie critique», Op. CIt, P.126.

[19]– Jeannine Verdes-Leroux (2001), Op. Cit, P.85.

[20]– جيرالد برونير وإيتيين جيان، الخطر السوسيولوجي، مرجع سابق، ص 29.

[21]– Loïc Wacquant (2009), Op. Cit, P.124.

[22]– Ibid., P.129.

[23]– جيرالد برونير وإيتيين جيان، الخطر السوسيولوجي، مرجع سابق، ص 38.

[24]– Sheldon Ekland-Olson & Jack P. Gibbs (2018): Op. Cit, P. 21.

[25]– Pierre Bourdieu (1990-2002): Pierre Bourdieu & Gunter Grass The ‘Progressive’ Restoration. Nlr 14, Mar Apr 2002.

[26]– في يوم السبت 7 أبريل 2001، دافعت السيدة G. Elizabeth Hanselmann-Teissier (المعروفة باسم Elizabeth Teissier) عن أطروحة في علم الاجتماع حوالي 900 صفحة (بعنوان الوضعية الابستمولوجية لعلم التنجيم من خلال موقفي الإعجاب والرفض في المجتمع ما بعد الحديث) باريس الخامس، تحت إشراف ميشيل مافيسولي. كان أعضاء لجنة التحكيم حاضرين – بالإضافة إلى مدير أطروحتهم، سيرج موسكوفيتشي وفرانسواز بونارديل وباتريك تاكوسيل، حيث منحت الأطروحة درجة مشرف للغاية، وهي أعلى درجة يتم تقديمها للباحثين بفرنسا.

[27]– Bernard Lahire, Comment devenir docteur en sociologie sans posséder le métier de sociologue? Revue européenne des sciences sociales, Tome XL, 2002, N° 122, pp. 41-65.

[28]– رودي روكس، حوار مع ميشال مافيزولي: لا فكر حقيقي إلا عند حصول الخطر، ترجمة محمد عبد النور، منشورات موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود، بتاريخ 26 يونيو 2014.

[29]– ميشيل مافيزولي، نظام الأشياء: التفكير في ما بعد الحداثة، ترجمة سعود المولى ورنا دياب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، ط 1، 2020، ص 36.

[30]– Jeannine Verdes-Leroux (2001), Op. Cit, P.P.86-87.

[31]– باول فرايبند، العلم في مجتمع حر، ترجمة السيد نفادى، المركز القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000، ص 102.


المراجع:

  • برونير، جيرالد وجيان إيتيين. الخطر السوسيولوجي: في نقد خطاب الحتمية الاجتماعية، ترجمة حسن احجيج، مؤسسة عبد العزيز آل سعود ـ الدار البيضاء، ط 1، 2019.
  • تورين، ألان. التفكير على نحو مغاير: علم الاجتماع ونهاية الاجتماعي، ترجمة عبد المالك ورد، شمس برينت ـ الرباط، 2019.
  • روكس، رودي. حوار مع ميشال مافيزولي: لا فكر حقيقي إلا عند حصول الخطر، ترجمة محمد عبد النور، منشورات موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود، بتاريخ 26 يونيو 2014.
  • فرايبند، باول. العلم في مجتمع حر، ترجمة السيد نفادى، المركز القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000.
  • فينك، دومنيك. علم اجتماع العلوم، ترجمة ماجدة أباضة، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000.
  • مافيزولي، ميشيل. نظام الأشياء: التفكير في ما بعد الحداثة، ترجمة سعود المولى ورنا دياب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، ط 1، 2020.
  • نيكولاس، جين. مستقبل النظرية الاجتماعية، ترجمة يسرى عبد الحميد رسلان، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة 1، 2014.
  • Bourdieu, Pierre & Grass, Gunter. Pierre Bourdieu (1990-2002) : The ‘Progressive’ Restoration. Nlr 14, Mar Apr 2002. https://newleftreview.org/issues/II14/articles/pierre-bourdieu-gunter-grass-the-progressive-restoration
  • Ekland-Olson, Sheldon & P. Gibbs, Jack. (2018) : Science and Sociology ; Predictive Power is the Name of the Game. Routledge: London and NewYork .
  • Heinich, Nathalie : «La sociologie bourdieusienne est devenue un dogme de la gauche radicale». FIGAROVOX : Par Eugénie Bastié, Publié le 4 août 2017.
  • Lahire, Bernard. Comment devenir docteur en sociologie sans posséder le métier de sociologue ? Revue européenne des sciences sociales, Tome XL, 2002, N° 122, pp. 41-65.
  • Le Débat : histoire politique société, Novembre-décembre 2017/5 (n° 197), Gallimard.
  • Verdes-Leroux, Jeannine. (2001) : Deconstructing Pierre Bourdieu_ Against Sociological Terrorism from the Left. Algora Publishing- New York.
  • Wacquant, Loïc. (2009) : The body, the ghetto and the penal state, Qualitative Sociology, 32.

مقالات أخرى

الحرّيّة في الحقليْن الثّقافيّيْن العربي والغربي عند عبد الله العروي

في لاهوت الأخلاق

دوائرُ اللّامعقول

1 تعليق

دلال الحشه 16 مايو، 2021 - 7:06 م
يعطيك العافيه دكتور حقًا لقد اعجبت بأعمال بورديو حيث كان ذا طابع تأثيري فقد كان يأثر على زملائه ومما لا شك فقد تميزت أعمال بورديو بأنها كانت ذات طابع نقدي بدرجة أولى بما يسمى السوسيولوجيا النقديه او سوسيولوجيا الهيمنه او دعاء الحتميه فقد قام باستكشاف ظواهر اجتماعية مختلفة بعده طرق ،ومن اهم الاشياء التي استفدت منها في المقاله الا وهي إبراز التناغم الإيديولوجي الذي يميز الجماعه العلميه وفعلًا اعجبتني هذه المقوله الا وهي يجب على عالم الاجتماع أن يكون بعيدا عن أي انتماء حتى يحافظ على مصداقيته في واقع يحمل الكثير من التناقضات 👌🏻
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد