في حياة الشعوب كلها ما يشبه الشموع، وفي حياتها أيضا ما يشبه الكواكب، وجيل الكبار الذي تحدثت عنه من قبل على صفحات منبر مركز نقد وتنوير، هم هؤلاء الذين دائما ما أصفهم بأن كلمتهم التبر، وبيانهم السحر، ونطقهم الإلهام، وحديثهم الحكمة، وخيالهم السمو.
جيل الكبار في نظري سعادة الدكتور علي أسعد وطفه: يجودون بالأدب نظماً ونثراً عن طبع طيع، وسجية سهلة، ورأي سديد، وعقل راجح، ولسان صادق لا يكذب ولا يداهن، وقلب نقي موصول بالله رب العالمين “ولا نزكي على الله أحدا” ؛ كما أن جيل الكبار قد وهبه الله نور البصيرة، ورقة إحساس، وسرعة خاطر، وألمعية ذهن، وسعة علم، وقوة إدراك، وشدة تمييز، وهي أمور توافرت لجيل الكبار فكانوا عباقرة خلاقين، يبدعون القول، ويأسرون اللب، ويجودون بجميل القول، والرائع من الحديث.
جيل الكبار – أستاذي المفدى هو جيل عبقري، يأسر اللب والقلب، ويحظى بالإعجاب والحب معاً.. جيل جاء أدبه كالظل الوارف، يستظل به المنكود، ويستريح إليه العاني، والنغم الحبيب الذي يصغي إليه الشارد، واللغة المشتركة التي يتنازعها ويفخر بها القريب والبعيد.
ولن أنسى مثلي وقدوتي من جيل الكبار أستاذي الأديب العبقري “عباس محمود العقاد”، ذلك الرجل الذي لم يتخرج في العلوم والآداب من مدرسة ثانوية، ولا من مدرسة عالية، ولكنه وطد نفسه في جلد عجيب على لغة مدارس الإنجليز وقواعد العربية وآدابها، وعلي جمع الكتب باللغتين ومطالعتها، وعلى الكتابة في الجرائد المصرية، حتي ظهر في آواخر الحرب العالمية الأولي في مظهر كاتب عربي شاب من أنداد طه حسين، وعبد القادر المازني، وأحمد أمين، ومحمد حسين هيكل، ومن في منزلتهم.
كان في “العقاد” مزايا قلما تجتمع في شخص واحد: منها اطلاعه الواسع على أمهات تراثنا الأدبي القديم، ومعرفته الحسنة باللغة الإنجليزية، مما يسر له قراءة مؤلفات الكبار من أدبائها، وحرصه على التوفيق بين الثقافة العربية والثقافة الغربية الحديثة دون طغيان الثاني على الأول، وإتقانه لآلات لغتنا الضادية وفقهها، وحرصه الشديد على متابعة الحركة الأدبية في البلاد العربية وفي ديار الغرب، وجلده العجيب على شراء الكتب العربية، والإنجليزية، ومطالعتها في موضوعات شتى لغوية، وأدبية، واجتماعية، وفلسفية، وتاريخية، وفلسفية، وتاريخية، وجغرافية، وغيرها (1).
فلا غرابة بعد هذا أن يعدّ من أوسع أدباء العرب ثقافة، وأن يصدر بضعة دواوين من الشعر الجيد، وأن تزيد مؤلفاته على ثمانين كتاباً، وأن يظل مدة نصف قرن أو أكثر يملأ الصحف ومحطات الإذاعة بمقالاته الماتعة، وأفكاره النيرة، ومعلوماته الواسعة في فنون الأدب وتجارب الحياة، حتى تخرج عليه فيها عدد كبير من الشبان منبثين في جميع الأقطار العربية (2).
ولما كان من سمات كل مجتمع ناضج، أن تكون لديه القدرة على وضع أفراده؛ حيث ينبغي لهم أن يكونوا، فيستطيع المجتمع الناضج أن يجني ثمار جهودهم فكراً، وعلماً، وفناً، فإن الجيل اللاحق والذي وصفته من قبل بجيل الصغار، فأنا لا أقصد أن أسيء إليه، حيث يحفل تاريخنا المعاصر بأفراد من علماءنا الأفذاذ الذين يتميزون عن سواهم من ذوي العلم والمعارف بالمهارة العجيبة، والعبقرية الخارقة، وهؤلاء نظروا في تطور العلم، على أنه ليس دائما متدرجاً، أو تراكمياً نحو الحقيقة، بل قد يمر بثورات بنيوية دورية؛ يسميها “كون” تحول الباراديم، والبراديم هو تحول النموذج الفكري، هو الثورة العلمية حسب توماس كون، إنه ثورة في النمط العلمي بشكل أدق، حيث أن مفردة البارادايم تعنى “النمط الفكري”. تحدث الثورة العلمية، حسب كون، عندما يواجه العلماء مشاكل لا يمكن حلها حسب النمط السائد عالمياً، ولهذا يجب، لحل هذه المشاكل، تجاوز هذا النمط، بالإضافة إلى تكوين نظرية جديدة. البارادايم، بهذا المعنى، هو ليس النظرية السائدة الحالية، بل هو الرؤية للعالم، والتي تحتوى على هذه النظرية، وكل المعاني المتضمنة داخل هذه الرؤية (3).
ونموذج “كون” في البارادايم يركز على جهود العلماء الأفراد على عكس أصحاب رؤية المنطق الوضعي، الذين يلخصون العلم بشكل مطلق داخل إطار فلسفى نظري، وهناك أمثلة صارت تعد كلاسيكية للتدليل على “تحول النموذج الفكري”، والثورة العلمية بالمعنى الذى أراده كون، مثل: “التحول من الرؤية البطلمية “نسبة إلى بطليموس” للكون، إلى رؤية كوبرنيكوس، الانتقال من الرؤية الكهرطيسية لماكسويل إلى نسبية آينشتين، التحول من فيزياء نيوتن إلى نسبية آينشتين” وغيرها (5).
ومعني هذا أنه عندما تحدث ثورة علمية يتم الانتقال من براديم إلي براديم آخر، ويستلزم هذا الانتقال تغيرات أساسية في المعايير الحاكمة للمشاكل، والتصورات، والتفسيرات، وعندما تحدث التحولات في النماذج، فإن العلماء المعاصرين يرون العالم الخاص بموضوع بحثهم في صورة مغايرة عن الصورة التي رآها جيلهم السابق.
وطالما أن تعاملهم مع هذا العالم لا يكون إلا من خلال ما يرونه ويفعلونه، فإنه عقب حدوث ثورة علمية يجد العلماء المعاصرين أنفسهم، يستجيبون لعالم مغاير للعالم الذي تربي في ظله الجيل السابق ؛ ففي أوقات الثورات وعندما تتغير تقاليد البراديم السابق، لا بد أن يتدرب الباحث العلمي في الجيل اللاحق من جديد على رؤية العالم من حوله، وبرغم أن العالم من حوله لا يتغير بتغير البراديم، إلا أن الباحث العلمي المعاصر يصر إصرار من لا يخشي اليأس على العمل بعد ذلك في عالم مغاير، وهنا يدخل في ثورة علمية من حيث لا يدري (6).
وبعد حدوث ثورة علمية سرعان ما يكتشف العلماء المعاصرين أنفسهم، أنهم إزاء قياسات معالجات قديمة غير ملائمة، ولا بد من أن تستبدل بغيرها فوراً، فالباحث العلمي المعاصر أضحي لا يطبق على الأوكسجين جميع الاختبارات نفسها التي سبق تطبيقها على الهواء الخالي من الفلوجستون (7).
إن التحول إلي البراديم الجديد هو انتقال مفاجئ لطريقة جديدة لرؤية العالم، وهو ما يطلق عليه توماس كون التحول الجشطالتي؛ ويستخدم التحول الجشطالتي باعتباره أمثلة نموذجية، يمكن إدراكها بطرق مختلفة تماما بدون أن تتغير، وبدون أن يكون هناك تغير في العلاقة الفيزيائية للمدرك لهم (8).
وبذلك فإنه لا يمكن مقارنة البراديم القديم بالبراديم الجديد، فكلاهما يواجه مشاكل مختلفة، ولا يكافئ الآخر، كما أن الانتقال إلي براديم جديد يتضمن تغييرات أساسية في معاني كل من الحدود العملية، سواء كانت واقعية أو نظرية؛ ومن ثم تصبح معاني الحدود المستخدمة في تقاليد براديم مختلفة غير متكافئة فعليا.
وإذا كانت المتناقضات هي النقطة الحاسمة بين نظريتين لأن براديم يحلها وآخر لا يمكنه حلها، ومن ثم فمن الطبيعي أن لا يحل براديم ( سابق ولاحق) نفس المشاكل لكونهما يتناولان معطيات تجريبية مختلفة، فينشأ عدم التكافؤ من اختلاف البراديم السابق عن البراديم اللاحق بشأن معايير التقييم لنوع المشاكل الجديرة بالحل، وذلك لأن هناك معايير مختلفة لتقييم ما يمكن اعتباره مشاكل عامة هامة يراد حلها، ولما يُعد كحل مقبول.
إذن يمكن القول بأن البراديم المختلفة تكون غير متكافئة، وذلك لكونها تتضمن البراديم المختلفة ( وإن كانت بنفس الصوت)، ولا تدرك البراديم نفس الملاحظة، ولا تحل نفس المشاكل، ولا تتفق على ما يمكن أن يعد باعتباره تفسيراً ملائماً، وبناءً على ذلك فإن استبدال براديم بآخر لا يعد تراكما، بل مجرد تغيير، وهو تغيير غير متكافئ، فلا يمكن الحكم على البراديم القديم بالبراديم الجديد، وذلك لقدرتهما على حل نفس المشاكل، أو تناول نفس الوقائع، أو مجابهة نفس المعايير، حيث يؤدي القول بعدم التكافؤ إلي القوم بنسبية المعرفة العملية، لأن التغير في البراديم هو تغير في وجهة النظر.
ما أريد أن أتوصل إليه أستاذي الدكتور وطفه من كل ما سبق، أنني عندما قدحت في جيل الصغار من العلماء والأدباء والباحثين في جامعاتنا العربية، فذلك لكوني رأيت منهم من لا يبحث، ولا يقرأ، وكل معلوماته نقلية من الانترنت ؛ وعندما أحس هذا الجيل بضآلته إزاء جيل الكبار، قرر أن يتفوق عليه بالتمسك بالثورة العلمية، والتي ضربت نموذجا لها من خلال نظرية العلم عند توماس كون.
وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة أستاذ د. وطفه، أود أن أشير إليها ها هنا، ألا وهي طبيعة المجتمع المعاصر، تلك الطبيعة التي أجبرت العلماء والمفكرين الآن أن يلبوا حاجات عصرهم المتلاحقة (رغما عنهم)، وذلك استناداً لظاهرة ما يمكن أن أسميه “النظرة الخارجية للعلم” – أعنى العوامل الاجتماعية، خاصة وأن العلم كما يذكر أستاذنا الدكتور” فؤاد زكريا”: ” ليس ظاهرة منفردة تنمو بقدرتها الذاتية وتسير بقوة دفعها الخاصة، وتخضع لمنطقها الداخلي البحت، بل إن تفاعل العلم مع المجتمع حقيقة لا ينكرها أحد، فحتى أشد مؤرخي العلم ميلاً إلى التفسير الفردي أو الداخلي لتطور لا يستطيعون أن ينكروا وجود تأثير متبادل بين العلم وبين أوضاع المجتمع الذى ظهر فيه، حتى ليكاد يصبح القول بأن كل مجتمع ينال من العلم بقدر ما يريد (9).
وتاريخ العلم يقدم أمثلة كثيرة تثبت أن المجتمع حدد بقدر معقول من الدقة نوع العلم الذى يحتاج إليه، وهذا لا يتنافى على الإطلاق مع تأكيد أهمية العبقرية الفردية للعالم ودوره الأساسي في الكشف العلمي، فلا أحد يزعم أن العالم مجرد أداة يستعين بها المجتمع لتلبية حاجاته، وأن الكشوف العلمية يمكن أن تتم على أيدي أناس ممن تتوافر لديهم عبقرية كبيرة، ما دامت تظهر في المجتمع المناسب، بل إن هذه أحكام باطلة تبخس العالم حقه، وتصوره كما لو كان وسيلة في أيدى قوة غيبية تتحكم فيه تحكما تاما، حتى لو كان المرء يطلق على هذه القوة الغيبية اسما يبدو في ظاهره علميا وهو حاجة المجتمع (10).
وحقيقة الأمر، هي أن الكشف العلمي يحتاج إلى تضافر العاملين معا – حاجة اجتماعية وعبقرية ذهنية، وكل ما في الأمر أنه عندما تتوافر الحاجة الاجتماعية لا يكون من الصعب ظهور العبقرية الذهنية. ذلك لأن أفراد البشرية الذين يعدون بالملايين لا يخلون في كل عصر من عباقرة. ولكن من المهم أن يأتي العبقري في وقته وفى أوانه، وأن يلبى حاجات عصره… وللحديث بقية في موضوعات أخري..
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جماعة أسيوط
3 تعليقات
أكثر ما شدني للمقالة هو العنوان ..
حيث ان سماء في ذاكرتي هو مثقف موسوعي وقبل ذلك إنسان ينبض بالعطاء.
في الانتظار .. شكرا لك
عصمه العقل واوهامه
تكلم الدكتور على وطفه في هذا المقال عن انه توجد احتمالات التوهم في كل معرفه انسانيه وتتغلغل امكانيه الخطا في كل عمل ذهني وتسجل المغالطات والاوهام حضورها في مختلف التكوينات الفكريه الواعيه عند الانسان .،وان تطور المعرفه العلميه من شانه ان يساعد الانسان على تجاوز احتمالات الخطا وعلى إضعاف احتمالات التوهم .وان العقل هو اداه الانسان في محاكمه الوجود وفهمه وتحليله وادراكه انه يمتلك القدره على التميز بين الحلم واليقظه ،بين المتخيل والحقيقي ،بين الذات والموضوع .،وان اغلب الحضارات الانسانيه عرفت العقلانيه في اساليب انتاجها وفي انماط وجودها التي تتعلق باالزراعه وتربيه الحيوان والقنص والصيد .وايضا الاساطير والايديو لوجيات تدمر الحقايق ومع ذلك فان الافكار نفسها هي التي تنتج لنا إدراك الواقع بسلبياته كما تنتج لنا ادراك الافكار بمخاطرها .
1 – عصمة العقل وأوهامه:
تكلم الدكتور علي وطفه في هذا المقال عن انه توجد احتمالات التوهم في كل معرفة إنسانية، وتتغلغل إمكانية الخطأ في كل عمل ذهني، وتسجل المغالطات والأوهام حضورها في مختلف التكوينات الفكرية الواعية عند الإنسان. وإن تطور المعرفة العلمية من شأنه أن يساعد الإنسان على تجاوز احتمالات الخطأ وعلى إضعاف احتمالات التوهم. وإن العقل هو أداة الإنسان في محاكمة الوجود وفهمه وتحليله وإدراكه. أنه يمتلك القدرة على التمييز بين الحلم واليقظة، بين المتخيَّل والحقيقي، بين الذات والموضوع. وإن أغلب الحضارات الإنسانية عرفت العقلانية في أساليب إنتاجها وفي أنماط وجودها التي تتعلق بالزراعة وتربية الحيوان والقنص والصيد. وأيضا الأساطير والأيديولوجيات تدمر الحقائق، ومع ذلك فإن الأفكار نفسها هي التي تتيح لنا إدراك الواقع بسلبياته كما تتيح لنا إدراك الأفكار بمخاطرها.