نساء ألبير كامو

ترجمة: سعيد بوخليط

تقديم:

ألبير كامو، عاشق اختبر تجربة ارتباطات عدة. غير أنه ضمن مختلف تلك اللقاءات، تظل أمه الأكثر إقناعا بالنسبة للطفل كامو. أمه التي تكفلت وحدها بتربيته. زوجات أو عشيقات، صاحبن كامو طيلة حياته، مستجيبا باستمرار لصنيع غراميات رائعة.

 هل كان كامو رجل نساء، دون جوان، صاحب مغامرات نسائية، هاوي مجموعات لا يتعب، أو باختصار مجرد شخص جذاب؟ في كتابه ”الرجل الأول”، المسودة التي عُثِر عليها حين وفاته، نكتشف رحيل ألبير كامو عبر شخصية جاك كورميري للبحث عن أبيه المتوفى سنة 1914. إبانها يصادف نساء.

الجدة:

أولهن جدته ذات الجسم الضخم، بوجه مسترجل، عقصت شعرها بلا زينة، شخصية سلطوية، مختصة في ذبح الدجاج، تضرب بسياط ألبير وأخيه.

الأم:

بعد ذلك، ينتقل كامو إلى رسم صورة أيقونية عن أمه كاترين المنحدرة من بلدة سانتيس. منذ الصفحات الأولى، سلط الضوء على ولادته التافهة. الوضع، في خضم عوز تكابده الأم، التي أحبها كامو حد الجنون قدر إيمان هذه المرأة منذ البداية بأن الرهانات قائمة.

جميلة، ذات أنف صغير مستقيم صادفناه بعد ذلك لدى عشيقات ابنها. غير مكترثة بالعالم، أبانت نظراتها عن طيبوبة وخنوع، تقريبا صماء وأمية إضافة إلى صعوبات على مستوى الكلام. دائما، مرتدية بذلة رمادية أو سوداء، لكنها كشفت عن وجه ظريف.

يصف كامو عاملة التنظيف تلك، المنحنية على دلوها وأراضي الغرف. هل قصمها الفقر؟ الأسوأ، ولدت فقيرة. مكتوب؟ مقدَّر هذا الوضع منذ زمان بعيد. ثم يرصد كامو أجواء كل العائلة: “آه! نعم، هكذا تجلت حياة هذا الطفل في جزيرة الحي الفقير، ارتباطا بالضرورة العارية تماما، وسط أسرة معاقة يتخبط أفرادها في الجهل”.

نعلم بأن كامو قاوم هذا الأفق المسدود وانتشل ذاته من وسط حتمية البؤس بفضل الثقافة. نستحضر، بهذا الخصوص ثلاث لقاءات حاسمة: المعلم لوي جيرمان، ثم جان غرونيي مدرس الفلسفة وأخيرا روني بواريي، أستاذ كامو في جامعة الجزائر. بالتالي، مع انفتاح يتيم الوطن على العالم، سيكتشف المرأة. لقد اجتمعت فوق تلك الأرض الجزائرية، بهاء فتوة وجوده، ثم العشق واللذة.

لقد شكل المسرح قضية كبرى طيلة حياة كامو ثم فرصة سانحة للاقتراب من النساء. منذ سنة1936، أشرف الشاب الجزائري الشيوعي، على تنشيط مسرح العمل، جماعة من الهواة تضم مثقفين، بروليتاريين وكذا نساء جميلات. فترة قليلة بعد ذلك، أسس مسرح الفريق، واستعاد شعار جاك كوبو:”عمل، بحث، إقدام”. ستشارك الممثلة بلانش بالين في مغامرة فريق يلتف حول هذا الشاب، الذي يعاني السل لكنه لا يتراجع. يبجل كامو صداقاته النسائية. لذلك، لم تتردد سواء جين سيكار أو مارغريت دوبرين في الصعود إلى خشبة المسرح.

ماريا كازارس:

يظل لقاؤه مع ماريا كازارس يوم 19مارس1944عند ميشيل ليريس، تاريخيا. ممثلة عبقرية، ابنة وزير حرب جمهوري، نفيت إلى فرنسا سنة 1936، وبسرعة اعتبرها النقد بمثابة “نسخة جديدة عن الممثلة غابرييل ريجان”. صوت أجش، والمسرح يسكن جسدها. باختصار، إنها فنانة استثنائية. هل يمكننا الصمود أمام هذا البركان الاسباني المتجسد، حين متابعة فصول مسرحية ”انتفاضة أستورياس”؟

تبيَّن الثنائي الشهير كامو /كازارس مداخله صوب شارع سان جيرمان في ظل الاحتلال. بين قضائهما لحظات داخل مرقص ليلي ثم الانكباب دون توقف على تدريبات تهم مسرحية كامو ”سوء تفاهم”، إنهما لا يفترقان أبدا في خضم إحباط زوجته فرانسين.

ليلة 5يونيو1944، عشية إنزال قوات الحلفاء في نورماندي، يذهبان إلى بلدة “دولين” على متن دراجة هوائية، تجلس ماريا على المقود، تشبه منتشية غصنا ناعما. ثم جاءت فترة انفصال طويلة الأمد.

بيد أنه شهر 1948، عند زوايا شارع سان جيرمان نفسه، التقى كامو صدفة ماريا وقد أصبحت حينئذ نجمة. لقد أنهت علاقتها مرة أخرى مع الممثل جان سيرفيس، في حين يواصل كامو حياته المزدوجة. منذئذ، صارت تؤثث ذخيرة كامو غاية موته.

كاثرين سيليرز:

سنة 1956، لفتت أنظاره كاترين سيليرز شابة، ممثلة رشيقة ومثقفة، بعد مشاهدته عرض مسرحية”النورس”لأنطون تشيخوف. لذلك أوكل لها دور راهبة في مسرحية “قداس الموتى”، المقتبسة من رواية لفولكنر. تضمنت مذكرات كامو، جملة تنم عن استسلامه: ” للمرة الأولى، ومنذ فترة بعيدة، لامست فؤادي امرأة، دون أقل رغبة شهوانية، ولاغاية، ولارهان، بل عشقتها في ذاتها، ليس بلا كآبة” للمرة الأولى، توقف كامو عن لعب دور الحاذق العاشق.

سيمون هي Hié:

جسدت شخصية سيمون هي Hiéأولى لقاءات كامو العاطفية. مميزة، تنحدر من أسرة محترمة، ونجمة سينمائية جزائرية مدخِّنة للسجائر بواسطة مبسم مثير، خطيبة الشاعر ماكس بول فوشي. غير، أن كامو، قطع عليه الطريق وانخرط مع سيمون في علاقات حميمة، ثم تعلقت الأخيرة أكثر بالفراديس المصطنعة: المورفين والهيروين. فتاة في غاية الجمال، لم تنجح في التخلص من التحطيم الذاتي. تزوجها كامو يوم 16 يونيو1934، وكرس لها خلال السنة الموالية كتابه المعنون ب: ”ميلوزينا”. حكاية لم تضمر شيئا جميلا. لأن كامو انفصل في النهاية عن سيمون بعد اكتشاف خيانتها مع طبيب.

كريستيان غاليندو:

سنة 1937، تحقق لقاء ثان حاسم مع امرأة أخرى اسمها كريستيان غاليندو، جميلة طبعا، سمراء وبرونزية اللون، ابنة مدرِّسة، انطلقت بلا تردد، في رقن أولى مسودات عشيقها. لقد اكتسحت مختلف جوانب حياة ألبير كامو.

من جهة أخرى، اعتنى كامو بصداقته النسائية. بحيث اهتم بعلاقاته سواء مع جين سيكار أو مارغريت دوبرين، رفيقات جيدات داخل الحزب، ممثلات وصديقات حميمات. لكنه لم يقدر قط على التخلص من لعبة الحياة الثنائية المجازفة، علاقات متداخلة، ومغامرات غرامية متعددة ثم لا تنتهي إلى نتيجة الانفصال الصريح.

في رواية السقوط، يؤكد بصفاقة المحامي جان بابتيست كلامونص: “أبقي لنفسي مختلف انفعالاتي كي أستخدمها متى أردت. فلا يمكنني إذن، العيش وفق إقراري هذا، شريطة أن يتحول نحوي دائما، على امتداد الكون، كائنات عدة أو أكبر عدد ممكن، لا صاحب لها ومفتقدة لحياة مستقلة”. نوع من ”مركزية الشمس” عاشق مماثل بما يكفي لكاتبنا. ربما استعاض كامو مع شريكاته الرائعات عن الحب المرهق المنقطع لأمه، وكذا نشيد الفقر والصمت الثابت بالبنوَّة؟

فرانسين فورFaure:

بعد ذلك، تعرف كامو على فرانسين فور، ثم تزوجها وأنجبت التوأم كاترين وجين. ينطوي هذا العالم على الكمال. لأن فرانسين عازفة بيانو بارعة، يصعب مجاراتها بخصوص موسيقى باخ، ومختصة في الرياضيات. امرأة فاتنة، صاحبة وجه جميل ووجنتين بارزتين تشبه نساء التتار. متحفظة جدا، وقليلا ما تكشف عن سلوك ماجن، مع ذلك تعرف كيفية جعل نفسها موضوع رغبة لعشاقها. هكذا، استطاعت أن تدق قلب الشاب كامو. بعد سلسلة ترددات، تزوج ألبير فرانسين يوم 3دجنبر 1940 بمدينة ليون، داخل منطقة حرة في جريدة باريس/المساء حيث يقوم بدور سكرتير التحرير. لكنه خسر هذه الوظيفة ثم عادت فرانسين إلى الجزائر.

تحت سماء باريس خاضعة للاحتلال النازي، التقى كامو بالممثلة ماريا كازارس أو ”الفريدة”(على حد وصفه). يناسب أحدهما الثاني. حينما وصلت فرانسين إلى باريس، اقتضى السياق أن تتحمل تبعات هذه العلاقة العلنية التي دشنت مسارا طويلا. هكذا استغرقها إحباط عميق وعاتبت كامو بافتقاده لروح الجدية، والأنانية، ثم مختلف تضمينات ذلك. من هنا التفكير، في اللجوء إلى العلاج النفسي، بحيث خضعت فرانسين لثلاث وعشرين صدمة كهربائية. فبعد استشارة مختص. كتب كامو، بنبرة ملؤها التحرر: “لقد جعلتني بحسبه ضرورة إنقاذ صحة فرانسين، أعيش وسط”كرة زجاجية”. تمثل إرشاده في: الحرية والأنانية. أقول عنها وصفة رائعة. زيادة عن كونها الأكثر يسرا بخصوص ما بوسعنا أن نحياه”.

باتريسيا بليك:

سنة 1946، سافر كامو إلى الولايات المتحدة الأمريكية. الطالبات الشابات مبتهجات ترأسهن مرشدة اسمها باتريسيا بليك. فاتنة وظريفة، أنسى حضورها كاتبنا المتدلِّل، شيخوخة بدأت تدق بابه، بحيث بلغ كامو آنذاك ثلاثا وثلاثين سنة !

مي Mi:

سنة 1958، أضحى كامو حقا “شيخا”، حينما التقى مي Mi، عارضة أزياء تشتغل مع مصمم الأزياء جاك فاث. أقنعها بضرورة الإقامة في منزل مجاور لمنزله يتواجد في منطقة لورمارين. حينما يغادر قصد “القيام بنزهة”، يعلم كل أفراد العائلة وجهة كامو الحقيقية. في مسودة تمهيدية لروايته الرجل الأول، تبين للروائي بأنه خلال سنة رحيله، اكتشف نفسه عاشقا لأربعة نساء: فرانسين، ماريا، كاترين، ثم مي آخر عشيقاته.

كاترين كامو:

ل اننسى ابنته كاترين كامو، المرأة الأخرى التي شغلت حياته. ولدت سنة 1945 انخرطت بجرأة كبيرة في الإشراف على النتاج الفكري لأبيها، ثم صرفت النظر عن مهنتها كمحامية. تقول: ”حينما ننطق اسم كامو، فلا نتحدث لحظتها عن حقوق مؤلف بل نداء الواجب”. سنة 1994، تخلصت من تحفظها وبادرت إلى إصدار مسودة الرجل الأول. العمل الذي عُثِر عليه في خزانة سيارة “فاسيل فيغا”(انظر الصفحة46)، دون أيّ تنقيح. يمثل ذلك قرارا شجاعا.

ورثت كاترين عن أبيها، حس العبث. لقد أدت قسم مهنة المحاماة خلال يوم تزامن مع الانتقال بوالدتها إلى المستشفى حيث ماتت بعد فترة قصيرة.

بخصوص كل تلك النساء؟ ظل كامو حرا، بينما كنا نساء رائعات”.

المراسلات الغرامية بين ألبير كامو وماريا كازارس (1944- 1959:

ثمانمائة وخمس وستون رسالة تضمنها العمل السميك الصادر عن غاليمار، الذي احتوى الرسائل العاشقة بين كامو والممثلة ماريا كازارس. رسائل ألهبت شغفا عاطفيا: “ببساطة لأنهما مرا من هنا، فقد جعلت رسائلهما العالم أكثر رحابة، والمكان أكثر إشراقا والهواء أكثر خفة” تقول كاترين كامو صاحبة الفضل، بخصوص الكشف عن هذا العمل الاستثنائي.

التقى ماريا كازارس وألبير كامو في باريس يوم 6يونيو 1944، عشية إنزال قوات الحلفاء على شاطئ نورماندي. كانت كازارس تبلغ من العمر واحدا وعشرين سنة، بينما قارب عمر كامو ثلاثين سنة ومتزوجا من فرانسين فور، بل وأب للتوأم كاترين وجين كامو.

عندما التقى العاشقان. كانت فرانسين تعيش في وهران الجزائرية. ثم أسرعت نحو باريس شهر شتنبر سنة 1944، لحظتها وتحت وقع التمزق النفسي قطعت ماريا كازارس علاقتها مع كامو. نتيجة ذلك كتب صاحب رواية الغريب وقد افتقد لأيّ عزاء: “أينما وليت وجهي، لا أجد أمامي سوى الليل () مع غيابكِ أفتقد قوتي تماما. أعتقد بأني أرغب في الموت”.

استمرت القطيعة أربع سنوات. لكن يوم 6 يونيو1948، التقيا من جديد صدفة عند إحدى نقط عبور شارع سان جيرمان في باريس. ومنذئذ، لم ينفصلا ثانية قط.

صارت رسائلهما شبه يومية. يناقشان من خلالها ظروف عملهما (تواصل ماريا كازارس جولات فنية داخل فرنسا وخارجها)، يتقاسمان تفاصيل يومية (سيمون سينيوري أجهضت، رأيت إيف مونتان خائبا حقا ومكتئبا فعلا)، تكتب ماريا كازارس شهر يناير 1951 لكنه حتما الشغف العاشق من يحمل كل شيء. يكتب كامو إلى”نورسه الصغير”، و”سمكة السَّلمون السوداء”، وكذا “مذاقه”. صارت الرسائل شيقة وملتهبة: “أتململ. وأتخيل اللحظة التي نغلق خلالها باب الغرفة ثانية” يكتب كامو. ثم تجيبه ماريا كازارس: “أنا مضطربة داخليا وخارجيا، كل شيء يلتهب روحا وجسدا، فوق وتحت، قلبا وجسدا. هل فهمت؟ هل استوعبت الأمر جيدا”.

أتاحت رسائل ماريا كازارس، ابنة آخر رئيس حكومة الجمهورية الاسبانية، إمكانية اكتشاف حياة فنانة كبيرة: ”مواقفها الشجاعة ثم أيضا خساراتها” كتبت كاترين كامو، مع استثمارها للزمن بكيفية جنونية (تسجيلات للمذياع، بروفات، عروض، أفلام).

أدت الممثلة أدوارا (انتقل مسارها من المسرح الكوميدي الفرنسي، ثم المسرح الوطني الشعبي لجان فيلار) إلى جانب ميشيل بوكي، جيرار فيليب، كما لعبت دور”مارثا” في مسرحية “سوء تفاهم” لألبير كامو، وأيضا شخصية ”دورا” في مسرحيته الأخرى ”العادلون”.

يبدو عشقهما منصهرا، فحينما حققت ماريا كازارس نجاحا خلال جولة في الأرجنتين شهر أكتوبر1957، كتبت التالي:”بعض كلمات الشكر التي أمكنني قولها، عبرت عنها وأنا أفكر فيكَ”. أسبوع بعد ذلك، توِّج كامو بجائزة نوبل للآداب، ثم بعث برقية إلى عشيقته:” لقد افتقدتكِ أكثر من أي وقت مضى”.

يستحيل قراءة الرسالة الأخيرة التي بعث بها كامو إلى حبه الكبير دون انقباض، يوم 30دجنبر1959. نعم، وردت جملة ”الرسالة الأخيرة” بكيفية منذرة. استقر في منزله المتواجد في منطقة لورمارين منذ شهر نوفمبر 1959، وأخبر عشيقته بأنه سيعود أخيرا على متن السيارة يوم الاثنين 4يناير: “إلى اللقاء، جميلتي. أنا سعيد جدا لفكرة لقائك بحيث أبتسم وأنا أكتب إليك ذلك. أقبِّلكِ وأحضنكِ غاية يوم الثلاثاء، حيث أبدأ ثانية”.

غير أن كامو لن يعود قط إلى باريس. لأنه توفي مباشرة جراء حادثة سير بعد أن اصطدمت بقوة السيارة – من نوع فاسيل فيغا – التي يقودها صديقه ميشيل غاليمار، بشجرة جنوب بلدة فونتينبلو. في حين، توفيت ماريا كازارس شهر نونبر 1996عن سن الرابعة والسبعين.

تقول إحدى رسائل كامو (الخميس26 غشت1948):

“لقد صادفت عبارة لستاندال تنطبق عليك. تقول: “لكن روحي شعلة تكابد إذا لم تلتهب! “التهبي إذن! فأنا، أحترق”.

حينما التقى كامو ماريا كازارس، كان آنذاك كاتبا مشهورا، أساسا بفضل عمليه الكبيرين: القفا والوجه (1937)، ثم الغريب (1942) حيث عرض سلفا فلسفته بكيفية شاملة. يعيش كامو وحيدا في باريس، بينما عادت زوجته إلى وهران. صحفي في جريدة “نضال”، وعضو في لجنة القراءة التي تشرف على إصدارات غاليمار. يقف بالضرورة إلى جانب سارتر و دي بوفوار وآخرين، مثلما يجسد حتما الروائي والمفكر الأكثر حضورا خلال تلك الفترة.

من جهتها، تعتبر ماريا كازارس ممثلة تشق أولى خطواتها في المجال المسرحي، وقد أظهرت منذ البداية بأنها فنانة واعدة. إذن، يوم 6يونيو 1944، التقى العاشقان للمرة الأولى، في باريس عند ميشيل ليريس بمناسبة تنظيمه لقاء لمناقشة مسرحية لبيكاسو، غير أن علاقتهما صارت جادة أكثر بعد النجاح الكبير الذي حققته رواية الطاعون سنة 1947. بمعنى سنة 1948، ستجسد كازارس دورا جوهريا في مسرحية حالة الطوارئ ابتداء من شهر أكتوبر.

كتب كامو إلى ماريا كازارس يوم 30دجنبر 1959، ما يلي: “حسنا. إنها الرسالة الأخيرة. فقط كي أخبرك بأني سأعود على متن السيارة صحبة غاليمار يوم الاثنين. لحظة وصولي، سأتصل بكِ هاتفيا، لكن في وسعنا ربما الاتفاق من الآن على موعد وجبة عشاء مشتركة يوم الثلاثاء. بالتالي، نطرح الفكرة مبدئيا، كي نترك هامشا لمصادفات الطريق، سأؤكد لكِ موعد العشاء هاتفيا. أبعث لكِ من الآن شحنة أمنيات عذبة، فالحياة تتدفق معكِ على امتداد السنة، ومنحتكِ الوجه العزيز الذي عشقته منذ سنوات عدة (لكني أحبه بهواجس أيضا، بكل الكيفيات) أطوي تكتمكِ وسط الغلاف وألتحق عبر ذلك بكل شموس القلب”.

إذن سنة 2017، وافقت كاترين كامو كي تصدر دار النشر غاليمار مجلدا ضخما تضمن المراسلات الغرامية التي تبادلها ألبير كامو وماريا كازارس طيلة خمسة عشر سنة، أي مايقارب ثمانمائة وخمسا وستين رسالة، احتواها كتاب قارب ألفا وثلاثمائة صفحة. فورا لقي العمل نجاحا في المكتبات، وتبلورت جراء ذلك أولى أصداء إصدار ثان صاحبه هذه المرة سياسي ورئيس جمهورية محوره نفس نوعية الرسائل العاطفية، أتحدث هنا عن الرسائل الغرامية الملتهبة بين فرانسوا ميتران وآن بانجو.

هذه الحصيلة المعتبرة لرسائل عاشقة، صادقة، هائمة، رقيقة، بمثابة شهادة عن حقبة ولت، وكذا مسرح وأدب فترة انقضت، وثيقة عن حقبة زمنية اعتبرت الكتابة واللغة ممثلين عن مشاعر إنسانية، حيث لازالت الكلمة توحي بشيء ما عن الإنسان، وفق تجليات مضيئة، تلك المتعلقة بكاتب ملتزم استطاع الحصول على جائزة نوبل. قلم يستضيء معه كل شيء، نار الحب المقدسة، الشغف اللاعقلاني لكائنين التقيا واجتمعا وابتعدا ثم التقيا ثانية: “تحرق جسدي نار والروح مشرئبَّة” تكتب ماريا كازارس، في خضم خيانة زوجية تلاحق كامو، مادام شبح زوجته فرانسين يحلق باستمرار فوق رأسي العاشقين اللذين يستعينان بكل الوسائل، شكوكهما اعتقاداتهما وتقززاتهما، يختزلها كامو في وصف ”حبيبتي الغالية”، ثم تجيبه ماريا “ياعشقي الغالي”.

يقول كامو: “لو أمكنني فقط تغيير اعتقادي، فأكتب مؤلفاتي دون الإعلان عنها أو الاكتفاء بإصدارها وفق طبعات محدودة. لكني آمنت على الدوام بأن فنانا لا يكتب أبدا لذاته، ولا يمكنه الانفصال عن مجتمع حقبته. زواج غريب الأطوار بين تمثال مسلوخ وكذا مومس حقود! أعرف جيدا بأننا نكتب بالنسبة للآخرين، جمهور أكثر سخاء وسذاجة. لكن بين هذا الجمهور والذات تكمن شاشة هذا العالم السفلي الصحفي، وكذا المجتمع الصغير المحلي، المزعج، الجاف، البذيء، المركَّب الذي نسميه هنا بالأنتلجنسيا، بالتأكيد لأن ليس لها مع الذكاء الحقيقي والثقافات سوى علاقات نوستالجية”.

بينما تكتب ماريا: “أرهقتني حياة لا تنتهي سوى حينما يرخي الليل ستائر عتمته. هذا يستمر فترة رسالة، ثم يتلاشى كل شيء ولا يتعلق الأمر سوى بالانطلاق ثانية. هل يلزم ربما تحاشي تدوين هذه الرغبات أو الحالات العابرة”.

كامو شخص قلق ومعذب، تسكنه هواجس بلا توقف. سنلاحظ ذلك عبر صفحات عدة، من خلال لا طمأنينته الدائمة (نستعيد هنا مصطلح فردناندو بيسوا). عزلته الذهنية (تخلى عنه رفاقه القدامى مثل سارتر، بوفوار، ميرلوبونتي) إرهاقه الجسدي والمعنوي، وقد قاده الانعزال الفكري المقلق صوب الانكباب على الكتابة، بحيث لم يتوقف اشتغاله بخصوص كتابة أعمال جديدة. فأن تكتب وتؤثر شكلتا دائما فعلين عبَّرا بشكل أفضل عن وضعية كامو.

دفعه العمل، الكتب، المسرحيات كي يتمدد مصحوبا بشعور السلبية:”أحس هذا الصباح كما لو أني أجوف”، ”الحقيقة أنا مجرد شخص أبله، فقد لاحظت بأني فقط بصدد مخاطبة نفسي”، ”أنا فارغ وأجوف”، ”أنا قارب مترهل يسحبه موج، مبتعدا عن شاطئ رملي قبيح”، ”أعاني حالة كآبة يميزها إحباط كلي وحزن كئيب”.

سنة 1958، دبَّج كامو هذه الجملة التنبؤية: ”سأقتفي أثركِ خطوة خطوة غاية القبر”. في رسالة بعثها يوم 30دجنبر 1959 “أنا سعيد جدا لفكرة أن ألتقيكِ ثانية بحيث أبتسم وأنا أكتب إليكِ ذلك”. الوجود التراجيدي، الذي رسمه كامو بين صفحات مختلف عناوين كتبه، استعاده ثانية يوم4 يناير1960 في منطقة فيلبليفان، على الطريق الوطني رقم 6، صحبة ميشيل غاليمار، ابن أخ الناشر غاستون غاليمار.

يسوق ميشيل السيارة ويجلس كامو بجانبه، وتواجد خلفهما جانين وأن Anne. انحرفت السيارة واصطدمت بأول شجرة، ثم تصدعت بعد اصطدامها بالثانية. توفي كامو مباشرة، بينما أصيب غاليمار بجرح بليغ جدا، وتوفي بعد ستة أيام، في حين نجت السيدتان، كما لو استعادهما عمل كامو: نتواجد هنا بين العبث والتمرد.

مقابل ذلك، ظلت في حوزتنا هذه المراسلات المتأججة بين كائنين ميزتهما حساسية مفرطة، وديعين وقويين في الوقت ذاته، ينزعان نحو العالم بمنظور سذاجة أطفال، يرغبان في مخاطبة الأفراد، والتحدث إليهم، والسعي إلى الإفصاح عن ما يضمره فؤادهما دون إدراك حقا لكيفية التعبير عن ذلك: لقد التقيا ذات يوم، وعشق أحدهما الثاني، ثم افترقا تراجيديا جراء حادثة سير تليق بعبث كامو.

تركت هذه المراسلات ذوقا عذبا/محزنا، إحساسا بالحرية، تذكرنا بأنوار الشغف، وبأن الحياة واهية جدا، والكتب لم تأت حقا بجديد، مادامت حمولة عشرة آلاف كتاب فلسفي ستبقى عاجزة عن تقديم أيّ شيء حيال لحظة عشق بين كائنين يلتمسان الحب.


مرجع المقالة :

Alain Rubens :les femmes d Albert camus; l´express 2017.

مقالات أخرى

في تآكل الفيلسوف

خوارزميات التّساؤل

هندسة الحوارات بين الأهمية والفشل: دراسة تحليلية

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد