قراءة نقدية في كتاب: “الإسلام بين عصمة النص وضوابط نقد الفهم” لـ معتمد علي أحمد سليمان

محمود محمد علي

تحتل مقاصد الشريعة منزلة هامة في الفكر الشرعي ؛ ولذلك فقد أصبحت علمأ أساسياً من العلوم الفقهية ، أُلفت فيها المؤلفات ، وفُصلت فيها الأقوال ، وتوسعت فيها الآراء ، وأصبح الدارس للعلوم الفقهية والطامح فيها إلي مراتب الفهم السديد ، والنظر البعيد ، بله مراتب التفقه والاجتهاد لا مناص له من أن يدرس علم المقاصد ويتفقه فيه ، ومن شأنها أن تعين علي ولوجه ، وأن تكسبه القدرة علي تحصيل كلياته وفهم دقائقه وجزئياته.

ويعد كتاب “الإسلام بين عصمة النص وضوابط نقد الفهم” من الكتب المهمة التي صدرت عن مكتبة الآداب بجمهورية مصر العربية عام 2011م ، وتأتي أهميته بسبب تناوله لقضية منهجية معرفية ، ذات أثر كبير في تطور الاجتهاد الإسلامي المعاصر.
أما المؤلف فهو الدكتور الأستاذ الدكتور “معتمد علي أحمد سليمان”- أستاذ ورئيس قسم الدراسات الإسلامية وعميد كلية الآداب السابق- جامعة أسيوط ، وهو يعد واحداً من كبار المتخصصين في الدراسات الإسلامية، الذين حددوا مجالها، ورتبوا موضوعاتها ، وكشفوا النقاب عن شخصياتها ، وصاغوا الأطر النظرية لها، وأبان عن تاريخها وأبعادها النظرية والعملية ، وعرف الخطاب الديني وخصائصه، وأوضح المنهج العلمي لدراسته. أما تلامذته فقد صرف المؤلف حياته المباركة في بذل العلم وإفادة الطلاب، ولذلك كثر طلابه والآخذون عنه بفضل تميزه بفكر نيّر، متفتح، ناقد، بعيد عن التقليد أو التعصب .

ومن عادتي عند قراءة كتاب لا أعرف محتواه، أن أخمِّن موضوعه من عنوانه، وغالباً ما يكون تخميني صحيحاً؛ فحسب علمي لم يكتب قبله كتاب في موضوع “تجديد الخطاب الديني”، وشرح أفكاره بطريقة نقديَّة، وهذا واضح من خلال التوجّه التي سار عليه الدكتور” معتمد علي سليمان” عندما استشهد بكلام غوستاف لوبون :” .. وتُشتق سهولة الإسلام العظيمة من التوحيد المحض، وفي هذه السهولة سر قوة الإسلام، والإسلام إدراكه سهل خال مما نراه في الأديان الأخرى، ويأباه الذوق السليم.. وإنك إذا ما اجتمعت بأي مسلم من أية طبقة، رأيته يعرف ما يجب عليه أن يعتقد ويسرد لك أصول الإسلام في بضع كلمات بسهولة” (1) ، وهذا يعني في نظر المؤلف أن الإسلام دين سمح وسهل وفطري، وجموع المؤمنين به الذين عرفوه حق المعرفة يتعبدون بأحكامه في انقياد وإذعان .

وكتاب “الإسلام بين عصمة النص وضوابط نقد الفهم” ، هو دراسة في مقاصد الشريعة الإسلامية ، وقد جمع فيه المؤلف الأستاذ الدكتور “معتمد علي سليمان” بين الأصالة والمعاصرة ، وقرن فيه بين المصادر القديمة والمصادر الحديثة ، وهي دراسة جديدة في الدراسات الإسلامية ؛ ذلك أن المكتبة الإسلامية اليوم غنية بالكتب الفقهية ، ولكنها مفتقرة إلي دراسات تجمع بين النصوص الشرعية ومقاصد تلك النصوص حتي يتسني للقارئ أن يجمع بين فهم النص وبين الحكمة من ذلك النص الشرعي.

ولقد جاء الكتاب في مقدمة وسبعة فصول وخاتمة ، فكانت المقدمة عرضاً منهجياً لرؤية المؤلف في الفهم الصحيح الواعي المنضبط للإسلام، باعتباره دينا وتشريعا، ولفقهه باعتباره نتاجا إنسانيا، ولفكره وتراثه باعتبارهما معارف بشرية، هو الخطوة الأهم في بناء ذلك النسق الفكري الذي يسعى إليه المصلحون ، كما أن تحديد طرائق ومعايير النقد للنصوص يساعد في بناء النظام المعرفي للإسلام ؛ لذا لا بد أن يتم الفهم الصحيح فى صورة كلية ، وأنْ يكون فهما وسطيَّا يراعي المخاطب والزمان والمكان ، وأسباب النزول للآية ، أو أسباب الورود للحديث ، أما الفهم المعجمي للنص ، أو الفهم الجزئي ، وكذا والفهم المتعجل ، فهي فهومٌ بعيدة عن النظر والدراية ، وليست من أعمال العلماء ، أو الحذَّاق (2) .

وكان الفصل الأول خاصاً بالنص الديني : مفهومه وأهم خصائصه ، وهذا الفصل يقع في أربعة مباحث : حيث ناقش في المبحث الأول: مفهوم النص الديني، و الثاني : اتجاهات فهم النصوص، والثالث :عصمة النص الديني، والرابع : خصائص النص الديني.. في حين جاء الفصل الثاني ليدرس علاقة النص بالفهم، ويقع في ثلاثة مباحث، الأول : المتوازن للنقل والعقل، والثاني :العصمة للنص وليس لفهمه، والثالث: النص المحكم، والنص المحتمل ( فهم واحد وفهومٌ متعددة )، والسنة والحديث وعلاقتهما بالنصوص وفهمها، ومسئولية الفهم والتأصيل.. أما الفصل الثالث فيتناول فيه المؤلف معوقات الفهم الصحيح ، وهذه المعوقات تقع في سبعة مباحث: الأول: الجهل بالعربية ، والثاني: انحراف التأويل، والثالث: الجهل بالسياق، والرابع: التعصب المذهبي ، والخامس : قصور وظيفة الوعظ والإرشاد، والسادس : اتباع الهوي، والسابع : الأحكام المسبقة علي الآراء والأشخاص والأفكار. ثم انتقل المؤلف إلي الفصل الرابع، وفيه تناول لضوابط نقد الفهم ( ضوابط الفهم الصحيح) ، ويقع هذا الفصل في مبحثين ، المبحث الأول، وفيه بين لنا المؤلف، أن هناك ضوابط متعلقة بفهم النص وتفسيره ، مثل كل ما جاء عن السلف قابل للنقد والمراجعة ، ومراجعة فهم القرآن والسنة والتراث الفقهي ، مع ضبط مضامين المصطلح مشكلة المصطلح؛ أما المبحث الثاني، فيتناول ضوابط متعلقة بنقد النص وتفسيره، وتستمل علي : ضوابط متعلقة بنقد النص وتفسيره، والتفرقة بين نقد المنهج ، ونقد الممارسة، ونقد الحركات الإسلامية غير نقد الإسلام، وحدود الإنكار والتخطئة ( لا إنكار في مسائل الخلاف؛ وأما المبحث الثالث من ذات الفصل، فيدرس ضوابط متعلقة بالناقد، مثل : دقة الفهم، ولكل علمٍ أهلُه ورجالُه من أهل النظر والاعتبار، والاعتدال والوسطية في المراجعة والنقد، العلم بالدليل ومعرفة القصد، والتجرد والإخلاص والتواضع.. أما الفصل الخامس فيتناول فيه المؤلف، مفهوم التنوير بين الإسلام والعلمانية، ويقع في ثلاث مباحث: الأول مفهوم التنوير بين الإسلام والعلمانية ، والثاني التنوير في الثقافة العربية الحديثة، والقراءة العلمانية للنص الديني.. أما الفصل السادس: فيدرس المؤلف فيه، العمل للإسلام بين التعددية والاحتكار، ويقع في ثلاثة مباحث : الأول: التعددية في الفكر الإسلامي، وجماعات للإسلام وليست جماعة، والحركات الإسلامية والآخر.. أما الفصل السابع والأخير فيتناول فيه المؤلف نقد التيارات الإسلامية، ويقع في أربع مباحث، الأول : نقد الخطاب الإسلامي، والثاني الاجتهاد بين حرفية النص وتعليل الأحكام ، والثالث السلفية منهج لا حركة، وسمات السلفية النصوصية.

لقد أراد المؤلف لمشروعه أن يكون مشروعاً نقدياً مضمونياً، أشبه ما يكون بمحاكمة فكرية لكل التيارات الإسلامية، التي جنحت عن الاجتهاد والفهم الصحيح ، وأحسب أن المؤلف وبتوفيق الله عز وجل، استطاع أن يضع بين يدي القارئ، تأصيلاً شرعياً لفقه الأولويات في ظلال مقاصد الشريعة الإسلامية ، والتي حين غابت عن واقع المسلمين، تسببت في خلل كبير في ميزان أولوياتهم، حتي صغروا الكبير، وكبروا الصغير ، وحقروا الخطير واهتموا بالحقير ، وتجادلوا في السنن والهيئات وتركوا الفرائض والواجبات ، واهتموا بالجزئيات علي حساب التقصير في الكليات ، وتعلموا المتغيرات علي حساب إهمال الثوابت.
وكان ذلك كما يقول الكاتب :” بسبب الانسلاخ عن قيم السماء، وتوقف العقل المسلم عن الابتكار والتجديد والاجتهاد، حيث نُحِّيَ الإسلام بشموليته العلمية ، والمنهجية والفكرية ، وأضحت أمتنا تعاني مشاكل معقدة مركبة من الاستبداد السياسي ، والتبعية والاستلاب والتغريب ، والفساد الإداري والظلم الاجتماعي ، والتخلف العلمي والتقني ، مما سبب حالة من الشلل الحضاري، والقصور في العطاء؛ بل في الفهم والاستيعاب لطبيعة الأزمة ” (3).

ويستطرد المؤلف فيقول : وانشغل العقل المسلم بمعرفة العلل وتشخيصها، وتتابع المصلحون ، والنابهون من الدعاة والعلماء، على مشروع النهوض والعودة إلى المنابع، في إطار واقع الأمة، وفى ضوء الفهم الصحيح لأصول الإسلام، مستخدمين المنهج الصحيح في التفكير، والنظر، والتحمل ، والتلقي، والنقد والمراجعة، والجميع متفقون على ضرورة إعادة بناء النسق الفكري والمعرفي للأمة ؛ كي يستعيد العقل الإسلامي عافيته فيشارك في المشروع الحضاري للأمة الوسط التي تتصف بالخيرية، والشهود الحضاري، وتستعيد المعرفة الإسلامية الواعية بكافة أنساقها بناءها، ويتبوأ الاجتهاد دوره في واقع الأمة التي تحاول النهوض (4).

ومن هذا المنطلق ينصحنا المؤلف في هذا الكتاب بأنه يجب أن تُوجه الدراسات الحديثية والتفسيرية ، إلى الفهم الصحيح الواعي المنضبط للإسلام كدين وتشريع، ولفقهه كنتاج إنساني، ولفكره وتراثه كمعارف بشرية، هو الخطوة الأهم في بناء ذلك النسق الفكري الذي يسعى إليه المصلحون ، كما أن تحديد طرائق ومعايير النقد للنصوص يساعد في بناء النظام المعرفي للإسلام .

هذا الفهم الصحيح في نظر المؤلف يحتل المساحة الأولى في قضايا العلم ، ووزن الرجال، ولذلك خير الناس من رزق الفهم.. لأن الفهم الصحيح من أهم مراحل العلم ودواعي تحمله، فالعلم لا بد فيه من نية، ثم استماع، ثم يكون الفهم والاستيعاب، وبعد ذلك يكون الحفظ فالعمل، وأخيرا النشر ص ستة

وثمة نقطة مهمة نود الإشارة ‘ليها هنا ألا وهي إيمان المؤلف القوي بأن :” أحكام الشرع ثابتة بالنص القرآني، أو بالحديث الثابت التي لا يتحمل إلا فهما واحدا، أما الأحكام الفقهية، أو أقوال الفقهاء واجتهاداتهم فهي كل ما أضيف إلى الفقه الإسلامي على مر العصور من أقوال مبنية على الاختلاف في فهم النصوص المحتملة ، وعلى الاجتهاد المذهبي، أو الاجتهاد المطلق (5) .

فالمسلمون مدعوون للنظر العقلي فيما لديهم من نصوص محتملة في القرآن والسنة، والتي تستنبط منها الأحكام الفقهية، أما النصوص القطعية في القرآن والسنة كما يري المؤلف فهي مصدر للأحكام الشرعية ( الفهم الواحد ) ، التي لا يجوز إعمال العقل فيها؛ وهذا يعني في نظر المؤلف أن احتمال الخطأ وارد في كل ما نقرأه إلا ما كان قرآناً، أو سنة ثابتة، واحتمال الخطأ في الفهم عن الله  وعن رسوله وارد ؛ ولذلك ينبغي للناظر في النص الديني أن يعيش محققا مدققا ؛ لأن أقواله ، وفهمه ، واجتهاده ، وتأويله – كل ذلك يبنى على الأدلة الشرعية المختلف فيها، وهي الأدلة التبعية، وليست كل هذه الأقوال على درجة واحدة من الصحة، فبينها الراجح والمرجوح، وربما كان من بينها ما هو خطأ، وبعضها أنتجته عقلية المتعصب المتحامل (6).

وهنا يصل المؤلف لحقيقة مهمة وهي أن التفسير كفهم للنص القرآني من أكثر العلوم الإسلامية التي أصابها الخلل، فهو يحتاج إلى جهد مضن، وعمل منظم حتى يقوم بدوره في بناء الفكر الإسلامي المعاصر الذي ينبغي تصحيح كل مساراته، فالحاجة أضحت ملحة لتبني فكرة موسوعة صحيحة للتفسير القرآني، تبتعد عن المذهبية أو المرحلية، تناسب الواقع الحضاري للأمة، وتكون قابلة لاستيعاب الفهوم المتجددة لكل ناظر في كتاب الله تعالى(7).

علاوة علي أن الإسلام دين سمح وسهل وفطري، وجموع المؤمنين به الذين عرفوه حق المعرفة يتعبدون بأحكامه في انقياد وإذعان، وهؤلاء يحتاجون إلى من يعينهم على الفهم الصحيح الخالي من التعقيد ، وقضايا الخلاف التي لاتسمن ، ولا تغني من جوع . إن سهولة هذا الدين هى من أهم أسباب انتشاره ، وهنا نجد المؤلف يعترف بأن دراسته في هذا الكتاب تعول علي الإسلام الفطري الوسطي ، انطلاقا من النص الشرعي بنوعيه : القرآن والسنة ، وهما الوحي المتلو ، وغير المتلو وهما مصدر الأحكام ، وأساس التشريع ، إنه الإسلام الذي لا تشوبه شائبة “(8).

وهنا المؤلف أراد أن يطبع كتابه بخصائص جعلته يرقي إلي مستوي علمي رفيع ، ومكنته من الوصول وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف في هدفين أساسيين ، أو جعلهما في دافعين :

الدافع الأول : نظري معرفي ، يقوم علي ضم الفروع والجزئيات بعضها إلي بعض ، والتماس الروابط بينها ، وصياغتها في صفة نظرية ، وهو ما لا يعلم المؤلف أن أحدا قام به من قبل ، لا في شئ محرر ، ولا في كتاب مصنف ، بل لم ير أحدا حام حوله طائر فكره ، أو جعله غاية بحثه ونظره ، فرسخ في ذهنه أن هذا أمر مستحسن إظهاره ، وإبراز تعم فائدته ، وبيان خفيت معالمه ، وهذا الدافع قد نصفه بالهدف الأول لتأليف الكتاب ، أو الدافع الظاهري أيضا.

الدافع الثاني : واقعي دعوي ، يقوم كما يقول المؤلف :” علي تقديم حرية العقل في صفائه وتجرده وموضوعيته ، وبحثه الدائب عن الصواب والحق؛ فإن شريعة الإسلام جاءت لتزكية النفس والتسامي بها ، ولتنوير العقل وتوسيع سلطته ودائرته . إنَّ عقل الإنسان لا بد أن يكون حاضرًا وهو يمرُّ على السُّطور، وينبغي أن يكون على وعي أن هناك المقدس ( الإلهي والنبوي )، وهناك البشري الإنساني ( ومنه ما هو نبوي ) ، وينبغي أن يدرك أن الأفكار غير الأشخاص ، وأن الرجال يُعرفون بالحق ، ولا يُعرف الحق بالرجال (9) ، ومن ثم فإن أمر التجديد الفقهي يحتاج إلى الوعي التام بالنص فقها وتنزيلا وتطبيقا، وليس الأمر أمر حفظ للنص ، ثم استدعاء له في وقت ما ، إن الأمر يحتاج إلى حسن الفقه والتلقي عن المصدرين الأصيلين (القرآن والسنة) ، مع ضرورة التفرقة بين نص الدين ، وفهم المفسر أو الشارح ،والأخير محكوم عليه بالخطأ والصواب والاستدراك (10) .

لقد استطاع المؤلف الوصول إلي نتائج ترفع من مستوي القارئ ، وتجعله يقترب بسهولة من الكتاب إلي درجة الألفة والاستئناس ، ويمكن إيجاز هذه الجوانب الإيجابية من المؤلف ما يلي :

أولا: الجانب المعرفي : لقد جاء الكتاب مفعماً بالجانب المعرفي من حيث أن المؤلف وقف في الوصول إلي المعارف الضرورية لإنجاز هذا الكتاب ، فقد تتبع المسار التطوري للفهم الصحيح للإسلام وحديث المؤلف عن الفهم هو حديث عن المعرفة ، وعن نظرية المعرفة ؛ لأن المعرفة والبناء المعرفي لا يمكن أن يتحققا إلا بقاعدة ثابتة من الفهم . ويمثل الفهم الفكر الإسلامي القائم على الربط المتوازن بين النقل (الوحي)، والعقل (التفكير) ؛ فللعقل مكانة فريدة في الإسلام ؛ فهو مناط التكليف، فلا تكليف، ولا حساب إلا على عاقل يستطيع الاختيار والتمييز ؛ لذلك لا يجوز الحط من مكانة النقل ، ولا التنقيص من قدر العقل ، فلكل دوره ومكانته وحدوده (11) .

ثانياً : التتبع الدقيق للحقائق الفقهية ، فقد وفق المؤلف في الوصول إلي الحقائق الفقهية وتقديمها في صورة لا يجد القارئ صعوبة في إدراكها والإلمام بها ، فقد اختار الوسائل المساعدة لذلك ، من عرض نظري لإسهامات الفقهاء ، إلي مجال تطبيقي معتمدا في ذلك علي جملة من النصوص الفقهية التراثية ، والتي المؤلف من خلالها إلي حقيقة مهمة وهي أن احتمال الخطأ وارد في كل ما نقرؤه إلا ما كان قرآناً ، أو سنة ثابتة ، واحتمال الخطأ في الفهم عن الله  وعن رسوله وارد ؛ وعلى ذلك فإن كل ما جاء عن السلف قابل للنقد والمراجعة ، شريطة أن يكون ذلك النقد مبنيًا على منهج علمي صحيح ، يسير فى ركاب الوحيين ، وينطلق منهما، ولا يعطى سلطة للعقل على حساب النقل، ويحرص على تحري الحق ويتغيّاه (12) .

ثالثا: الإحاطة الجيدة لحدود الموضوع المدروس ، لقد أبان المؤلف عن حسن تبصر ، وعن رؤية واضحة للموضوع المدروس ، مما جعله متمكناً من المعلومات التي يعرضها ، حتي استطاع أن يوجهها لخدمة الغرض الديني الذي وُضع من أجله الكتاب ، كما أستطاع التقرب للنص الديني في انسجام وتوافق تأمين ، مما جعل المؤلف يميز بين النص المحكم ، والنص المحتمل ، فالنص المحكم في نظر الكاتب ينتج عنه فهم واحد فقط ، هذا الفهم هو حكم شرعي ثابت وقطعي، ومصدر هذا الفهم كما يعلن الكاتب هو الله ، أو رسوله، أو إجماع الأمة ، فينبغي معه التسليم والإذعان ، أما النص المحتمل فينتج عنه أكثر من فهم ، وهذا يضاف إلى الفقه الإسلامي ، ومن فضل الله على هذه الأمة أن يدور تعبُّدها لربها بين الشريعة والفقه (13).

وفي ظني أن القيمة الكبرى لهذا الكتاب تنبع من المنهجية المحكمة التي قام عليها وفحواها : ضرورة ربط المنتج الإبداعي بالأرضية الفكرية والمنطلقات الفلسفية التي انطلق منها ؛ لأن خيوط هذه المرجعية سوف تظل – مهما كثرت المدارة والتقية – تتحكم في رؤية النص الديني ومستوياته المضمونية والشكلية علي حد سواء.

والسؤال الان هو : هل نجح المؤلف في تحقيق هذا الهدف الذي نذر كتابه له؟

في ظني أن المؤلف تمكن – إلي حد كبير – من تحقيق هذا الهدف ، إذ يلحظ القارئ – المنصف- أن المؤلف ظل يطرح الأسئلة الكبرى ، ثم يقدم الإجابة عنها بطريقة المحاججة العقلية البعيدة عن التعسف والاتهام ، كما ظل يتكئ علي أكثر من شاهد وأكثر من دليل حتي يجلو الفكرة ويؤكدها ، دون الاعتماد علي الشوارد من الشواهد أو المفرد من الأدلة ، كما أن معظم المصادر والمراجع التي اتكأ المؤلف عليها هي من الكتب والدراسات الحديثة لأولئك الذين يحاورهم المؤلف ، إذ يثبت بطلان مقولاتهم من مصادرهم هم ، ومما حطت أيديهم ، مما يجعل عبارة ” إن الإسلام لا يضيق بالأفكار طالما أنها في جانب البناء ،ولا يضيِّق على الاجتهاد طالما أنه يسعى لخير الناس ، ويرحب دوما بالاختلاف الذي يثري ويضيف، ومن ثم فلا مانع من تعدد الجماعات العاملة للإسلام؛ شريطة أن تتلاقى في الهدف ، وإن اختلفت في الرؤية والوسيلة ، فالاختلاف هنا اختلاف تنوع وتخصص ، لا اختلاف تنافر وتعارض ، بما تحمله من دليل لا يحتمل الشك (14).

كما أن حرص المؤلف علي الموضوعية والحياد ، لم يصل إلي درجة التجرد من الحرص علي منطلقات الأمة وثوابتها ، بل راح يعلق بين الفينة والأخرى ، ويحاور القارئ ويشركه في الحوار ، ويبدي غضبه أحياناً ممن يمس عقيدته أو ثوابته ،حتي ليجعل بعض العبارات القرآنية لازمة تتكرر عنده كعبارة “بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ “. (سورة النحل، من الآية 44 ). التي يورد من خلالها أقوال من يرد عليهم ليقيم عليهم الحجة.

إن اتكاء المؤلف علي 193 مصدر ومرجع واكثرها كان لمؤلفين ومنظرين من الغرب من أمثال جوستاف لوبون ، عدا المجلات والدوريات ليدل دلالة حية علي سعة ثقافة المؤلف ، واطلاعه علي التيارات الفكرية والنقدية ، وهو ما مكنه من إدارة الحوار مع هؤلاء بكفاءة وفاعلية ، ولنا أن نتفهم استطرادات المؤلف الكثيرة ، وخروجاته العديدة عن فكرته الرئيسية ، إذ يبحث في المرجعيات والمنطلقات ، ويأبي عزل النص عن سياقه كما يفعل البنيويون ، فهو يفرد الصفحات الطوال للحديث عن مفهوم التنوير بين الثقافتين الغربية والإسلامية ، ونقد التيارات الإسلامية وبالأخص السلفية النصوصية التي تحتكر الدعوة الإسلامية الصافية ، ولا أنسي روعة المؤلف حين يقول بأن :” فكرة احتكار الدعوة ، أو حتى فكرة احتكار العمل السياسي الإسلامي غير مقبولة فضلا عن أن تكون غير واقعية ، لاختلاف التحديات، والبيئات والأحوال، والمرجعيات ، واختلاف الرؤى والمناهج ، ويحسب لكلٍ فضله بحسب إصابته وحسن فهمه ، وسلوكه” (15). كذلك يحسب للمؤلف قوله :” إن الحركات الإسلامية الواعية تهتم بإيقاظ الوعي الإسلامي في نفوس المسلمين ابتداء ، ثم بعد ذلك عليها قيادة الأمة مع الشركاء نحو التغيير الذي يرجع على الفرد والمجتمع بكل خير ، وهي في حركتها تعي طبيعة المرحلة ، فتتحرك وفق قانون الوسع والطاقة والمقدور والمتاح (16).

وفي خاتمة الكتاب نجد المؤلف يجمل آراءه باختصار شديد وهدوء لافت ، مدافعاً عن منهجه ، مبرزاًً حقه في الجدل والنقاش ليس بغرض التجريح الشخصي ، بل بحثاً عن الحقيقة العلمية ، وفي إشارة من إشاراته الدالة النادرة يكبر المؤلف في صاحب المشروع اعتداده برأيه والجهر فيه بلا مواراة أو تمويه ، مؤشراً إلي ضرورة أن علماءنا المعاصرين عن بنية معرفية تبني ولا تهدم مؤكدا أن : إن تفسير النص ليس أمرًا قاطعًا ولا نهائيًا إلا إذا كان يعبر عن العقل الجمعي للأمة، وكان منطلقًا من أصول الإسلام الثابتة، وهو ما يعرف بالإجماع، وما عدا ذلك فيمثل فهما من فهوم وجدت في القديم، وموجودة في الوقت الحاضر، وسيضاف إليها فهوم مستقبلية، وفهم النص مصدره البشر ، وهو نسبي ، وليس مطلقا؛ بمعنى أنه ليس في الاجتهاد قول نهائي (17). ثم يختم قوله بعدد من التوصيات التي ينبغي الالتفات إليها ، وبخاصة ما تعلق منها بالتمسك بالمرجعية الإسلامية التي تكتنز ذخرا ما احوج الأمة إليه ، وبهذا يُتم المؤلف كتابه – الذي مهما قيل فيه – سيظل يشكل إضافة معرفية ومرجعية ضافية من مراجع تجديد الخطاب الديني (18).

ويسرني في نهاية هذه القراءة أن أبارك للأستاذ الدكتور معتمد علي أحمد سليمان تأسيسه لموضوع جديد يهم الكاتب والمؤلف؛ خاصة وأنه يعد واحداً من البحاثة الذين تميزوا بنزعة دينية أخلاقية نابعة من تبنيه الاتجاه العقلي في تمحيص الحديث النبوي المرتبط بتصور شامل للعلوم الإسلامية الشرعية إلي جانب البحث الدقيق العميق ، تجلت هذه النزعة في نفسه الراضية المطمئنة ، وسلوكه الإسلامي الذي ألتزم به في الحياة العامة ، وكان تجسيد لعلوم الحديث بجانبيه النظري والعلمي ، وعند المتخصصين في الدراسات الإسلامية وعلومها هناك علاقة قوية بين الجانبين ، فقد كان باحثاً فاحصاً محققاً، مثالاً، ونموذجاً وواقعياً حياً للخلق الإسلامي .

لا شك في أن الدكتور “معتمد علي أحمد”، كان عالماً مبدعاً ، وكان له أثر فعال في مجال عرض الفقه وأصوله ، في ثوب جديد أعاد الفقه رونقه وبريقه ؛ ففي مجال أصول الفقه اعتمد مصادر التشريع الإسلامي ، والأصلية والتبعية ، مع التركيز علي بعض المصادر التبعية ، مثل الاستحسان والاستصلاح ، والعرف ، وذلك لأهميتها في الاجتهاد في العصر الحاضر ، فعليها يكون ، فعليها يكون -غالباً – تجديد الأحكام وتطويرها بما يتلاءم مع كل مكان وزمان ، لكن من غير تعد علي الأصول العامة ، والأدلة القاطعة في التشريع الإسلامي.

أما في مجال الفقه ، فتبين أن للدكتور معتمد علي أحمد آراء بناءة تظهر من خلالها معالم شخصية مبدعة ، ومخلصة أثرت في مسيرة الفقه الإسلامي في هذا العصر ، فرأيه في المذاهب الفقهية رأي معتدل ، ليس كمن رفضها نهائيا ، ولا كمن تعصب لأحدها ، وغنما يجب أن يستفاد منها جميعا بأن تُجعل كالآراء في المذهب الواحد ، ويجب أن يختار العلماء أيسرها بما يتناسب مع متطلبات الزمان والمكان ، من خلال ضوابط معينة ، وليس بالهوي والتشهي ؛ خاصة وأن علم الفقه كما يراها معتمد علي أحمد بأنه من أشرف العلوم ، وهو المعين الذي حفظ للأمة الإسلامية وجودها بين الأمم علي اختلاف العصور ، وهو مفخرة من مفاخرها العظيمة ، ولا حياة للأمة بدونه ، كيف لا وهو علم الحلال والحرام ، وهو جامع لمصالح الدين والدنيا ، ولبي مطالب الأمة في جميع ما عرض لها من أحكما ومستجدات فساير حاجاتها وواكب متطلباتها فكان بحق هو فقه الحياة.. اهتم معتمد علي أحمد بتطوير عرض الفقه الإسلامي وتبسيطه ليكون في متناول طلية كلية الآداب – قسم الدراسات الإسلامية، مع حفاظه علي التأصيل الفقهي والمستوي الجامعي ، وكانت له عناية شديدة بكل من طريقة العرض الميسر للمادة ، والتحقيق والتنقيح لكثير من المسائل الفقهي ، من خلال المناهج والتدريس.

وحتى لا يطول بنا الحديث أقول في نهاية حديثي تحيَّة طيبة لأخي الدكتور ” معتمد علي أحمد ”، الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج، هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهيَّة الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وأخيراُ وعلي كل حال لسنا نستطيع في مقال كهذا، أن نزعم بأننا قادرون علي تقديم رؤية ضافية شاملة ومستوعبة لكل مقدمات شخصية الدكتور” معتمد علي أحمد ”، بأبعادها الثرية، وحسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لمفكر مبدع في أعمال كثيرة ومتنوعة ، ونموذج متفرد لأستاذ جامعي نذر حياته بطوله وعرضه لخدمة الثقافة العربية، وأثري حياتنا الفكرية بكل ما قدمه من جهود.

تحيةً لمعتمد علي أحمد ، الذي لم تستهويه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ، ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع ، وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .

بارك الله لنا في معتمد علي أحمد قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه “أشباه المفكرين” (كما قال أستاذي عاطف العراقي)، وأمد الله لنا في عمره قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاه الله لنا إنساناً نلقي عليها ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.
———————-

الهوامش
1- أ. د. معتمد علي أحمد : الإسلام بين عصمة النص وضوابط نقد الفهم ، مكتبة الآداب ، القاهرة، 2011م، ص.11.
2- نفس المصدر، ص 329.
3- نفس المصدر، ص 5.
4- نفس المصدر، ص5.
5- نفس المصدر، ص8.
6- نفس المصدر، ص9.
7- نفس المصدر، ص 10.
8- نفس المصدر، ص 12.
9- نفس المصدر، ص 333.
10- نفس المصدر، ص 334.
11- نفس المصدر، ص329.
12- نفس المصدر، ص 329.
13- نفس المصدر، ص 330.
14- نفس المصدر، ص 337.
15- نفس المصدر، ص 337.
16- نفس المصدر، ص 337.
17- نفس المصدر، ص335.
18- نفس المصدر، ص335.
19- نفس المصدر، ص335.
20- نفس المصدر، ص335.
17- نفس المصدر، ص335.
17- نفس المصدر، ص335.
17- نفس المصدر، ص335.
17- نفس المصدر، ص335.

 

مقالات أخرى

قراءة في كتاب: البينيّة في الأكاديميا العربية والإسلاميّة من الاختبار التقني إلى المسؤولية الحضارية

الطاقة الاستلابية للعنف الرمزي في المنظور التربوي عند علي وطفة

تقديم كتاب:”خطاب الاستعراب بتونس في عهد الحماية، الخصائص والخلفيّات” لنجاة قرفال

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد