أبو العلاء…. صدّيقا وزنديقا

ملخص:

يتناول المقال حياة أبي العلاء المعري الشاعر العربي المعروف في القرن الخامس الهجري من زاويتين مختلفتين، تعكسان جوهر الاختلاف حول هذه الشخصية التاريخية الهامّة، وهي موقفه من الأديان صدوداً واحتراما، وإنكاراً وتقديراً، ويكشف سبب هذا التناقض، ويربطه بشخصيته كشاعر ناقد، يتعالى على التحليل المنطقي، ويعيش اضطراب الشعراء ومغامراتهم، ويتناول في تفصيل ذلك عدة محاور:

الإيمان وليس الميتافيزيق: فيؤكد إيمانه بالله ولكنه ينكر كل تفاصيل الميتافيزيق التي تروى فيه

الحيرة: يرصد المقال أن الحيرة باتت جزءاً منهاجياً من تناول أبي العلاء لقضاياه الفلسفية.

الإنسانية: تؤكد الدراسة أن الروح الإنسانية الغالبة لأبي العلاء هي السمة الأكثر واقعية لمشروعه الفلسفي، فالإنسان وليس الأديان هو مشروعه وشعره ومراده، لقد كان بحق فيلسوف الإنسان.

المواجهة مع الكهنوت: يرصد المقال سلسلة من المواجهات مع الكهنوت الناطق باسم الرب، ويخوض معركة ضارية في تعرية التناقض والنفاق الذي يمارسه تيار الكهنوت الناطق باسم الرب في كل الأديان.

رسالة الأديان: يرصد المقال مواقف المعري المتناقضة من الديانات ويحاول أن يستخلص منها موقفاً محدداً.

الانتقائية: ينتهي المقال إلى تأكيد أن أبا العلاء كان يمارس الانتقائية عن عمد، فهو ليس رجل قانون ولا رجل إدارة، هو مجرد صوت صارخ في البرية يريد إيقاظ الإنسان، ثم يؤكّد أنه أعمى العينين وليس من شأن المبصرين أن يسترشدوا بالأعمى، إنه يوقظهم ولا يقودهم.

الهرطوق المحترم: يشير إلى ظاهرة احترام جمهور الناقدين في الحضارة الإسلامية لأبي العلاء على الرغم من خطابه الهرطقيّ.

ولا يعتمد الكتاب في مصادره إلا ديوان أبي العلاء، وقد أكّد أن دراسته لديوان أبي العلاء انطباعية وذاتية، ولكنها بالطبع تشارك الدراسات الكثيرة التي قامت في تفسير حياة أبي العلاء وشعره.

ومع أن المقال محض مطالعة أدبية، وتنظيم لسرديات الشاعر المجيد، فإنّه يقدم توصية مهمة يعتبرها جوهر ما نستخلصه من الدراسة وهي الدعوة إلى إتاحة مجال أكبر لحرية الرأي، والسماح للرأي الآخر خارج الصندوق أن يعبر عن نفسه بحرية، بعد أن تطرفت المؤسسات الكهنوتية اليوم، ومنعت خطاب الهرطقة بسيف الردة.


Abstract:

The article deals with the life of Abu Al-Alaa Al-Ma’ari, the well-known Arab poet in the fifth century AH from two different angles, reflecting the essence of the disagreement about this important historical figure, that is his stance towards religions as a reflection and respect, denial and appreciation, and reveals the reason for this contradiction, and links it to his personality as a critical poet, who transcends logical analysis, and lives in the turmoil and adventures of poets. It deals in detail with several axes:

Faith, not metaphysics: He confirms his belief in God, but denies all the metaphysical details that are narrated in his name.

Confusion: The article notes that confusion has become a systematic part of Abu Alaa’s handling of his philosophical issues.

Humanism: The study confirms that the predominant human spirit of Abu Alaa is the most realistic feature of his philosophical project. Man, not religions, is his project, poetry and aim. He was truly a philosopher of man. The confrontation with the priesthood: The article examines a series of confrontations with the priesthood who speaks in the name of God, and engages in a fierce battle in exposing the contradiction and hypocrisy practiced by the priesthood current speaking on behalf of God in all religions

The Message of Religions: The article monitors Al-Ma’ari’s contradictory positions on religions and tries to extract from them a specific position. Selectivity: The article ends by confirming that Abu Al-Alaa was practicing selectivity deliberately, as he is neither a man of law nor a man of administration, he is just a crying voice in the wilderness that wants to awaken a person, then confirms that he is blind to the eyes and it is not the business of the sighted to be guided by the blind, he wakes them up and does not lead them.

Respected heresy: It refers to the phenomenon of respect by the public of critics in Islamic civilization for Abu Alaa despite his heretical rhetoric. The book is not approved in its sources except for the poetry of Abu Al-Alaa, and confirmed that its study of the poetry of Abu Al-Alaa is impressionistic and subjective, but of course it shares the many studies that were carried out in the interpretation of the life and poetry of Abu Al-Alaa.

Although the article is purely a literary reading and organizing the narratives of the glorified poet, it makes an important recommendation that he considers the essence of what we conclude from the study, which is the call to allow more room for freedom of opinion, and to allow the other opinion outside the box to express itself freely, after the priestly institutions today radicalized and prevented the speech of heresy with a sword of apostasy.


1- مقدّمة:

يمكن القول إن أيّ قائمة تتضمن خمسة ملاحدة في التاريخ الإسلامي ستضم في ثناياها دون تردّد أبا العلاء المعري، فيلسوف الثورة على الأديان، والرجل الذي لم يتوقف عن النقد حتى في إطار المقدس النهائي الاتفاقي، وهو القرآن الكريم، وظلّ يقول إن العقل أكثر هدى وبرهاناً، وظل يقدم رؤيته بدون مجاملة ولا مصانعة، يرفع صوته في مواجهة خطاب الغيب، ويعلن أن الحرية فضاء لا يمكن قهره، وأن من حقّه أن يطلّ على العالم من شرفته المطلة على الشمس وإن كان رهين المحبسين.

وفي خطاب الإلحاد العربي دوما ثلاثة قديسين: ابن الراوندي الملحد والرازي الفيلسوف وأبو العلاء المعري، وقد تم بالفعل تحييد الرجلين فيما ظلّ حضور أبي العلاء طاغياً، وباتت سطوره الثائرة على الأديان أشهر ما يروى من شعره، وبات يُقدّم في فضاء الحضارة الإسلامية شاعراً ساخراً يضرب بسيف معوله كل الثوابت التي يقدسها أتباع الأديان.

ومع أن الخطاب السلفي التقليدي لم يمنح أبا العلاء أيّ استثناء، وأدرجه دون رحمة في قوائم الملاحدة، فإنّ أبا العلاء، على الرغم من ذلك كلّه، ظلّ محل احترام وتقدير عند الإسلام الشعبي ، وقلّ أن يكتب مفسر أو فقيه إلا ويروي عنه، ويروي الخطباء والواعظون قصائده التاريخية في رثاء الإنسانية كما يروون النّصوص المقدسة، ويستشهد بها أشدّ الفقهاء تعصباً وتزمتاً، وقد ظل قبره وتمثاله في قلب مدينة معرّة النّعمان، مركزا ثقافياً شعبياً ورسمياً، تنعقد في رحابه المهرجانات وتُلقى في كنفه القصائد في الإيمان والمجد والحضارة الإسلامية، ويعتبر أبرز معالم معرّة النعمان وأشهرها، على الرغم من أنّ المعرة من أكثر بلاد الله محافظة وتمسّكاً بشعائر الإسلام، وينشد شيوخها وفقهاؤها كلام أبي العلاء ويقدمونه بالعنوان الشّهير: شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشّعراء، ولا زال الأمر كذلك حتى دخل الجهاديّون الغواضب إلى المعرة سنة 2014 وعاملوا رأسه الحجري بالفأس والسّيف كما تعامل المسلمون الأوائل مع اللاّت والعزى.

2- الإيمان وليس الميتافيزيق:

كان أبو العلاء يجسد في الأرض رسالة شاعر متمرد، يعاني من الجدل الذي يعصف بالذات البشرية، فهو من جهة يتحدّث عن الإيمان وظلاله. ومن أفق آخر كان يجد نفسه ناقداً بلا تحفّظ لأداء الكهنوت الدّيني بكل تفاصيله، وروايات الميتافيزيق المتصلة بالنبوة، وهو ما حيّر النّقاد فيه.‏

كان إيمان المعري من نوع آخر، فقد أشبع جهاده بالحديث عن الله، ولكنه لم يشأ أن يكون إيمانه صبغة من الميتافيزيق محكومة برؤى الكهنة، بحيث لا تتم معرفة الله إلا عبر وسائلهم، بل إنه انطلق في إيمانه إلى أفق أبعد، ولم يتفهم الإيمان في غيبة العقل، وهذه النزعة الاعتزالية تشي بما كان يعصف بالعقل الإسلامي ولا يزال في سبيل تخليص العقل من سلطان ظاهر النّقل، وكان صريحاً أن كثيراً من تأويلات النصّ المقدس لا تستقيم عقلاً. وعند ذلك لم يشأ ذلك المفكر الثائر أن يصانع أو يجامل، ربما بدافع من نزعته العقلية الحادة التي تتأبّى على المصانعة والمداورة، وكذلك نتيجة لعزوفه عن المناصب والرتب فإنّه كان صفحة ثورة بيضاء لا تخشى بؤس الحقيقة، وليس لديه أسباب للمصانعة والرياء.‏

عجبت لكسرى وأشياعه   ** وغسل الوجوه ببول البقر

وقول النصارى إله يضام ** ويظــــــــــــــلم حيّــا ولا ينتصـــــر

وقول اليهود إله يحب   ** رشاش الدمـــــــاء وريح القـــَــــتَر

وقوم أتوا من أقاصي البلاد ** لرمي الجمار ولثم الحجــر

فوا عجباً من مقالاتهم ** أيعمى عن الحق كل البشـر؟

فهل يتعين أن نطوي الصفحة، وندرج الرجل في قائمة الملاحدة الماديين العدميين، حيث لا يترك له موقفه هذا مكاناً له في أي ديانة، ولا صديقاً في أيّ لاهوت؟

من الحكمة أن نتأنّى الهوينا، وأن نقرأ له من الجوانب الأخرى للمرصد احتراماً للحقيقة، ويجب أن لا نتهور بالرغائب الإكليروسية لإصدار حكم ثيوقراطي لتحديد منزل المعري في منازل الجحيم.

فهل ننجح في تحديد ملامح أبي العلاء ثائرًا يقود الفكر بشجاعة خارج الصندوق، ويكسر التابو الأحمر الذي يحرّم ويجرّم خوض الإنسان في جدل الغيب.

3- الحيرة:

إن مقام الحيرة الذي كان يتحدّث عنه المعري أفق سار عليه العارفون من قبل ومن بعد، وعبّر عنه شاعر العشق الإلهي ابن الفارض بقوله: “زدني بفرط الحب فيك تحيرا”، وكان سلفنا الصالح يتخيّرون من أسمائه سبحانه اسم: دليل الحائرين.‏

إن الحيرة تشبه عند السالكين منطق العجز عن الإدراك. وقديماً قالوا في شرح هذا المعنى: العجز عن الإدراك إدراك، والبحث في ذات الله إشراك، ومع أنه كان واعياً بذلك، فإنّ نزعته الحرة كانت تأبى عليه التّسليم بقضائه بدون جدل وزلزلة:‏

هُوَ الحَظُّ عَيرُ البيدِ سافٍ بأنفه‏ *** خُزامى وَأَنفُ العَودِ بِالذِلِّ يُخزَمُ‏

تَبارَكتَ أَنهارُ البِلادِ سوانح‏ ***** بِعَذبٍ وَخُصَّت بِالمُلوحَةِ زَمزَمُ‏

تَعالَيتَ رَبَّ الناسِ عَن كُلِّ ريبَة‏ ******   كَأَنّا بِإِتيانِ المَــــآتِمِ نُلزَمُ‏

لم يكن يرغب أن يكون جزءاً من طاحونة المخاتلة، فهو صريح أنّ القدر هو لزوم ما يلزم، ولكن التسليم به يندرج في خانة لزوم ما لا يلزم، وهو ما وشت به لزومياته:‏

ما باختياريَ ميلادي ولا هَرَمي‏ ***** ولا حياتي فهل لي بعدُ تخير؟

ولا إِقامةَ إِلا عن يَدَيْ قـــــــــــــــــــــــــدرٍ‏ ***** ولا مسيرَ إِذا لم يُقضَ تيسيرُ‏

وفي مواجهة هذه الأقدار الغالبة لا يجد أبو العلاء وقتاً للهزل والضحك، فالزّمان لا يرحم والأيام غوالب، وينوس في وعيه واعتقاده بين عدمية غامضة وإيمان عميق:‏

ضحكنا وكان الضحكُ منا سفاهة‏ ***** وحقّ لسكانِ البسيطةِ أن يبكوا‏

يحطمُنا ريبُ الزمانِ كأننــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا‏ ****** زجاجٌ ولكن لا يعاد له سبــــــك‏

كان أبو العلاء من ذلك النوع الصارخ في البرية، إيمانه لا كإيمان الناس، إنه ذلك الإيمان الموصول بالملأ الأعلى بلا سماسرة ولا وسطاء، ولا يتوقّف عند حربه على الكاهن، بل يريد فعلاً أن يبطش بكلّ الخطاب الكهنوتي الذي جفّف العلاقة بالله، ونقلها من الروح الأسمى إلى علاقة حقوقية قانونية صارمة، لا مكان فيها للإنسان ولا للرحمن!

كان لايبالي ما يضرب به من صخب في نادي الإكليروس، وكان يثور ويغضب ويمزق بمجرد أن يتنطّع له أي فضولي محترف ليحول بينه وبين نفسه وروحه.‏

ما الإيمان؟ إنه عند أبي العلاء تلك العاصفة الهائلة التي تدور في فلكها المجرات، وتتحكم في الوقت عينه بمواقع الذرات، فمن هو الوكيل السّخيف هذا الذي يزعم أنه وكيل الله في الأرض يدخل في قائمته من يشاء، ويخرج منها من يشاء‏

وعلى الرغم من شعره المتمرّد فقد كان يحسّ ما يعيش له العاشقون من رغبة في عالم الرحمة في الملكوت الأعلى، وكانت روحه المتمردة إذ تنحت في جباه الجبارين بمشرط التهكّم تفيء في العشيّ إلى ساحة الاستغفار والرجاء بين يدي الله سبحانه:‏

أُؤَمِّلُ عَفوَ اللَهِ وَالصَدرُ جائِش‏ ***** إِذا خَلَجَتني لِلمَنونِ الخَوالِجُ‏

هُناكَ تَوَدُّ النَفسُ أَنَّ ذُنوبَـــــــــــــها‏ ****** قَليلٌ وَأَنَّ القِدحَ بِالخَيرِ فالِجُ‏

وكانت محنته بفقد عينيه تحمله على اليقين بالدل فيما بينه وبين الله، فالمسألة عدل، وليس لديه أدنى شك في أنّ الله لا يقرّ في مملكته بالظّلم، وهو من لا يظلم مثقال ذرّة.‏

إِذا ما أَعظُمي كانَت هَباء‏ ****** فَإِنَّ اللَهَ لا يُعيِيــــهِ جَمعــــــــي‏

إن الله أكرم من أن يجمع على عبده عذابين اثنين، وأعلن أنه سيمسك بمعطف الله يوم القيامة، ويذكره بما عاناه في حياته من عناء يوم اختارت له الأقدار أن يعيش في ظلام العالم ويتحدّث عن النور.

أَأَخشى عَذابَ الله، وَاللَهُ عادِلٌ‏ ***** وَقَد عِشتُ عَيشَ المُستَضامِ المُعَذَّبِ‏

إِذا ما أَعظُمي كانَــــــــــــت هَباء‏ ***** فَإِنَّ اللَهَ لا يُعيِيــــهِ جَمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــعــــــــي‏

4- الإنسانية:

وكان في إيمانه لا ينتظر بيان فقيه ليحسم له مسائل الأنصباء وتفاصيل التكافل والصّدقة التي يستأثر الفقيه فيها بنصيب العاملين عليها، بل كان إيمانه يحمله على أفق من التكافل الاجتماعي يرفض فيه احتكار الأرستقراط، ويؤسّس لفهم تكافلي بصير في مواجهة الصراع الطبقيّ المتوحّش:‏

إِذا وَهَبَ اللَهُ لي نِعمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــَةً‏ **** أَفَدتُ المَســـــاكينَ مِمّا وَهَب‏

جَعَلتُ لَهُم عُشرَ سَقيِ الغَمام‏ **** وَأَعطَيتُهُم رُبعَ عُشرِ الذَهَب‏

وكان في موقفه الاجتماعي اشتراكياً إلى الغاية، ينحاز إلى جانب البروليتاريا مناضلاً اشتراكياً أحمر، حتى كأنه يقدّم استشرافاً عميقاً من القرن الخامس للبيان الشيوعي:

ولما أن تجهّمني مــــــــــــــــــــــــرادي ***** جريت مع الزّمان كما أرادا

ولو أني حُبيت الخلـــــــــــد فرداً ***** لما أحببت بالخـــــــــــــــــــلد انفرادا

فلا هطلت علي ولا بأرضي***** سحائب ليس تنتظم البلادا‏

وإضافة إلى المعنى التكافلي والاجتماعي، وما كرسه من قيم المساواة والعدالة ورفض الامتيازات التي احتكرها الخلفاء والسلاطين باسم الربّ، فإنه توجّه أيضاً إلى معبد الإنسانية، يصلّي للإنسان حين تدعثره الأقدار وتتراكم مصائره تحت التّراب دفيناً على إثر دفين، يضحك منها الدهر ويبكي منها الإنسان، وقصيدته رثاء الإنسانية أشهر قصائد الأدب العربي على الإطلاق، وقد ترجمت إلى   لغات كثيرة، ومن العجيب أنها باتت أشهر قصائد الرّثاء في النوادي الوجودية والشيوعية والعدمية، وكذلك على منابر الصّلاة في الحرم الشريف، وما ينتشر في الأرض من مساجد:

غيرُ مجدٍ في ملّتي واعتقــــــــــــــــــــــــــــــــــــادي*** نوح باكٍ ولا ترنــّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم شاد

صاح هذي قبورنا تمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــلأ الرُح *** بَ فأين القبور من عهد عاد

خفف الوطء ما أظن أديـــــــــــــــــــــــــــــم ال *** أرض إلاّ من هذه الأجســــــــــــــاد

وقبيح بنا وإن قدُم العهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد *** هوان الآبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء والأجــــداد

سر إن اسطعت في الهواء رويداً *** لا اختيــــــــــــــــــالاً على رفات العباد

رُب لحدٍ قد صار لحداً مـــــــــــــــــــــــــــــــــرارا *** ضاحكٍ من تزاحم الأضـــــــــــــــــــداد

ودفينٍ على بقايا دفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــين *** في طويــــــــــــــــــــــــــل الأزمان والآباد

تعبٌ كلها الحياة فمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا أع *** جب إلا من راغـــــــــبٍ في ازدياد

 

5- المواجهة مع الكهنوت:

أما مواقفه المتمرّدة على الخطاب الديني فهي كثيرة بلا ريب، وحين تقترب منها تفهم تماماً أنّها كانت محض صفعات غاضبة في وجه فضوليّ متكلّف، يرافع ويدافع باسم الربّ بوكالة من أوهام ممهورة بخاتم الغرور، يقتصر توثيقها على الكهنوت المحترف للنطق باسم الربّ، في حلقة من الوهم والدّجل تذكرك بثياب الامبراطور الزائفة، وفي ثورته على جابي الزّكاة كان يطلق مدافعه من برجه الليلي في مواجهة صكوك الغفران:‏

أَأُنفِقُ مِن نَفسي عَلى اللَهِ زائِفاً‏ **** لأَلحَقَ بِالأَبرارِ وَاللَهُ ناقِدُ‏

ويهوله موقف السلطان، وهو يتشحّط بدولته في الفساد والظلم ثم هو بعدئذ يخرج بعد صلاة الجمعة في ثوب الورع ليشهد مع الناس إقامة حكم الله في قطع يد السارق، فكيف يمكنه أن يقرّ سارق السر يقطع يد سارق العلانية، وهنا لا يتوقف نقده عند حدود مواجهة هذا السّلطان بل يريد أن يزلزل المرصد الفكري الذي يتكئ عليه، ويتحدث باسمه، أيكم رأى الله وملائكته المحفوفين بالنور ينزلون إلى الأرض صفاً صفاً، يجلدون ويقطعون؟ فلماذا تصدر هذه الأحكام إذن باسمه؟ ومن هو حامل أختامه هنا في الأرض؟ ومتى استلمها؟ ومن ذا الذي رآهم يدفعونها إليه؟:‏

يد بخمس مئين عسجد وديت‏ ***** ما بالها قطعت في ربع دينار‏

تناقض ما لنا إلا السكوت به‏ ***** ونستجـــــــــــــــــــــــــير بمولانا من النار‏

ويحزنه ذلك الخطاب الخشبيّ الذي يدعو الناس إلى المعروف بوسائل الترغيب والترهيب، الذي يدلل لهم على المراد في لحظة عاطفة، تسوقهم إلى قصده ومراده، ولكنها مركومة بمنطق الأساطير وصكوك الغفران، فيصبح فيها العابد عبداً للنعمة لا للمنعم، وللرزق لا للرزّاق، وتحول بين الخلق والخلاّق:‏

لَعَمري لَقَد فَضَحَ الأَوَّليـــــــــــــــــــــــــــــــنَ‏ ***** ماكتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبوه وَما سَطَّروا‏

وَقَد عَلِمَ اللَهُ أَنَّ العِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبادَ‏   ***** إِذا يُرزَقـــــــــــوا نِعمَةً يَبطَروا‏

وَإِن عَجِبوا لاِحتِباسِ الغَمــــــــــــــــامِ‏***** فَأَعجَبُ مِن ذاكَ أَن يُمطَروا‏

إِذا القَومُ صاموا فَعافوا الطَعامَ‏***** وَقالوا المُحـــــــــــــــــــــالَ فَقَد أَفطَروا‏

وفي خطوة تالية يمضي على خطى المسيح، فيطوف حول الهيكل، ويقلب بيده موائد الفرّيسيين والمرابين والكذبة، وخاصة أولئك الذين يتحدّثون باسم الرّب، ويمضي وهو نافذ البصيرة محجوب البصر إلى فضح منظومة الفساد المتغلغلة في الهيئة الدينية، ويشتد غضبه على محترف الوعظ الذي ينهى عن الشرّ ويمارسه، ويأمر بالبّر وينسى نفسه:‏

رويدكَ قد غُرِرْتَ وأنتَ حـــرٌ‏ ***** بصاحب حيلةٍ يعظُ النساءَ‏

يُحَرَّمُ فيكمُ الصهباءَ صُبْـــحا‏ ***** ويَشْرَبُها على عــــــــــمدٍ مساءَ‏

يقولُ لكم: غَدَوْتُ بلا كِساء‏***** وفي لذاتِها رهنَ الكـــــــــــــــــــساءَ‏

إِذا فعلَ الفتى ما عنه يَنْهى‏***** فمن جهتين لا جـــــهةٍ أساءَ‏

ثم يثور على لغة النّفاق هذه، ويحمّلها انهيار الإنسانية، ويؤذّن أنّ الكهنة والسلاطين، قد اكثروا فيها الفساد، وآن أن يصبّ عليهم ربك سوط عذاب:

والأرضُ للطوفان مشتاقة‏ ***** لعلها من دَرَنٍ تُغْسَلُ‏

6- رسالة الأديان:

هكذا يمكن قراءة أبي العلاء من الأفق الذي اختار أن يبعث منه إشراقه، كصوت حرّ موصول بمجد الإنسان، وليس مستعداً لتقديم أدنى تنازل على حساب حريته، ولكنّ الرّجل لم يتوقف عن هز جذع النخلة، ولم يبال بعرجونها ولا عذقها، وفي موقف ساخر من واقع الشّقاق بين أبناء أهل الأديان يقول:‏

هفَتِ الحنيفةُ والنصارى ما اهتدت *****   ويهودُ حارَتْ والمجوسُ مضللهْ

اثنانِ أهلُ الأرضِ: ذو عقلٍ بـــــــــــلا‏ *****   دينٍ وآخرُ ديِّــــــــــــــــــــــــــــــنٌ لا عقــــل لهْ

وفي خطاب مباشر وصريح وواضح يعلن أنْ لا قداسة لبشر، وأنّ ما تركوه هو خبرتهم وتجاربهم ومطامعهم، فلمن نبذل القداسة وهم رجال ونحن رجال، وفي لغة صادمة مذهلة يقول:

أفيقوا أفيقـــــــــوا يا غواة فإنما ***** ديانــــــاتكم مكر من القدماء

ويل لأمّة تكثر فيها المعابد، ويقلّ فيها الإيمان، وويل لأمة يتزاحم فيها الأنبياء والملائكة ويختنق فيها الإنسان، إنها تبدو سعياً بدون رسالة، وعناءً بدون نهاية:

قد ترامت إلى الفســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــاد البرايا ****** واستوت في الضّلالة الأديان

أنا أعمى فكيف أهدى إلى المنـــــــــ ***** ــــــهج والناس كلــــــــــــــــــــــــــهم عميان

ثم يعود ليربط انحطاط الديانات بما أفسده فيه رهبانها وكهنتها:

مذاهب جعلوها من معايشـــهم ***** من يعمل الفكر فيها يحصد الأرقا

إذا كشفت عن الرّهبان حالهم ***** فكلهم يتوخّى التـــــــــّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبر والورقا

7- الانتقائية:

ولكنّه يتحول فجأة، ويعود ليقدّم خطاباً هادئاً وقوراً عليه جلال المشيب وبصيرة الحكيم:

نبذتم الأديان من خلفكــــــــــــــــــــــــم **** وليس في الحكمة أن تنبذا

لا قاضي المصر أطعتم ولا***** الحبر ولا القس ولا الموبذا

وفي غضبه ونزقه يعود واعظاً رقيقاً ينصح الإنسان بالعودة إلى اللهو أن يكفّ عن خطابه الأجوف بأنّه سيد العالم، فهو في حقيقته محض تركيب هيدروكربوني صدفي عاثر، تقلقه البقة وتنتنه العرقة وتقتله الشهقة، لم يعرف اللهيب الذي عرفته الأرواح الصاخبة في وادي الهول.، وفي النهاية يرقد في الأرض وإلى جواره كل آماله الواثبات، فماذا عسى تفعل النّفوس العظيمة حين تخذلها الأجساد:

خُلِقَ الناسُ للبقاء فضلَّت‏   ******* أمةٌ يحســــــــــــــــــــبونهم للنفادِ‏

إنما ينقلون من دار أعمال‏ ******* إلى دار شقــــــــــــــوة أو رشاد‏

فما هو تأويل ذلك وهل هي التقيّة التي كان يلتزمها الرجل، بحيث تتيح له الهرب من محاوريه المتناقضين، حتى إذا ما خلا إلى ذات نفسه عصف بالأسرار جميعاً؟‏

في الواقع يمكنك أن تجد في تراث أبي العلاء نبياً وزنديقاً وفيلسوفاً، ومعتزلاً هادئاً ومتمرداً ثائراً، إنه في الواقع ذلك كلّه، أليس الشعراء يتبعهم الغاوون؟ ألم تر أنهم في كل واد يهيمون؟ وأنهم يقولون ما لا يفعلون؟ وكأنه أدرك حجم الحيرة والتناقض الذي سيعصف بقرائه فقال:

لا تقيد عليّ لفظي فإنّي **** مثل غيري تكلّمي بالمجاز

إنه يؤسس لفقه انتقائيّ يتخيّر أجود ما في التراث وأقربه لنور العقل، ويمكنني أن أسجل أنّه أهمّ مفكّري الإسلام إرهاصاً بهذه الحقيقة، إنه يمارس الانتقاء بدون تردّد، ويتقبل عنهم أحسن ما عملوا. ويتجاوز عن سيئاتهم، وهل هناك سبيل للتعامل مع هذا التراث إلا الانتقاء… أو أن ننطح الجدار!! ثم يرسم هذه الحقيقة المرّة بحسرة، فيقول:

تروم قياساً للحوادث ضُلَّةً **** وتلك أصول ليس يجمعها حصر

8- الهرطوق الجليل:

إنه أمر مدهش أنّ الرجل الذي قال ذلك كلّه في الإسلام، ظل ينتقل في معرّة النعمان يتلمس جدرانها ويلامس وجدانها، وينطق بلسان زنادقتها وقدّيسيها ويسمعه الناس في كل مكان في الأرض، ويتبوّأ مكانه في ضمير التاريخ الإسلامي شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء.‏

من يملك أن يجزم في مصائر العباد بقرار الغيب؟ وحده الله، قل اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون.‏

سيظل لغزاً فريداً في تاريخ الفكر الإسلامي أن تسير الركبان بكلمات الشاعر المتمرّد، وهو يعصف بالأيقونات جميعاً، ويزلزل الثوابت الرّاسخة بحروفه الماكرة، ومع ذلك فقد ظلّت فتاوى التكفير تتجنّبه بوجه ما، وبالمقارنة مع ما ناله ابن عربي وابن سبعين، فإنّ المعري لم يكابد ابداً فتاوى التّكفير، وظل رقماً مختلفاً يخافون عليه ويخافون منه، ويعانون منه ويعانون لأجله، ويحبّونه ويكرهونه، وفي النّهاية يروون كلماته بغبطة ودهش.

هل يتّسع المشهد الثقافي اليوم لثائر آخر كأبي العلاء؟ تجربتي في هذا السبيل مرة وحزينة!! وأشعر أنّ الكهنوت المعاصر بوسائل رقابته الصارمة تحول إلى سيف بلا قلب، ولو أنّه عاصر أبا العلاء بهذا التغوّل الذي بات يمارسه على الفكر الحرّ لما تمكنّا من سماع صوت أبي العلاء اليوم!‏

مقالات أخرى

قراءة في كتاب: العقل المحكم، راهنيته: التحديات والرهانات

الطّقوس وتعرية الأنساق الثقافية، نسق السّحر في سيّدات القمر نموذجا

الأسمائيّة الأدبيّة

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد