ترجمة: سعيد بوخليط
*تقديم: يتجه سعي هذه الدراسة نحو هدفين: الحديث ثانية عن النحو التوليدي لتشومسكي في إطار اللسانيات الديكارتية التي مثَّل لسان حالها، وتسليط الضوء على بعض الأشكال الأساسية وكذا التيمات المهمة لهذا التيار اللساني. حتما، تعتبر الفكرة الأكثر دلالة وإلحاحية للسانيات الديكارتية تلك المتعلقة بإبداعية اللغة.
اهتم أساسا جوزيف فوس Vossصاحب هذه الدراسة بتحليل مشروع فيلهلم فون همبولت Humboldtحيث قابل مفهومه الشكل اللغوي”sprachform ”مع مختلف التصورات المتعلقة بهذا المفهوم مثلما راكمها زيليغ هاريس، كولريدج، غوته، شليغل، في حين جعله أقرب إلى مفاهيم الكفاءة الفطرية، والإبداعية والنحو التوليدي عند تشومسكي.
يكشف تقريب من هذا القبيل تناولا للغة كقوة إبداعية. لكنها أيضا رؤية للعالم بحسب همبولت. بناء عليه، لن تكون الإحالة فقط بحثا من جانب الديكارتية بل الرومانسية.
هل لازلنا في حاجة للتذكير بهوية نعوم تشومسكي، باعتباره واحدا من أكبر رموز اللسانيات وفلسفة اللغة المعاصرين. بالتالي لا أحد يجهل بأن هذه التخصصات تدين بفضل كبير إلى أبحاث اللساني الشهير المتواجد في الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي(1). إنه شخصية مؤثرة وذات فرادة كبيرة. لم يؤثر فقط فكره بعمق في مسار مختلف مجالات البحث اللساني. بل طورها أيضا في نطاق كونه استدعى لدى اللساني موضوعات غير مطروقة سابقا، وجعله يكتشف حقولا أخرى للبحث العلمي ظلت حتى فترته مجهولة بشكل واسع. باختصار، توسيع آفاق أبحاثه، والتي اجتهد بخصوصها، ولازال مستمرا زخم عطائه الملهم.
تميز مسار تشومسكي بكونه تموقع عند مفترق طرق المذاهب الكبرى للسانيات المعاصرة، تكفي الإشارة على سبيل التمثيل لا الحصر، المذاهب الثلاثة: التجريبية، العقلانية، البنيوية. لذلك، يعكس النموذج اللساني لتشومسكي مختلف مزايا تركيب كبير. حيث هنا يكمن على الأرجح أسرار نجاحه الباهر، وفق مستويات في غاية التباين: التفكير الفلسفي الخالص بخصوص التطبيقات التعليمية على مستوى تدريس اللغات الحية.
مع ذلك، نترك المجال لآخرين قصد السهر على الاهتمام بعرض متماسك يتعلق بمجموع النظام اللساني لتشومسكي. لا يتأتى لنا هذا المبتغى ضمن سياق مناسبتنا هاته، نظرا للحدود التي رسمتها هذه المقالة لنفسها.
بالتالي، يبدو قصد هذه المقالة، أكثر تواضعا: يتعلق الأمر أولا بجذب الانتباه صوب جانب من فكر تشومسكي، نعتقده لم يحظى غاية الآن بالاهتمام اللازم، ليس فقط لدى الجمهور الواسع، لكن كذلك– مما يثير الحيرة أكثر- بالنسبة لعدد مهم من ”اللسانيين المحترفين”. رغم ذلك، فالقول بأن هذا الجانب، الذي نقترح إلقاء الضوء عليه، قد تم المرور عليه سابقا بطريقة’ ‘عابرة” يمثل ربما سخاء على مستوى التقييم، ما دمنا تجنبنا الإشارة أساسا في هذا الإطار إلى سمة تجاهل مكون، يجسد حسب اعتقادي بعدا محوريا، بل وجوهريا بخصوص تأملات تشومسكي، وأقل ما يمكننا تأكيده بصدده أنه لم يجد دائما ”الإضاءة” التي يستحقها.
بالنسبة لأغلب الخبراء، يعتبر تشومسكي قبل كل شيء أو فقط، صاحب كتاب: ”النحو العام التوليدي “. لقد أعطى تشومسكي، لهذا النموذج التأويلي المنصب على الوقائع اللسانية، خلال فاصل زماني يقدر بثمان سنوات، صيغتين، مقاربتين أو صيغتين مختلفين، بقدر تكاملهما.
إذن، من جهة، صار حقا مكتسبا، ارتباط اسم تشومسكي لدى الكثيرين ب”النحو التوليدي “ أساسا. لكن، من ناحية أخرى، وجب الإقرار، حسب تصوري أن هذا ”النحو العام التوليدي”، لن يفهم تماما إلا في إطار السياق العام للمشروع، بمعنى ضرورة الإحالة على اللسانية الديكارتية، حيث يعتبر تشومسكي المدافع الرسمي عن خطابها خلال القرن العشرين. أعتقد بضرورة استحضار هذا التوضيح التمهيدي، أخذا بعين الاعتبار الحالة الراهنة للتفسيرات.
يكمن هدفنا الثاني، في تسليط الضوء على بعض المراحل، والشخصيات وكذا الأطروحات، المميزة للسانيات الديكارتية. مفهوم، تم تناوله تبعا لامتدادات التصور النوعي الذي ارتآه تشومسكي(2). سنحتفظ لمناسبة أخرى، مسألة البحث في إشكالية تحديد المكانة الدقيقة التي يشغلها الإرث الديكارتي في نظرية اللغة عند تشومسكي.
*ثانيا: اللسانيات الديكارتية
تعتبر اللسانيات، بالنسبة لأغلب المختصين، ابنة القرن التاسع عشر(3). تشومسكي، أحد الأوائل، خلال زمننا المعاصر، الذي وجه اهتمامه إلى’ ‘ماقبل تاريخ اللسانيات” أو صوب ”تاريخ اللسانيات، قبل أن تكون هناك لسانيات “، على حد تعبير غي أرنوا.
لقد حدد تشومسكي نقطة بداية تاريخية، بخصوص هذا التأمل ”ما قبل العلمي “ حول اللغة، والذي سبق فترة القرن التاسع عشر أي تشكل اللسانيات كعلم للغة: إنه ديكارت. طبعا، بين طيات فكر تشومسكي، سيكون خطأ رفض الحق في الاستشهاد بالمجهود التأملي ما قبل الديكارتي، بقدر ما سيكون أيضا من غير المعقول إقامة تطابق مطلق بين’ “ اللسانيات الديكارتية’ ‘ثم’ ‘لسانيات ديكارت “.
يبدو مفهوم تشومسكي” اللسانيات الديكارتية” قابلا كثيرا للتمدد، بحيث يسمح ضمن نطاق ما، تصور لسانيات ”ديكارتية” قبل ديكارت. مع ذلك، لا يبدو بأن الكاتب نجح دائما في بلورة تحديد دقيق لما يقصده ب’ “ اللسانيات الديكارتية”. إذن، بما يتعلق الأمر؟
إجمالا، إنها رقعة ملائمة في غاية الليونة، انطوت تحتها ثانية فردانيات متباينة جدا، مثلا، نحاة بور رويال و يوهان غوته، والشاعر الرومانسي صامويل كولريدج واللساني فون هومبولت، والكاتب فلهلم شليغل، ثم الناقد الفني زليج هاريس. كوكبة عقول كبيرة سيكون من غير الإنصاف اختزال أصحابها فقط إلى قيمتهم اللسانية.
تلزم، بالتالي الإشارة بتسمية’ “ اللسانيات الديكارتية”، ليس فقط لسانيات ديكارت، بل تيار لساني بأكمله نحا منحى عقلانيا، ثم التساؤل، ضمن هذه الشروط، عن النقط التاريخية المشتركة، أو بدلا عنها، تلك المعايير المنهجية التي تجيز، بناء على وجهة نظر محض لسانية، تآلفا من هذا القبيل بين شخصيات عدة تنتمي إلى حقب مختلفة.
*ثالثا: ديكارت
قبل الجواب – قدر ما نستطيع- على هذا السؤال، يعتبر ربما مفيدا إلى حد ما تدقيق أصول اللسانيات الديكارتية. بالتأكيد، تمثل هذه الأصول، ملاحظات شخصية لديكارت، اتسمت بكونها متناثرة وناقصة، جعلت البعض يبادر إلى تعميد “ فلسفة اللغة ”عند ديكارت بشيء من التفخيم.
بحسب ديكارت، فالذي يسمح لنا كي نميز بطريقة ناجعة، الإنسان عن الأتمتة، ومن ثمة، الحيوان عبر ما يمكن لسلوك هذا الأخير أن يكشف عنه غريزيا وكذا السلوك المكرر نمطيا، يعود في المقام الأول إلى استعمال الإنسان للكلام بكيفية ذكية: “ لأنه بوسعنا فعلا تصور بأن آلة جاهزة تماما حينما تتلفظ أقوالا بل وتتلفظ بعضا منها بخصوص أفعال جسدية ستحدث تغيرات معينة على مستوى أعضائها: مثلما، عندما نلمسها في بعض المواضع، فإنها تتساءل عن القصد من ذلك؛ بينما حين فعل نفس الأمر مع أخرى، تصرخ جراء الإساءة إليها، وأشياء من هذا القبيل؛ لكن ترتب ذلك يتحقق بكيفيات متباينة، قصد تفاعلها مع دلالة جل ما يقال بحضورها، هذا ما بوسع الأفراد الأكثر غباوة القيام بذلك”(ديكارت، خطاب المنهج، الفصل الخامس، 1637) ثم يضيف الفيلسوف الكبير: “ عوض أن يكون العقل أداة عامة، قد يفيد في مختلف أنواع اللقاءات، تحتاج في المقابل أعضاء(الآلات)لترتيبات معينة فيما يتعلق بكل حركة جزئية “.
نعتبر هذين المقطعين تمثيليين بما يكفي، قصد تبيان الفطنة المدهشة التي أبان عليها أب الفلسفة الحديثة بخصوص تحليل السلوك اللغوي للإنسان الناطق.
*رابعا: إبداعية اللغة
ما يميز في نهاية المطاف، لدى ديكارت الإنسان عن الحيوان، ليس تماما مَلَكة اللغة باعتبارها قولا مأثورا قديما قِدم الإنسانية !بل ما سميناه حقا التوظيف الذكي للكلام، بمعنى، ”نشاط الفكر المستمر الذي يتوخى جعل الصوت المنطوق قادرا على تجسيد الفكر “. فكرة حداثة كبرى، قامت تقريبا على النقيض من مقاربة فرديناند دي سوسور للغة باعتبارها قانونا أو أداة تواصل، بحيث شددت على الدور المبدع للغة بخصوص إعداد الفكر نفسه. لا يمكننا التعبير عن هذا التصور أفضل من تشومسكي، حين قوله: “ لقد رأينا كيف تبدو اللغة عند مستوى توظيفها العادي، تبعا للمفهوم الديكارتي، كما طوره تحديدا ديكارت و كورديموي (…)، متحرِّرة من كل مثير منضبط: وظيفتها الوحيدة التواصلية غير كافية قصد تعريفها، لأنها أولا وسيلة تمكن من التعبير الحر عن الفكر، وقادرة على تقديم جواب يناسب وضعيات جديدة “.
هكذا تتجلى نوعية اللغة الإنسانية، سواء في علاقتها مع لغة الحيوانات- أو بعضها، كما الحال بالنسبة لطيور العقعق والببغاوات- وكذا قياسا لمختلف الأنظمة التواصلية الأخرى: الإبداعية، بمعنى القدرة على صياغة تعابير جديدة تبلور أفكارا أخرى ضمن سياقات عدة. سنعود فيما بعد إلى هذا المفهوم الجوهري لإبداعية اللغة.
*خامسا: النحو عند بور رويال
أ-الصوت والمعنى:
الكتاب الذي أصدره سنة 1660، كلود لانسلوت وكذا أنطوان أرنولد، تحت عنوان: ”النحو العام والقياسي “، سيميز المرحلة الثانية المهمة على مستوى تاريخ اللسانيات الديكارتية.
استلهم نحاة بور رويال الخطاطة الثنائية الديكارتية عن الجسد والروح، وانطلاقا من ذلك ركزوا على ثنائية الصوت والمعنى التي تميز أيّ تجلّ لساني. تعتبر هذه الثنائية القطبية السمة المميزة لكل علامة لسانية. الصوت بمثابة الوجه الخارجي، البارز من العلامة، تجسيدها أو ترميزها المادي. حاليا، يقوم تحليل هذا الجانب على تخصصات مثل علم الأصوات والفونولوجيا.
بينما يشكل المعنى الجانب الداخلي، الذهني، بمعنى ”دالا” أو سيمانطيقية العلامة، حيث الصوت مجرد قوام مادي. العلامة اللسانية حاملة للمعنى. يمثل الأخير “ الطريقة التي يستخدم وفقها الأفراد العلامة قصد التعبير عن أفكارهم “. من المهم أن نلاحظ عبر هذا التعريف كيف تبدو اللغة أولا بمثابة أداة تساعد على بلورة الفكر قبل أن تصبح وسيطا للتواصل. فكرة، تمثَّلها ديكارت، وإن وقفت لديه عند حالتها الجنينية.
*خامسا: اللغة والمنطق
إذا لزم إبراز مبدأ ثان لنحو بور رويال، فيمكن لهذا الأخير أن تتم صياغته باختصار كالآتي: لا توجد هوية مطلقة بين البعد الصوتي والدلالي للحقيقة اللسانية. يعني هذا بحسب مفاهيم تشومسكي، أن البنيات السطحية والعميقة غير متطابقتين حتما بطريقة دقيقة. لا تكمن دلالة الوقائع اللسانية عند مستوى بنية التعبير وكذا التحليل النحوي لعناصره، لكن فعلا داخل فكر الذات المتكلِّمة. بوضوح، يعني هذا أن فحص العناصر الظاهرة للخطاب (مونيم، مورفيم، تغيرات صرفية، إلخ) يبقى عاجزا عن إدراك الروابط الدلالية المنطوية عليها.
بصفة عامة، يشكل النواة الأصلية للغة، نظام قضايا أولية من نمط الذات-المحمول. هذه الصيغة للحكم المنطقي، التي اختُبرت، حسب بوررويال عالميا في كل اللغات، تسمح لفكر الذات المتكلمة أن يتجسد ويتشكل عبر اللغة.
في إطار أولية اعتبارات دوغماطيقية من هذا القبيل، تأسس ما لا يمكن لأي واحد منهم تسميته ب: ”العقلانية الديكارتية لبور رويال”(4). لذلك، بوسع جمل لغة أن تقود ثانية نحو قضايا بسيطة في صيغة: الذات/الفعل، الدعامة/المحمول، تدبِّر بعض عمليات التحول(الحذف، الاستبدال، التعديل).
نفهم حينئذ بسهولة أكثر لماذا راق لمؤلف اللسانيات الديكارتية العثور في النحو العام لبوررويال على أصل النحو العام التحويلي، بحيث يتجه الهدف نحو العمل على إظهار، البنيات العميقة فيما وراء بنيات السطح(5).
ينبغي على اللساني أن يميز في الجملة المركَّبة، التالية:”لقد خلق الله اللامرئي العالم المرئي “، ثلاث عمليات مميزة للفكر:
1-الله اللامرئي، 2-خلق العالم، 3-العالم المرئي. من بين هذه القضايا الثلاث، تعتبر الثانية أساسية، بينما تتسم الأولى والثالثة، بطابعهما العرضي، مادامت لا تعمل سوى على إضافة تحديدات ثانوية، سواء للفاعل(الأول)، وتارة للصفة(الثالثة). هكذا خلصنا، بعد التحليل، إلى جملة: “ خلق الله، اللامرئي، العالم المرئي”.
إذن، بالنسبة لأساتذة بور رويال، تتطابق القضايا النحوية والمنطقية. فاللغة مِرآة للعقل. بل وأكثر، اللغة هي العقل. بحيث، يتمثل التوظيف الأساسي للفعل في تأكيد الإثبات المنطقي المحض، بمعنى ضمن حالته الخالصة، وقد تجرد عن احتمالات الزمان، والشخص، والعدد.
من بين تلك الأفعال، يعتبر الفعل الجوهري ”الكينونة” الأكثر أهمية، إلى درجة أن توظيفه سيكون أساسيا بالنسبة لكل الأفعال الأخرى، كيفما جاءت.
الكلية والأفكار الفطرية:
أضحى الاتجاه العقلاني العميق لبور رويال تقعيدا لمادة لسانية، بالعمل على إدخالها قسرا إلى وعاء القواعد المعيارية تم الإقرار بأنها مقبولة بشكل عام، والاستخفاف بمعطيات الملاحظة التي أجمعت على أن صنيعا من هذا القبيل يرمي إلى ”التحكم ” في اللغة. يجد هذا الطموح ”الكلاسيكي” كليا ”قصد تعليل” النحو بتعميم نتائج الاستدلال في صيغة قواعد منطقية، أقصى تعبيراته ضمن مايمكن تسميته بالأطروحة الرئيسة الثالثة عند بور رويال.
يتعلق الأمر، حتما بنقطة أساسية للنظرية، لأنها في نهاية المطاف، من ستعطي كل معناها إلى تعبير ”النحو التوليدي “، أقصد: “ التأكيد على عمومية البنيات النحوية باسم كليانية الخصائص الأساسية المميزة للإدراك الإنساني. فضلا عن ذلك، يكتسي تأمل نحاة بور رويال بعدا فلسفيا أصيلا، نتيجة هذا التطلع نحو الكليانية، الذي يتجاوز ارتقاؤه بمستوى السجال اللساني “ المهام الصغيرة “ للمختصين في اللغات.
ألم يثبت ديكارت قبل ذلك، أن العقل يمثل ”الأداة العامة، التي يمكنها أن تساعد على مختلف أنواع اللقاءات “؟ تأويل، أجاز تحديدا لتشومسكي الاعتقاد بأن ”البنية العميقة الكاشفة عن الدلالة، تظل مشتركة بين مختلف اللغات “.
أيضا، عمومية النحو، ألهمت فيلهلم فون همبولت فكرة ”البناء الداخلي للغة”، صيغة قوام عميق للغة، مستقل تماما عن التغيرات الوطنية والشخصية. أخيرا، لا يبدو لنا ملتبسا وجود نوع من التماثل بين مبدأ كليانية بنيات اللغة عامة، مثلما دافعت عنها من جهة، جماعة بور رويال بأقصى صرامة منطقية، ثم فرضية ”الأفكار الفطرية “ أو”كلية اللغة “ لدى تشومسكي، من جهة ثانية.
مع ذلك، وجبت الإشارة إلى الدور الجوهري الذي يؤديه مفهوم الفطري عند تشومسكي بخصوص اكتساب اللغة: كيف نفسر، إجمالا، بأن طفلا ينتسب إلى شروط تهيئ تعليما مناسبا، يستوعب بذات اليسر، لغات متباينة جدا مثل الألمانية والصينية، أو الفرنسية والباسكية؟ ألن يكون تأويل الازدواجية أو التعدد اللغويين، رهينة لنفس الفرضية المتعلقة بالفطري والكلياني؟
يعتبر تشومسكي تبعا لبور رويال بأن الآلية الفطرية لاكتساب اللغة تقتضي نوعا من ”استعداد” الكائن الإنساني لاكتساب بنيات اللغة المشتركة بين مختلف اللغات، مما يسمح ضمنيا بوجود “ نحو عام “، مثلما استشرفته بور رويال: “ يحدث كل شيء كما لو أن الذات المتكلِّمة، المبدعة تقريبا للغتها تباعا بقدر ما تعبر أو تكتشفها ثانية قدر سماعها للكلام الدائر حولها، قد استوعبت وفق جوهرها الذاتي المفكِّر نظاما متآلفا من القواعد، وكذا قانونا وراثيا، يحدد بدوره التأويل الدلالي لمجموع لانهائي، من الجمل الفعلية، المتكلِّمة أو المسموعة. هكذا يتبلور كل شيء بكلمات أخرى، كما لو أنها تمتلك نحوا توليديا للغتها الخاصة”.
هذا ليس ممكنا سوى حين تماثل اللغات جوهريا، بمعنى تجانس على مستوى “ بنيتها العميقة”. بحيث أن اللغة ليست مصدرا للمنطق، بل نتاجا له. بمعان ثانية، مهما كانت الأصول الإثنية والثقافية للطفل وكذا الجماعة اللسانية التي ينتمي إليها، فلن يصادف قط صعوبات لا تقهر بخصوص تعلمه لغة معينة، مادامت اللغة مماثلة لنفسها في كل مكان، أو بشكل أفضل، لأن الإنسان هو ذاته عبر مختلف الأمكنة. إذن، حيال الكثرة اللانهائية تقريبا للغات، تكمن كفاءة لغوية وحيدة.
بالإحالة ثانية على ”الفطري” أو “ المثالي “ (الأفلاطوني)، يحق لنا مناقشة مقاربة اكتساب اللغة مثلما اقترحه علينا فيلهلم فون همبولت، وجهة نظر سنتحدث عنها باستفاضة أكثر في موقع آخر من فقرات هذا العرض. بالتأكيد، لا يشكل الفطري سوى جانبا واحدا ضمن ظاهرة أكثر اتساعا، سميت بعد تشومسكي، بـ ”إبداعية “ اللغة.
تبدو الإبداعية والفطرية حقيقتين متلازمتين، غير قابلتين للانفصال عندما نسعى إلى تحليل أصل اللغة. وحدهما كافيان، لتضليل أيّ محاولة للنظرية السلوكية بخصوص وصف الوقائع اللسانية تبعا لمفاهيم ”المحفزات” و ”الشَّرطية “ أو ”السلوك اللغوي “، مادامت إحدى شروط إمكانية اكتساب اللغة، نكرر قول ذلك، إشارة تشومسكي إلى “ الوظيفة التي تمكن من إدراك منظومات قواعد ضمنية مجردة”.
ساهم نحاة التصور الشمولي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، حسب تشومسكي، في إعطاء اللسانيات توجها جذريا جديدا، عبر الولوج بها من نظام ”تاريخ طبيعي “ (ارتبطت به سلفا، وكذا إبان القرن العشرين، جراء تأثيرات الوضعية، و البنيوية وكذا التجريبية)إلى نظام ”فلسفة طبيعية”، اهتمت بتوطيد مبادئ كونية حول التفسير العقلاني للوقائع اللغوية.
تصور اختلف معه جورج مونان، الذي آخذ أساسا على نحو بور رويال ”كبحه خلال فترة طويلة، تطوير تأمل في اللغة أكثر موضوعية. رغم ثناء بهذا الخصوص، دال ومبرَّر، صادر عن فرديناند دي سوسير”(6)يقول: “ لأنَّ النحو العام القديم، مثلما ترمز له تسمية بور رويال، بَحَث بشكل أقل عن قوانين مشروعة لكل اللغات ولم يتوخ فرضها خارجيا بقوة، باسم دواعي منطقه، فقد مَثَّل ثانية محاولة أكثر إخفاقا مقارنة مع التاريخ السابق عن لسانيتنا العامة “.
* فيلهلم فون همبولت:
وجدت اللسانيات الديكارتية في الألماني فيلهلم فون همبولت أكبر ممثل لها. يجسد عمله التعبير الأكثر اكتمالا عن الاتجاهات والخاصيات التي بوسعنا معاينتها قبل ذلك مع التحليل الديكارتي للغة وكذا النحو العام لبور رويال. بالتالي، عوض أن يشكل مشروعه هذا، نقطة انطلاق بخصوص تأمل جديد في اللغة، سيظهر مثل فضاء تتلاقى عنده وتنتهي مختلف تطورات اللسانية الديكارتية. مع ذلك، حينما قصد التجريبي ليونارد بلومفيلد الثناء على الرجل الكبير همبولت وإنصاف عمله، سيعتبره” أول عمل كبير في اللسانيات العامة”.
يعكس فيلهلم فون همبولت، كما الشأن بالنسبة لتشومسكي، حصيلة تركيب، يتموقع عند ملتقى تيارين على الأقل: العقلانية الديكارتية والمثالية الرومانسية.
*السياق التاريخي:
من بين المصادر التاريخية –طبعا متشعبة ومتعددة- لفكر همبولت، نرصد هنا تلك الموصولة بعلاقة مباشرة مع الموضوعات الأساسية التي طورتها اللسانيات الديكارتية (الصوت/المعنى، اللغة/المنطق، الكلية، الفطرية، الإبداعية). في المقابل، لن نتكلم عن الإرث المعروف عن ليبنتز وكذا كانط. أيضا، أثار انتباهنا بشكل خاص، مصدران غير معروفين بالتأكيد :الرومانسية الانجليزية (هاريس، تايلر كولريدج)وكذا الرومانسية الألمانية (غوته، الأخوان أوغست فيلهلم وفريديريك شليغل).
شكَّل جانب من الاعتبارات الجمالية والفلسفية لدى جيمس هاريس، تلميذ ينتمي إلى مدرسة شافتيسبري ومؤلف كتاب عنوانه(Hermés)(الصادر سنة 1751)، مصدرا لمفهوم همبولت الخصب والثري في دلالته، عن ”شكل اللغة”.
لقد تصور هاريس اللغة أساسا مثل مجموع مهيكِلٍ ومهيكَلٍ، بمعنى مثل نظام تزامني للوحدات المعجمية. يتأتى شكل اللغة، من كلية الدلالات، التي تحيل إليها الكلمات باعتبارها رموزا تمثل أفكارا. تؤسس الأصوات مادة اللغة، والجوهر المادي لشكلها. تحيل بالتأكيد، ثنائية الشكل(الدلالة)/والمادة(الصوت)على الثنائية الديكارتية الصوت/المعنى. لكنها ربما أيضا أكثر اقترابا من الثنائية المفهومية الأرسطية للشكل والمضمون. مهما يكن، فالذي يميز في نهاية المطاف مفهوم شكل الخطاب لدى همبولت عن ”الشكل” حسب تصور هاريس، يكمن في محتواه أكثر من أصله:ديناميكية عند الواحد وساكنة لدى الثاني.
بالنسبة لهاريس فالشكل مبدأ نظام، وبناء نسقي، وتنظيم، وتصنيف للعناصر اللسانية، بالتماثل أو التشابه، ثم التعارض أو الاختلاف. ولا يهتم، مثلما أوضح تشومسكي، بـ “ لانهائية تنوع الأفعال اللسانية”. فهذه الأخيرة بمثابة تفعيل للقوة الإبداعية عند الشخص المتكلِّم. سنقارب فيما بعد هذه الإشكالية.
ما أتينا على ذكره بالنسبة لهاريس، لا ينطبق قط سلفا على مواطنه، الشاعر صامويل تايلور كولريدج. لقد وطد هذا المعاصر لغوته، و همبولت وكذا الأخوين شليغل، فصلا جليا بين ”الشكل الميكانيكي “، و ”الشكل العضوي “ (7). يقتضي مفهوم الشكل الميكانيكي حسب كولريدج، الحتمية، والإكراه الخارجي. يعتبر ميكانيكيا كل مبدأ للشكل ينزع بكيفية متكاثرة نحو ترسيخ تركيب محدد قبليا، لن يدرج سلفا بين طياته تلك المميزات التأسيسية والفارقة ضمن معطيات مادة البناء خلال تبلوه الفظ. على النقيض، من ذلك، يعتبر الشكل العضوي فطريا، يتجه تطوره من الداخل إلى الخارج. يتزامن اكتمال هذا التطور ل “ الشكل “ الداخلي مع تكامل الشكل الخارجي. هكذا، يتطابق الشكل الداخلي و السيمياء الخارجية وفق تناغم رائع. عضوية، هي الأشكال الحية والطبيعية، الحياة والطبيعة ثم حياة الطبيعة وكذا طبيعة الحياة.
فيما يخص الآن، شكل اللغة الخاص، فلا يمكنه سوى أن يكون عضويا. تشتغل اللغة، على قوة الفكر الإبداعية، في إطار تعدديته اللانهائية، ضمن نطاق قواعد اللغة النحوية تبعا لحتمية عددها المحدود. لا تتعارض العبقرية المبدعة مع القواعد. بالتالي، لا تكمن في خضم وضعية نزاعية، بل تتجلى حركة جدلية.
تتعالى العبقرية على المعيار، تتجاوزه، رغم أنها فضلا عن ذلك لايمكنها الاستغناء عنه. خاصية العبقرية، من خلال الطاقة الحيوية والمبدعة، اشتغالها تحت سقف إمبراطورية القواعد، والضوابط المنتسبة إلى “ جيلها “ الخاص(الأصل، الإبداع، الخلق). هنا أيضا يكمن إرغام، يبقى عضويا، بمعنى داخليا كليا. هكذا، استمر اندهاش كولريدج أمام معجزة شكل للغة من هذا القبيل، يعكس خلال الوقت نفسه مصدرا ونتيجة لأفعال شخصية مبدعة ومتعددة.
كي ننهي الحديث عن هذه الإشكالية المتعلقة بأصول مفهوم همبولت للشكل، يلزمنا، وقد أشرنا إلى تصور هاريس ل “ الشكل “ وكذا ”الشكل العضوي “ عند كولريدج، الإدلاء أيضا بكلمة عن ”الشكل الأصلي” كما أورده غوته. مفهوم، نحته الأخير في إطار أبحاثه المتعلقة بالعلوم الطبيعية(البيولوجية، علم الحيوان، علم النبات). يشير، من خلاله إلى مايشبه ”نموذجا” لكل الأشكال، الواقعية والممكنة، للطبيعة. إنه الرحم الأصلي، والقالب الأولي، الذي تشتق من تطوره الديناميكي، مختلف الأشكال الطبيعية التي نلتقيها أو يمكننا مصادفتها ذات يوم.
يلزم النموذج المفهومي لـ ”الشكل الأصلي “، بين طيات فكر مبدعه، إتاحته مفتاح تلك المفارقة بين اتساق الطبيعة ثم لانهائية تنوع ظواهرها الخاصة. قضية الوحدة في إطار التعدد. الطبيعة(بالتشديد على الكلمة)جهاز عضوي كبير، بوسعنا تناول قصديته، عبر شكله الأصلي، وفي نفس الوقت نمطه الأولي الأسمى مع آخر تجلياته.
ربما، مثلما أوضح تشومسكي، تقدم لنا فلسفة الطبيعة لدى شلينغ توجيهات إضافية بخصوص فحوى مفهوم غوته. هل وضع همبولت دائما بناءه اللساني على طريقة تصور غوته للشكل الأصلي، ضمن نطاق ضرورة استيعابه باعتباره مبدأً كليا شارحا لحشد من الأنشطة’ ‘اللغوية” الفردية، بمعنى كفاعل ضمني موحِّد لمتواليات كلامية متعددة. لذلك يضمن الشكل الأصلي مبدئيا كليانية النحو ويحدد، بالتالي، البنية المعقولة لكل لغة، سواء كانت طبيعية أو ”اصطناعية”، حية أو ميتة، واقعية أو ممكنة.
مع الأخوين أوغست فيلهلم وفريدريك شليغل، حدث التخلي مؤقتا عن سجال الشكل، رغم أنه فيما يتعلق بمشروع أوغست فيلهلم، فقد شغلت قضية الشكل الميكانيكي والشكل العضوي، موقع الصدارة كما الحال أيضا عند كولريدج.
بالنسبة لتشومسكي، تعتبر أساسا ديكارتية، الكيفية التي ميز بحسبها أوغست شليغل اللغة الإنسانية عن الحيوانية. يعيش الحيوان ضمن سياق حالات، في المقابل، يمضي الإنسان، بين ثنايا عالم(الأشياء). يجهل الحيوان التمييز ذات/ موضوع، نقطة انطلاق التأمل الفلسفي –لاسيما، الكوجيطو الديكارتي- ويحدد إمكانية وعي تأملي بالعالم. الإنسان رهينة لهذا العالم، ويعيش تحت كنفه. لكن، بفضل اللوغوس، سيمتلك هذا الإنسان قدرة التحكم في التدفق الهيراقليطيسي، وكذا التوحيد المفهومي نتيجة عمل اللغة.
تبدو اللغة محض ميكانيكية، بقدر ”حديث” الحيوان- مفترضين إمكانية استثمار دلالة تعبير ”اللغة الحيوانية”- ثم لا تستوجب أي أثر للإبداع الخلاق. أيضا، ينتفي التلفظ بالنسبة لهذه اللغة الحيوانية، الذي يمثل خاصية نوعية للغة الإنسانية، يشْرِف على تقطيع الخطاب إلى عناصر لسانية وتنظيم الأجزاء أو تجزئتها في إطار كلٍّ مترابط ودال.
بغير التلفظ، لا يقوم خطاب معلَّلٍ، بل على الأكثر صرخات عشوائية أو تعابير من نمط المحاكاة الصوتية، تترجم عبر تناغم ينهض على التقليد، بعض الانفعالات الأولية. أيضا، ديكارتيا تعريف فريدريك شليغل للغة، باعتبارها’ ‘جهازا للفكر”، وثانيا كـ ”أداة تواصل”.
تبنى شليغل الخاصية الأخيرة، بحيث شدد من جهته في كتابه “ تاريخ الأدب القديم والجديد”(1812)، على هوية التطورات اللسانية والفكرية. فاللغة بمثابة مرآة الفكر. اللغة والفكر غير منفصلين:بما أن الفكر والكلمة، يشكلان حقيقة واحدة. تتأتى اللغة والفكر، من نفس القوة، الفضاء المشترك للسانيات الديكارتية، بحيث لا يبدو حاليا مجديا، التركيز عليها كثيرا (نتذكر، على سبيل المثال، المبدأ الثاني لبور رويال ! ).
*بعض تيمات فيلهلم فون همبولت:
بعد هذه الجولة الاستعراضية لبعض جوانب السياق التاريخي، سنهتم ضمن إطار المخطط الإجمالي لنظرية همبولت، بإبراز ثلاث خطوط جوهرية ذات طابع ديكارتي أساسا، مع الاعتقاد بأن تلك المعطيات تكفي تمثيليا، ليس فقط بالنسبة للسانيات همبولت، بل-على الأقل المحورين الأولين- ما تعلق باللسانيات الديكارتية عموما.
*شكل اللغة:
أقل ما يمكننا قوله، أن مفهوم الشكل حسب المعطيات الظاهرة، عرف حظا استثنائيا ضمن مسار تاريخ الفكر الغربي، منذ البدايات غاية الآن، من أرسطو إلى ليفي ستراوس. ربما، اندرج اليوم أكثر من ذي قبل، عند طليعة انشغالات العلوم الإنسانية. ألاتمثل البنيوية، حقا “ شكلانية “؟ بالتالي، يجازف السعي نحو وضع تعريف دقيق لمفهوم واسع التداول إلى إثارة مشاكل جدية.
أيضا، تكمن قاعدة منطقية جراء التناسب العكسي بين استيعاب مفهوم ثم تمدده؟ فكلما توسع مجال تطبيقه، بقدر ما تختزل حمولته الدالة والعكس صحيح. إذن “ شكل منطقي، شكل قانوني، شكل سياسي، شكل إيستيتيقي، شكل فلسفي، هكذا تتجلى اللائحة المختصرة للأشكال”. باختصار، هناك ملاحظة أولى تفرض ذاتها: من المتعب بل يمثل مجازفة التطلع نحو إمكانية وضع تحديد لمفهوم الشكل.
يضاف إلى ما سبق، بخصوص الهاجس الذي يشغلنا هنا، سنعاين غالبا بأن مفاهيم همبولت تغمرها بالمعنى الحرفي للكلمة سحابة من الالتباسات. وضع يعقِّد قضية تأويلها. يبدو، في هذا الإطار، بأن مفهوم الشكل اللغوي “ sprachform ”يقدم نموذجا جليا عن تعدد المعاني، أي متعدد الأغراض على مستوى الدلالات والتأويلات.
أكدت صيغة شهيرة، لهمبولت مايلي: “ نقصد بشكل اللغة التقديم النسقي – وإذا أمكن الشامل- لخاصية الفكر الثابتة والمتجانسة في خضم مجهوده كي يجعل من الصوت المتلفظ مؤهلا للتعبير عن الفكر”.
يحدد تعريف الشكل بهذه الكيفية، نوعا من التماثل النسقي بخصوص نشاط الفهم(حيث يركز النشاط كي يجعل من الصوت المفصلي قادرا للتعبير عن الفكر). لنتوقف لحظة عند كلمتي هذا التعريف: “ ثبات(تجانس)و “ ممنهج “. يقتضي شكل اللغة في الوقت نفسه فكرة الثبات، الاستمرارية، التماثل، وكذا فكرة الكليانية والنسق والبنية.
من ناحية، تعني استمرارية الشكل بأن الشكل اللغوي(sprachform)مميز في ثباته ذاته: جميع اللغات متماثلة رغم تعدد أشكالها الظاهرية(النحوية)، في نطاق كونها تعكس نفس ”الشكل اللغوي”، بحيث تجسد مجرد مرايا عدة لذات العمل الذهني كي تمنح الفكر قالبا، وثباتا، وجسدا. أو، بتعابير أخرى، عرض مبدأ كليانية نحو بور رويال.
أيضا، ”النحو التوليدي “ قياسا لمفهوم تشومسكي، شريطة –حسب ملاحظة تشومسكي نفسه- استيعاب معنى “ شكل اللغة “ ك “ امتلاك للمعرفة” بدل كونه ”تمرينا فعليا “ (تحيين بالمعنى الأرسطي)لهذه الأخيرة، بالأحرى الكفاءة أكثر من الإنجاز.
من ناحية أخرى، ولأنه خطاطة عامة وحيدة، تقتضي إذعان كل نحو خاص، يصبح الشكل اللغوي ( sprachform)نسقا كليا، مجموعا نسقيا، كيانا مبنيِناً ومبنيَناً. إنه المظهر ”البنيوي” للتعريف: الشكل باعتباره تزامنية (سانكرونية)، وكذا “ خطاطة مكوِّنة ثابتة”. بالتالي، لا يفاجئ أحدا، تركيز البنيوية المعاصرة على هذا الجانب.
من المهم خاصة اقتفاء خطى التأويل الزاخر براعة، الذي أعطاه تشومسكي للشكل اللغوي. بتعميم، دون السقوط في تقدير استقرائي مبالغ، لبعض حيثيات هذا التأويل، نخلص إلى أن الشكل اللغوي يحوي جل مفاهيم تشومسكي عن الكفاءة، والفطرية والإبداعية ثم النحو التوليدي. مفاهيم تتقاطع جميعا فيما بينها وتنتهي مندمجة داخل المفهوم المتكامل للشكل. إذا كان الأمر كذلك، فبالتأكيد يعود جانب جزئي منه إلى الغموض الإجرائي الجلي لمفهوم همبولت (مثلما أشرنا إلى ذلك سابقا).
بالتالي، وقبل التقييم، نطلب من همبولت تدقيق تعريفه. ذلك، أن مفهوم الشكل اللغوي، قياسا لفكر صاحبه، يتبنى في الوقت نفسه القواعد التركيبية، تلك المرتبطة بتشكيل الكلمات داخل الجملة، ثم القواعد المعجمية، أي تشكل الكلمات؛ ثم القواعد الصوتية، التي تحكم التمييز بين الأصوات، ثم القواعد المنطقية، وهي تحدد مختلف أصناف المفاهيم الجوهرية.
يعكس الشكل اللغوي، باعتباره بناء نسقيا ومنهجية لتشكيل اللغة، تجريدا للتجريد، تمثيلا للتمثيل، مبدأً ثابتا يسمح بتثبيت حركة اللغة اللانهائية. فكرة أفلاطونية تجعل معقولية الواقع ممكنة، لوغوس موحِّد ينظم، و”يعلل” التدفق المتلاشي ل “ الظواهر “ والسديم الأصيل- ماقبل الإسنادي وكذا اللساني- لعالم المظاهر، ذي البعد الوقائعي الحقيقي.
تظهر الوظيفة الإبداعية للشكل في الاستعمال اللامحدود(مكونات الخطاب التركيبية والدلالية) لعدد محدود من الوسائل(الجذور الثابتة للكلمات). “ خاصية القوة التي تحدث هوية الفكر واللغة، تمكينها شكل اللغة كي يخلق بوسائل نهائية استعمالا لانهائيا “. إنه الجانب التركيبي للغة “ الميكانيزمات الثابتة، التي تبلور من خلال تمثيلها المنهجي وإطارها الموحِّد، شكل اللغة، ويلزمها أن تجعل الأخير قادرا على إنتاج مجموع لانهائي من التعابير التي تتطابق مع الشروط التي توجهها عمليات التفكير…، يجب أن تتجسد الخاصية الجوهرية للغة في قدرتها على خلق مجموعة وقائع لسانية لامحدودة وغير متوقعة، بناء على عدد محدود من الميكانيزمات الصريحة “.
مظهر ثان للشكل، أوضحه همبولت، يتمثل في معارضته للجوهر أو المادة. يقوم الشكل كخطاطة جوفاء: تصميم للتلفظ، شبكة مفهومية، قالب صوتي، جدول دلالي، نموذج تركيبي. مبدأ محدّد، ماهيته النفي حسب هيغل. مادة اللغة، بمثابة صوت غير متلفظ به: مجموع مركَّب ومعتم لانطباعات حسية، وانفعالات وحركات للروح، تلتمس التجلي والتبلور خارجيا والإفصاح عن نفسها. إنه محض يقين، ومبدأ يمكن تحديده.
أيضا يتعارض ضمن نطاق مصطلحات همبولت، مفهوما الشكل اللغوي (sprachform) و الخاصية اللغوية(sprachcharakter). الشكل، مثلما قلنا، بناء تركيبيا ودلاليا، بينما ينطبق الطابع(charakter)على مختلف أنواع استعمالات اللغة وأنماطها: مثلا، الطرق التي نعتمدها بين طيات حديثنا اليومي (اللغة الأدبية، اللغة المتداولة، لغة العامة، اللهجة المحلية)أو مختلف الأجناس الأدبية (الشعر، الرواية، المسرح، الملحمة، الفلسفة). باختصار، إنه أسلوب شخص(الإبداعات اللسانية للشاعر العبقري)أو أيضا، عبقرية وطن(الخاصية الوطنية للغة).
سيكون مع ذلك، مجازفة توخي استخلاص مقاربة لشكل اللغة دون التكلم عن جانبه الجوهري باعتباره جهازا عضويا. بالتالي، فالشكل ليس نسقا ميتا، بناء غير متغير كليا، مجموعا جامدا، أو آلية ضمن مدار منغلق. بل على العكس، الشكل منفتح، ديناميكي، تطوري، عضوي، “ توليدي “ (تشومسكي). ها نحن ثانية نجدنا حيال التعارض الرومانسي بين الشكل الميكانيكي والعضوي. اللغة جهاز عضوي حي؛ كل شيء متماسك كما الشأن بالنسبة للمعطى العضوي للكائن الحي:عضو لكل وظيفة، ثم وظيفة لكل عضو. من يقول جهازا عضويا، يتحدث عن توزيع وتنسيق للمهام أو الوظائف (ترابطات، تعارضات)داخل مجموع متجانس، منسجم ومهيكَلٍ. يحُول هذا الجانب العضوي كي نكتفي بتقييم اللغة على أنها مجرد ”كيس من الكلمات”، تآلف متنافر للعناصر، معجم، ثم جرد أو تصنيف لجذور الكلمات، باختصار اللغة مشروع.
*اللغة كمشروع:
تتجاوز اللغة/الطاقة(energeia) بشكل لانهائي اللغة / المشروع(ergon). اللغة نشاط إبداعي عفوي، طاقي. مثلا، تظل لغة الكتابة بمعنى اللغة/الموضوع، نتيجة فقط، وحصيلة فعلية لطاقة اللغة المبدعة. هكذا الانتقال الرئيسي للمدخل(l einleitung)، الذي سعى في إطاره همبولت تحديد نموذج وجود اللغة عبر تعريف ”وراثي”(أو توليدي وفق معنى تشومسكي ): “ حقا، اللغة شيء يحدث على الدوام بل خلال كل لحظة. حتى صيانتها بين طيات الكتابة يظل مجرد صيانة غير مكتملة، متحولة، يلزمها خلال كل لحظة الانبعاث عبر الكلام: “ اللغة ذاتها ليست عملا(ergon)، بل نشاطا طاقيا(energeia). لذلك لن يكون تعريفها الحقيقي سوى توليديا”.
اللغة قوة فردية إبداعية فعالة على الأقل بالنسبة لثلاث وضعيات مميزة:
* التشكل الأصلي للغة؛
*اكتساب الطفل للغة؛
*الاستعمال اليومي للكلام.
لن نلج الإشكالية المتعلقة بكل وضعية من تلك الوضعيات. فيما يتعلق بالنقطة الأولى، التي طرحت أصل اللغة، يعتقد اليوم كثير من المختصين بأن الأمر هنا ببساطة مجرد قضية خاطئة، أو على الأقل ليست لسانية، بل ميتا- لسانية غير ذات هوية محض لسانية، لا تتوافق بالمطلق مع “ موضوعية العلم”(جوزيف فندريس). إنه مشروع وهمي، يستدل متوخيا تفسير طبيعة اللغة بالعودة إلى أصولها التاريخية. إشكالية ”يتعذر حلها “ (أنطونيو توفار) أو ”فرضية ميتافيزيقية”(جورج مونان)؟. هكذا يبدو بأن الباحثين المعاصرين غادروا نهائيا حقل ”الأركيولوجيا” أو ”علم حفريات” اللغة، بينما استمر غاية القرن التاسع عشر، سؤال الأصول هاجسا مركزيا بخصوص دراسة اللغة. إذا تغيرت بعض الإشكاليات تبعا للفترات الزمانية، سنلاحظ في المقابل، بأن أخرى، اقتحمت دون اكتراث حاجز القرون.
نعتقد دائما، بأن مسارا لسانيا يريد في الوقت نفسه أن يكون فلسفيا، يلزمه طرح إشكالية بداية اللغة. لا يحق للفيلسوف التملص من إشكالية الأصل، والنشأة وكذا المرتكزات التاريخية، بدعوى صعوبة توضيحها. بهذا الخصوص، طرح همبولت السؤال، سواء كان صائبا أو خاطئا(8).
فيما يتعلق باكتساب اللغة(النقطة الثانية)، فقد اتخذت بالأحرى القضية، حاليا، منحى سيكولوجيا. وإن كان احتمال ذلك جزئيا.
أما بخصوص النقطة الثالثة، أقصد: الخطاب، الفعل الكلامي المبدع، ثم المعطى اللساني الأولي، الرافض لأيِّ تحكم فيه، صامدا حيال كل محاولة اختزالية، قدر كون موضوع اللسانيات ليس سوى الإبداع ”اللغوي” للذات المتكلِّمة. الحوار المتجلي بشكل أفضل عبر طاقة الكلام الإبداعية. يفترض الحوار، سواء لدى المتكلم(الذات المتكلمة؛الإنتاج التعبير)وعند المخاطَب(المستمع؛التلقي؛الإدراك)وجود وكذا فاعلية نظام ضمني للقواعد التوليدية، بمعنى خطاطات أو نماذج للتمثيل الداخلي. ينصب هذا التصور المفهومي من خلال تصور فطري على الإشارة(الدال)ثم في نفس الوقت المحتوى الدلالي مرتبطا بالعلامة(المعنى).
على أيّ شيء ترتكز معادلة همبولت بخصوص “ النسق الضمني للقواعد التوليدية”، باعتباره ”القوة الداخلية للغة”؟ ثم ما وظيفتها؟ يوضح همبولت: ”لا شيء يعتمل داخل نفسيتنا سوى جراء نشاط ذاتي. الفهم والكلام مجرد تجليات مختلفة لنفس القوة اللسانية. لا شأن للحوار بأيِّ تحويل لمحتوى مكتمل تماما. مادام الأخير يبدعه المستمع والمتكلم، تحت تأثير قوة داخلية نوعية؛وما يتلقاه الأول أساسا تلك الدعوة إلى الكلام، الملازمة لخطاب الثاني “.
سلبية المستمع فقط مظهريا. ليس الحوار تعاقبا زمنيا أو سلسلة مونولوغات؛ بل لوغوس متزامن، إيقاعي، سمفوني: “ يتشكل الفهم، لأن الأفراد ينتهجون ذات حلقات السلسلة الداخلية لتصوراتهم الحسية أو المجردة، بحيث يقرعون نفس زرِّ آلتهم الذهنية؛مما يوقظ لدى كل واحد منهم تصورات متناظرة، وغير متماثلة، وليس نتيجة إدمانهم الفعلي علامات الأشياء، أو قرروا اتفاقا مشتركا قصد إنتاج مفهوم مماثل لذاته على الوجه الأكمل”.
مثلما أشرنا إلى ذلك، يستند جانب كبير من مشروع تشومسكي التحويلي والتوليدي، على فكرة استحضار اللغة انطلاقا من قوتها الإبداعية. لكن، يبدو أن مفهوم تشومسكي بخصوص الكفاءة والإنجاز أكثر خصوبة(ذات مرونة إجرائية كبيرة)من مسلمة ”اللغة الفطرية”، بتعدد أغراضها، الثقيلة والغامضة إلى حد ما. عموما، لا تتطابق تماما ثنائية الكفاءة/الإنجاز مع تصور همبولت، وبعدها، معطى اللغة /الكلام مثلما أرست معالمه اللسانيات المستلهمة لفرديناند دي سوسور.
الكفاءة مفهوم سلبي(حسب مفاهيم هيغل)، يكتسيه طابع الممكن أو المحتمل، يحدد تقريبا جوهر أو ”محتمل “ العبارات التي يمتلكها المتكلم.
الإنجاز إيجابي نتيجة مستوى الفعلية(بالمعنى الأرسطي) يتوخى الدلالة على مجموع التراكيب اللغوية التي تلفظتها فعلا أو – أحدثتها- الذات المتكلِّمة.
بوسعنا القول، بأن النحو التوليدي والتحويلي انطوى على حلٍّ أصلي وأنيق بالنسبة لمفارقة الآنية/التطورية، وفق معنى امتثال الأول للثاني، ثم اللسانيات البنيوية، التصنيفية والتجريبية(مع إجراءاتها القائمة على التجزئة والتصنيف)إلى اللسانيات التاريخية، التحويلية والتوليدية. هكذا، تسمو الخطاطة التأويلية للنحو التوليدي، دون التملص من الأطروحة النقيض، فوق الوضعية النزاعية للاتجاهين من خلال التسليم بأولوية “ السيرورة” على “ النسق “. والحال، هي أولوية، أوضحها قبل ذلك همبولت، بتأكيده على أولوية المقدرة قياسا للغة/المشروع(ergon). يظهر لنا صواب بول ريكور حينما اعتقد بأن: “ تشومسكي يربط مفهومه عن القاعدة التوليدية بتصورات همبولت حول تبعية البنية إلى التشكل”.
*اللغة باعتبارها رؤية إلى العالم
ستظل هذه الرؤية المقتضبة لتصورات همبولت غير تامة إذا أسقطنا من حسابنا أطروحة اللغة ك “ رؤية للعالم”. إذن، انطلاقا من كونها تعبيرا عن الفكر، تعكس اللغة وضعا إيديولوجيا أو فلسفيا معينا بخصوص الحقيقة، مفهوم معين عن العالم يتغير حسب تغير تعبير الفكر(من شخص إلى آخر أو من لغة إلى أخرى). إذا أمكن ديكارت، بور رويال، شليغل وآخرين كثيرين قبل همبولت، ملاحظة علاقة اللغة/المنطق، فإن فرضية اللغة/رؤية العالم (نتيجة طبيعية)تبقى جديدة بالنسبة لإطار اللسانيات الديكارتية.
يعني أولا، تفاعل اللغة/الفكر(لا توجد لغة دون فكر، ولا فكر بغير لغة)ارتكاز الوظيفة الأساسية للغة- أشرنا إلى ذلك سابقا- ليس التعبير أو الكشف عن فكر قائم سلفا تماما، بل الانسياب في قالب أفكار مادة العالم الحسي. تجعل طبيعة اللغة ممكنا الوعي التأملي بالعالم. بيد أنه لا توجد لغة واحدة، مما يدعو إلى القول، ليست اللغات وسيلة قصد إبراز حقيقة معروفة سلفا(تفهم مثلما هي)لكن، أكثر من ذلك، اللغات بمثابة اكتشاف حقيقة غير معلومة سابقا.
لا تترجم فقط تعددية اللغة تعددية الأصوات والعلامات، بل يضاف إلى ذلك، تعددية منظورات العالم، مادامت اللغة، هي الفكر. تتم كل رؤية إلى العالم عبر لغة معينة؛فالأخيرة مرهونة بالأولى. علما بأن اللغة لا تحيل قط مباشرة على الواقع.
يبدو بأن همبولت يدعم فعلا، إلى حد ما، تصور اعتبار اللغة شرطا لإمكانية الواقع، بمعنى الحقيقة كبنية واضحة. الذات تتقدم على الموضوع ويستبق المفهوم مرجعيته. لقد غادرنا الإشكالية الديكارتية، ثم مضينا بيسر نحو المثالية. تعكس كل لغة عالما في ذاته، وجهة نظر خاصة حول حقيقة الشيء، قدر كونها فريدة رغم السمات العامة المشتركة بين جل اللغات.
متجاوران تعدد منظورات العالم(weltanschauung) وكذا طبيعة الكلام (sprachcharakter): يتسمان معا ببعدهما الشخصي والفردي، بينما يظل الشكل اللغوي(sprachform )عاما وشاملا. هكذا تخفي اللغة، ما يلي: باعتبارها كلِّية تنظمها تطورات إدراكية، فقد تأتى لها التموقع بين الإنسان والعالم، ثم الذات والموضوع. بالتالي، تُطرح قضية إبستمولوجية: تلك المتعلقة بشروط صحة المعرفة، وميتالغة أو تلك الأبجديات العامة للأفكار. قضية كبيرة لا نعمل في هذا المقام سوى التلميح إلى بعض وجودها.
إذا وجب تصديق تشومسكي، لا تمثل فقط الفرضية الأصلية للرؤى الكونية، تجاوزا لإطار اللسانيات الديكارتية، لكنها تقطع جذريا مع إرشاد الديكارتيين بالإحالة على رؤية للغة رومانسية أساسا. خلافا، لمثالية ”الإنسان المستقيم” الكلاسيكية على مستوى التعميم والموضوعية، يعتبر الفكر الرومانسي تمركزا على الذات، بل أنانية: ينهض على الاختلاف، الذاتي، عبادة الذات، السمات المميزة، الفرد، الوطن، يعني على كل معطيات التباين: “ حينما عزا همبولت– أمر بديهي- دورا من هذا القبيل إلى اللغة في إطار العمليات الذهنية التي تحدد اللغات الفردية(بمعنى تعيِّن كل لغة ”عالما مفهوميا”ووجهة نظر وحيدة من نوعها)فقد ابتعد بطريقة جذرية عن سياق اللسانيات الديكارتية قصد تبنيه تماما منظورا رومانسيا “.
بخصوص هذه النقطة، يبدو أن تشومسكي لم يقتف خطى همبولت، بحيث بقي متحفظا ومترددا. فهل يلزم القول بعدم ضرورة تصنيف صاحب كتاب اللسانيات الديكارتية ضمن من أشار إليهم أندري مارتني: “ الذين يعتبرون بأن البنية اللسانية التي يتلقاها الفرد من محيطه تعتبر أساسا مسؤولة عن الطريقة التي ينتظم وفقها مفهومه للعالم “. يظهر، بأن الجواب سيكون بالإيجاب في نظر ”البنية العميقة “ وكذا ”فطرية “ اللغة.
علاوة على ذلك، يجدر بنا ملاحظة كيف اشتغل بتنوع ضمن إطار الدراسات المعاصرة، هذا الإلحاح حول الارتباط بين البنيات اللسانية والحقائق غير اللسانية. تبقى بعض الأصداء ملائمة لهذه الفرضية. يضيف مارتني: “ نرصد، إلى أيِّ درجة تحدد اللغة التي نتكلمها رؤية كل واحد منا عن العالم “. ثم، يوضح فون فارتبورغ، من جهته قائلا: ”حين الحديث بكيفية انتقائية عن أتباع همبولت الجدد، فاللغة تعكس التعبير عن الشكل الذي وفقه يرى الشخص العالم بل ويطويه داخله “.
بجانب إدوارد سابير وكذا مدرسة همبولت الجديدة، نصادف بالتأكيد اللساني الأمريكي بنيامين لي وورف، الذي جعل بشكل أكثر أصالة، فرضية همبولت عن ”ميتافيزيقا خفية” للغة، ممتدة غاية حقبتنا المعاصرة. حسب وورف، لا يكتفي النظام اللساني لأيِّ لغة عند مستوى إعادة إبداع الأفكار، والتعبير عنها؛ بل صياغتها بكيفية نوعية.
تقدم كل لغة طبيعية ”تقطيعا” أصليا بخصوص التجربة التي نعيشها: إنها تهيكل الواقع إلى مناطق لسانية توافق شبكات مفهومية(مادامت – هل ينبغي التذكير بذلك؟- تكمن بواكير أطروحة رؤية العالم في تلك المتعلقة بالهوية بين اللغة والفكر). إذن، إضافة إلى أن لغات الأمومة ”تفحص” حرفيا مرجعها(العالم غير اللساني، الواقع، معطى التجربة)، فإنها تميز ضمنه بين مستويات أو مناطق وجود لا تتطابق بالضرورة ولا بشكل عام من لغة إلى أخرى.
تستثمر اللغة الوجود وتمنحه معنى، وبحسب تعبير هيدغر الشهير: ”اللغة مسكن الوجود”.
*خلاصة:
في النهاية نحب أن نخلص بسرعة صوب إبراز الميزتين الأساسيتين للسانيات تشومسكي الديكارتية:
من وجهة نظر تعاقبية أو تطورية، اتجه مسعى تشومسكي وجهة بعث وكذا رد الاعتبار لمبحث مهم بالنسبة لتاريخ نظريات اللغة: هناك تجاهل للسانيات الديكارتية، أو عانت الأخيرة إهمالا مجحفا. لذلك سيوضح انطلاقا من المرجعية الديكارتية، بأن اللسانيات لم تولد خلال القرن التاسع عشر مع أعمال فرانز بوب Bopp، بحيث سبق جزء كبير من أطروحات وكذا خلاصات اللسانيات الديكارتية، حقبة بوب أو القرن التاسع عشر. ثم اكتسبت تميزا خاصا جدا خلال حقبتنا الحالية، في خضم عودة إلى اللسانيات العامة.
على أيِّ شيء ترتكز، من وجهة نظر آنية، الحمولة الأصلية للسانيات الديكارتية(منذ أصولها الديكارتية غاية تشومسكي) فلا يمكن الارتياب بخصوص القاسم المشترك المتمثل في ما يسمى بإبداعية اللغة. إبداعية شكلت ولازالت تشكل سلعة رخيصة عند اللسانيين البنيويين والتجريبيين.
كنا في حاجة إلى سلطة تشومسكي، من أجل انتقاد هذه الحقائق الأولى، بمعنى من جهة، تعتبر اللغة نظاما تواصليا ونسقا تمثيليا، تنتج وتعيد إنتاج تعبير الأفكار، ثم من جهة ثانية، فالكلام لا يتصور دون إعادة تحيين أو اكتشاف جديد دائم لعناصر النسق اللغوي.
هوامش المقالة:
*Josef Voss: Chomsky et la linguistique cartésienne ; Revue Philosophique de Louvain ; Année 1973. pp. 512-538
1-العملان الرئيسان لنعوم تشومسكي هما:
Syntactic Structures(1957) ;Aspect of the theory of syntaxe(1965).
2-سنعتمد تحديدا طيلة هذه المقالة كسند مرجعي على كتاب تشومسكي:”Cartesian Linguistics ”(1966).
3- “ جل السابق عن القرن التاسع عشر، ولم يندرج بعد ضمن اللسانيات، ربما تم التطرق إليه في بعض السطور”.
4 –التعبير ل جورج مونان في كتابه تاريخ اللسانيات.
5 –تتعلق الأولى بالتنظيم الصوتي والتركيبي للجملة، بينما الثانية، في حين تهم الثانية بناءها المنطقي والدلالي: “ يتحدد المحتوى الدلالي بناء على الجوهر البنيوي المجرد “. يعتبر حاسما التمييز بين بنية سطحية وعميقة في إطار النحو العام التحويلي؛إنه ضروري قياسا للاقتصاد العام لمشروع تشومسكي، بل ربما بالنسبة للوضعية الشاملة للسانيات الحالية. مثلما أشار إدي روليت، فإنها تمكن من المواءمة وفق تآلف جريء قدر أناقته بين مكتسبات النحو التقليدي مع إسهامات النحو البنيوي. حينما تطرح وفق مفاهيم فون همبولت، تكمن الإشكالية بالنسبة لتشومسكي في إدراك العملية اللسانية والتي بواسطتها تستطيع الذات المتكلِّمة، إنتاج عدد من الجمل غير محدد نظريا، بناء على عدد محدود من العناصر الجوهرية للغة باعتبارها بنية. هذا ليس ممكنا إلا شريطة الإقرار، في عمق البنية اللسانية، بفعل’ ‘نظام من القواعد الجلية التي تسمح بتوليد مختلف الجمل النحوية للغة “ (روليت).
(6) نشير بهذا الخصوص أن سوسير في كتابه: ”دروس في اللسانيات العامة “، تحدث بوجهة نظر إيجابية’ ‘لاتشوبها بالمطلق شائبة”، عن نحو بور رويال.
(7) ليس كولريدج وحده من أقام هذا التمييز، بل بلورته أيضا كتابات أوغست فلهلم شليغل. يتعلق الأمر فعليا، بلازمة حاضرة كليا، تشغل الأدب بأكمله- الرومانسي وغيره- خلال تلك الحقبة مع هاريس و ليسينغ، غاية كولريدج وغوته، مرورا بفينكلمان، همان، كانط، شيلر، شيلينغ، شليغل، هيغل، همبولت.
(8) نقر بلا جدوى التقييم الصارم لجورج مونان (تاريخ اللسانيات)في حق شخصية همبولت بحيث: ”توارى تأثيره الكبير…بعد موته(ص 188)، ويستمر الاستحقاق الوحيد في نظر المؤرخ، حسب مايبدو، كونه أبان عن نبوغ جعله ”محركا للأفكار العامة”(ص 187) و”رائدا عظيما، نذكر اسمه ونمتدحه، لكننا لا نرتاد إليه قط”(ص 188). نقد جائر، بحسبنا لأنه يتجاهل أو يخفي تجاهله لإحدى التطورات الفكرية البارزة التي تحققت خلال النصف الثاني من القرن العشرين: العودة إلى اللسانيات العامة، لكن بشكل خاص، استعادة لراهن نظريات همبولت بفضل اقتران صنيع تشومسكي، بنيامين وورف وكذا أتباع همبولت الجدد.