كيف نعالج إشكالية الأميّة الأكاديمية والثقافية في جامعاتنا العربية؟

   ما زلت أومن بل ربما أكثر من أي وقت مضي بأن مشكلة الأمية في الوطن العربي تعوق مسارات التنمية المختلفة (الاجتماعية – الاقتصادية – البيئية)، وأن نسبة الأمية في العالم العربي بلغت الآن نحو 21 %، وقد تزداد مستقبلًا بسبب عدم الاستقرار السياسي في بعض الدول العربية؛ مما يؤثر في نسب التحاق الأطفال بالتعليم النظامي، وزيادة الفجوة بين الجنسين، ويزداد تهميش المرأة ، وخاصة في المناطق الأكثر احتياجًا، كما أن جائحة كورونا بتداعياتها وتأثيراتها على تعطيل الدراسة لفترات طويلة تهدد بفقد المهارات التي اكتسبها الدارسون الكبار؛ فيزداد الهدر والفقد التربوي.. علاوة علي غياب التنسيق بين الجامعات العربية للقضاء على الأمية بأنواعها المختلفة المتزايدة، لافتًا إلى ضياع دور مؤسسات المجتمع المدني، التي ليس لها أهداف ونتائج ملموسة في مجتمعاتنا مما تسبب في تزايد خطر الأمية.

    ولذلك لابد من القضاء على هذه الأمية بأنواعها، من خلال تسليط الضوء على أخطار الأمية في جامعاتنا العربية، ووضعها كهدف قومي لا يجب التراجع عنه ؛ حيث تتعالى الأصوات في هذا الوقت ؛ وبالذات في ظل استفحال جائحة كورونا للقضاء على الأمية في العالم العربي، ليتفاجأ الجميع بوجود أنواع أخرى من أخطار الأمية، وهي “الأمية الحضارية”، وضياع الهوية الثقافية والأدبية للأمة العربية بضياع اللغة العربية التي أصبحت غريبة عنا.

  إن تفشي الأميةُ الثقافيةُ والأكاديميةُ بين أعضاء هيئات التدريس في الجامعات العربية يمثل شكلا مخيفا، فقلّما ترى من يلاحق ما هو جديدٌ في تخصّصه الأكاديمي، وأقل منه من يهتم بمواكبة الإنتاج الفكري بالعربية، فضلًا عن غيرِها من اللغات، أو يتعرّف على الأعمال الجادّة في مختلف الحقول.

   فمنصاتُ التواصل الحديثة وتطبيقاتُها المتعدّدةُ والمتنوعةُ كما يخبرنا (د. عبدالجبار الرفاعي) تجاوزت دورَ الكتاب التقليدي في التربية والتعليم والتكوين المعرفي، وتغلّبت على مركزيته في البناء الثقافي. غير أن كثيرًا من التدريسيين من الجيل القديم لا يحضر على منصات التواصل الحديثة، ولا يعرف شيئًا عن معظم تطبيقاتها، وإن حضرَ لا يتخطّى حضورُه الإسهامَ في العلاقات العامة والمناسبات الاجتماعية، ونادرًا ما نعثر على مشاركات نوعية لتدريسيين تعكس ثقافتَهم وتكوينَهم الأكاديمي.

     كما يجهل أغلبُ التدريسيين من الجيل القديم الابتكاراتِ المدهشة للذكاء الاصطناعي، وما يعدُ به من مكاسب عظمى، تتغيرُ بتأثيرها أنماطُ العمل والانتاج والتسويق، وتختفي مهنٌ مختلفة وتحل محلها مهنٌ بديلة، ويحدث كما يقول د. عبدالجبار الرفاعي :”تحولٌ نوعي في وسائل تلقي العلوم والمعارف والثقافة، وتتبدل طرائقُ التدريس ووسائلُ وأساليبُ التعليم، ويطال التغييرُ مختلف مجالات الحياة، فـ “عندما نتحدث عن حضور الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليوميّة، فنحن عمليًّا نتحدث عن كل شيء. يشمل ذلك ظهور كومبيوتر قادر على قراءة وثائق مكتوبة بخط اليد، وروبوت يُجري بنفسه عمليات جراحيّة معقدّة وبصورة مستقلة عن التدخّل البشري، وصُنع قاعدة بيانات مكثّفة تتضمن الصفات والسلوكيّات والسجايا الشخصيّة لكل فرد منا، استنادًا إلى كل ما نقرأه أو نكتبه على الإنترنت… ومع التعمّق في تحسين أداء الذكاء الاصطناعي، ينكشف أمام أعيننا أنه لن يكتفي بمجرد الحلول بدلًا من البشر، بل يستطيع التفكيرَ بطرق يعجز الإنسان عنها. ثمة خوارزميات متطوّرة تستطيع التعامل مع كميّات هائلة من المعلومات، وتتوصّل إلى استنتاج الأنماط الموجودة فيها، ما يجعلها (= الخوارزميات) على أهبة الاستعداد لتغيير المجتمع” .

     ومن ثم لا بد من تفعيل دور الجامعات العربية للقضاء على الأمية في المجتمع المدني، ووضع شروط الالتحاق في الوظائف العامة منها تعليم بعض الأفراد القراءة والكتابة بصورة فعلية، والاهتمام بالدراسات الجاد الفعلية التي تهتم بدراسة واقع الأمية بأنواعها المختلفة.

 والسؤال المهم كيف يتم هذا التفعيل  للقضاء على الأمية؟

  في اعتقادي يكون التفعيل  للقضاء على الأمية من خلال وضع صناديق مالية خاصة لمواجهة أخطار الأمية، وتسليط الإعلام لمواجهته بأنواعه المختلفة، وكذا الاهتمام بالتراث الحضاري، وخصوصًا الاهتمام باللغة العربية.. كما يجب وضع برامج إعلامية هادفة لتمكن المثقفين وذوي الكفاءات لمواجهة الأمية الحضارية، وتقديم الحوافز المادية والمعنوية.

  ونظمت الهيئة العامة لتعليم الكبار، في السابع من يناير الماضي (2021 )، احتفالية أونلاين، بمناسبة اليوم العربي لمحو الأمية شاركت فيها جامعة الدول العربية (إدارة التربية والبحث العلمي، وأعضاء من اللجنة التنسيقية العليا للعقد العربي لمحو الأمية وتعليم الكبار).

  وقد توصلت هذه الهيئة إلي أن الأمية في جامعتنا العربية بأجلي تمظهراتها اليوم تعني الجهلَ بالذكاء الاصطناعي وما ينجزه اليوم ويعد به غدًا، والجهلَ بتوظيفِ منصات التواصل وتطبيقاتها المتنوعة، والعجز عن الإفادةِ من ذلك في التكوين المعرفي والثقافي، وعدم استثماره في التنمية العلمية والأكاديمية، والغفلة عن أن مصادرَ المعرفة وطرائقَ تلقيها لم تعد كما كانت أمس، ولا أساليب التعليم هي ذاتها. منصاتُ التواصل وتطبيقاتها المتنوعة كسرت احتكارَ الكتاب الورقي، وكلَّ الطرق التقليدية للتكوين المعرفي والثقافي، وتغلبت على وسائل تداولها ونشرها المتعارفة، بل أضحت موازيةً لعملية التكوين الأكاديمي في الجامعات المتوارثة منذ ما يزيد على تسعة قرون ، وأراها ستتفوق عليها بعد مدة ليست بعيدة.

     وقد ابتكر الذكاءُ الاصطناعي ومنصاتُ التواصل وتطبيقاتُها المتنوعة طرائقَ تدريس بديلةً تعبّر عن هوية عالَمها الوجودية، فصارت من خلالها أدقُّ المباحث وأشدُّها تعقيدًا واضحةً تُفهَم بيسر وسهولة، بأساليب بصرية وسمعية ليست رتيبة أو مملة. أزاحت الأساليبُ الجديدةُ طرائقَ تدريس ميكانيكية توارثتها عدةُ أجيال، وأقعدت معلمين متمرسين فيها عن مهنتهم، لأنها لم تعد مستساغةً للجيل الجديد.

    ولذلك أناشد رؤساء الجامعات العربية من مشرقها إلي مغربها بأنه لا بد من ضرورة تدريب السادة أعضاء هيئة التدريس علي التحول الرقمي واستخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لرفع كفاءتهم المهنية، وذلك  من خلال تدريبهم علي استخدام التكنولوجيا فى التعلم والمناهج الجديدة في المواد الدراسية التخصصية للوصول بأعضاء هيئة التدريس إلى أعلى مستوى من الجودة المهنية والكفاءة حتى يصبحوا قادرا بشكل كبير على العطاء داخل جامعاتهم سواء كانت حكومية أم خاصة.

  وحسبنا هنا ، بعض أولئك الحاصلين علي شهادات الدكتوراه ، والذين تكاد تقتصر معلوماتهم علي مجال تخصصهم ، أو في نطاق عملهم الروتيني اليومي فقط ، ولا تخرج عن ذلك إلي رحاب المجالات التربوية والتعليمية والمعرفية والثقافية الأخري ، مع الإشارة إلي أن التحصيل المعرفي الذي نقصده لا يعني الإتقان أو الإلمام بمختلف المعارف أو الإحاطة بتفاصيلها ، وإنما القدرة علي تثقيف الذات في العديد من المواضيع التي تجعل عضو هيئة التدريس شخصاً مثقفاً وواعياً من خلال الاطلاع والقراءة  المستمرة ، ليس في فقط في مجال العمل والتخصص الذي يمارسه ، وإنما الاطلاع علي المواضيع المختلفة والتي تساعده علي تطوير ذاته ، وتهذيب نفسه والوعي بالواقع المحيط به ليكون قادرا علي تحديات الحياة ومصاعبها.

  علي أية حال ومهما اختلفت الآراء حول حدود الأمية التربوية والتعليمية والثقافية ، فإنه من غير المبالغ فيه بأهمية التحصيل الثقافي والمعرفي الذي يتم تحصيله عن طريف قراءة الكتب ، واستخدام كل أدوات تكنولوجيا العصر وكلاهما يمثلان الوسيلة التي تفتح للأستاذ الجامعي آفاق جديدة لاكتساب العلوم والأفكار والمعارف ، وتساهم في تطوير مهاراتهم وقدراتهم .. أما العزوف عن ذلك من خلال الاكتفاء بما تم تحصيله عن طريق التعليم الأكاديمي، أو الاكتفاء بمتابعة الإعلام المرئي ، ومتابعة الإعلام الجديد ، ووسائط التواصل الاجتماعي ، أو الاقتصار علي قراءة رسائل الواتساب ومشاهدة الأفلام التلفزيونية والمسلسلات ، فلن تكون بأجمعها بديلاً عن المعرفة القراءة والمعرفة التكنولوجية التطبيقية ذات القيمة النوعية والمعتبرة ، والتي تقود غلي النهوض والرقي والتطور والمساهمة في إنتاج وتكوين العلماء، والمبدعين، والمفكرين، والمثقفين، والأدباء.

مقالات أخرى

الفروق الثقافية في التعليم:

قراءة معرفيّة في سوسيولوجيا التّجربة المدرسيّة:

سيميائية التحول الجندري في الرواية التّونسية  بين البحث عن الهوية وتخريبها:

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد