هكذا  تكلم  زرادشت” .. كتاب لا ينساه التاريخ!

    كان فريدريك ويلهلم نيتشه : Friedrich Nietzsche ‏ (15 أكتوبر 1844 – 25 أغسطس 1900) شاعراً ، وموسيقاراُ، وناقداً اجتماعياً، وعالماً لغوياً، وكاتباً رمزياً، وعالم نفس، وفيلسوفاً ، ومربياً . يقول عنه رايت Wright  : هو شاعر ، وموسيقار، وكاتب مقال ، ولغوي كلاسيكي ، وفيلسوف ” (1) ؛ ويقول عنه عبد الوهاب المسيري : فيلسوف علماني عدمي ألماني ، أول من عبر بشكل منهجي وصريح عن النزعة التفكيكية في المشروع التحديثي والاستناري الغربي الذي يدور في إطار العقلانية المادية ” (2).

   ويعد كتابه ” هكذا تكلم زرادشت (1905) أعظم ما كتب من وجهة النظر الفلسفية والأدبية والتربوية. ففي هذا الكتاب يعرض نيتشه فلسفته في رمزية غامضة تتحدي القارئ ، أن يبلغ إلي تفسيرها أو يقدر مبلغ الحق  فيها، ويقدم هدفه التربوي الذي يتمثل في الإنسان الأعلي ، ويضع ملامح برنامج تربوي يعين  علي  تحقيق هذا الهدف . ولا تقل أعماله الأخري إثارة ، وإن كانت أكثر انفتاحاً للفهم . يقول محمد المسير : ” يعتبر كتاب ” هكذا تكلم زرادشت” إنجيل فلسفة نيتشه .. رغم غموضه ، ورمزيته ، واستطراد حواره، وتعقيد مواقفه) (3) ، وقد عرف نيتشه نفسه أهمية كتابه فقال :” إن هذا الكتاب درة وحيدة يعجز عن الإتيان بمثله الشعراء ، ولا شئ يساويه في سحر ألفاظه ، وعمق أفكاره، ولو جمعنا كل ما شاهده العالم من خير وروح في أعاظم الرجال ، لما استطاعوا جميعهم أن يأتوا بحديث واحد من أحاديث زرداشت” (4).

  لم يكن نيتشه فيلسوفاً مذهبياً ، بل كره المذهبية ، والاتساق والنظام ، فاشتملت كتاباته علي أنصاف حقائق أو أنصاف أخطاء ، غير أنه كان أكثر إثارة من معظم الفلاسفة المذهبيين ، ولا يكاد يقرأ أحد أعماله دون أن يفكر فيها تفكيراً عميقاً . ويذهب يسري إبراهيم إلي أن نيتشه كره الأنساق الفلسفية ” لعنايتها بالترابط المنطقي وإغفالها للواقع . فالواقع مراوغ وفوضوي ، ولا يناسب أي نسق ” . ولعل هذا ما يفسر موقف نيتشه من النزعة العقلية الغالبة علي الفلسفات التقليدية التي حاولت جعل الحقيقة كلها في متناول الإنسان .

   ولم يقدم نيتشه بناء فلسفياً شامخاً ، بل قدم أفكاراً متناثرة ، وحكماً مبعثرة، وقصائد شعرية، وأحاديث رمزية ،تفتقر إلي النظام وتوهن بالتناقض ، ولا يكاد القارئ يدرك الارتباط بينها إلا بإعمال العقل ، وكد الذهن، والقراءة المتأنية لكل أعماله . يقول يسري إبراهيم : ” إنه ( يريد نيتشه ) يقدم مجموعة من الأفكار تترابط فيما بينها .. ولكن القالب أو الإطار الذي تتبدي فيه هذه الأفكار يفتقر إلي النظام ، وتدب فيه الفوضي ” (5) . وترجع صعوبة قراءة نيتشه إلي تناقض عباراته ، فكل فكره من أفكاره لها ما يناقضها في بعض أعماله ، وإلي طريقة استخدامه للكلمات ، فهو يستخدم الكلمة في سياق لتشير إلي معني غير المعني الذي تشير إليه خارج السياق ؛ وإلي تعمده الغموض ، فهو لا يكتب للقارئ العادي ، بل إلي فئة خاصة يناديهم في كتاباته ، يقول برتراندرسل : كان نيتشه ” مغرماً بالتعبير عن نفسه علي نحو متناقض وصدم القراء التقليديين”  (6)، ويقول نيتشه : ” من يكتب  بدمه يريد  قراء مجتهدين .. إنني أكره كسالي القراء .. إن أقصر طريق في الجبال هو الطريق الذي يمتد بين القمم ، ولكن من يجتاز هذا الطريق يجب أن يكون طويل السيقان . والحكم يجب أن تكون قمماً ، وتخاطب الكبار والطوال ” . ومعني ذلك أنه لم يكتب لكل الناس ، وإنما للخاصة . ويمكن التغلب علي مشكلات التعبير عند نيتشه بالمقارنة النقدية للعبارات وثيقة الصلة بأي موضوع يتناوله (7).

  ولقد أحدث نيتشه ثورات عظيمة في مجال الفكرالإنساني ؛ وبخاصة في الدين والأخلاق ، والفلسفة ، والسياسة والاجتماع ، والتربية ، وبشر بثقافة جديدة وإنسان جديد . لقد أدرك  نيتشه تضاؤل اهتمام معظم الغربيين بالمسيحية فأعلن موت الرب ، وكان موت الرب حدثاً لا حظه في ثقافة القرن التاسع عشر ، حيث ضاقت مكانة الرب فاختفي شيئاً فشيئاً من حياة الناس ، وبخاصة بعد الثورة الفرنسية ، والثورات العلمية والصناعية ، ثمر فكر في النتائج الدينية والخلقية والفلسفية التي ترتبت علي هذا الحدث الجلل . إن موت الرب كان موتاً للآخرة ، وإلغاء للإيمان بعالم آخر ، وإنكار للازدواجية الثقافية ، وأنكر نيتشه الأخلاق القائمة علي أساس الدين أو العقل لأنها تبخس قيمة الهنا ، وترفع قيمة الهناك ، ودعا إلي أخلاق تقوم علي أساس الحياة والطبيعة الإنسانية فالحياة في رأيه قوة ، والطبيعة الإنسانية تسعي إلي القوة ، وأطلق عليه كامل عويضة  نبي  فلسفة القوة ، وهو العنوان الفرعي لكتابه ” فريدريك نيتشه : ” نبي فلسفة القوة” (8) ، وقسم نيتشه الأخلاق إلي نوعين : أخلاق السادة وأخلاق العبيد قائلاً بصراحة :” هناك أخلاق للسادة وأخلاق للعبيد ، وأسارع إلي إضافة أن النظر في الحضارات الراقية والهجينة كلها ، يظهر حيناً محاولات تسوية ، بين نمطي الأخلاق هذين ، ويظهر غالباً خلطاُ بينهما ، وحتي في الإنسان عينه وداخل النفس الواحدة . وقد تولد التمييز بين القيم الأخلاقية ، إما من صلب جنس غالب ، أدرك بالتذاذ امتيازه عن الجنس المغلوب ، وإما من صلب المغلوبين العبيد والأتباع علي مختلف الدرجات (9).

      فما قصة كتاب ” هكذا تكلم زرادشت؟ .. وما ظروف تأليفه؟ .. ولماذا أدرجناه من ضمن الكتب التي لا تُتنسي؟

   الكتاب له ترجمتان : الترجمة الأولي صدرت عن منشورات المكتبة الأهلية – بيروت سنة 1938 .. عدد الصفحات 378 صفحة من القطع الكبير .. والطبعة الثانية … وهذه الترجمة نقلت عن اللغة الفرنسية من خلال فليكس فارس بلغة أدبية رصينة ، تحت عنوان ” هكذا تكلم زرادشت  كتاب للكل ولا أحد” ؛ بينما كان هناك ترجمة عن الألمانية مباشرة لعلي مصباح في عام 2003 ، ولكن لغته في الترجمة جافة، تحت عنوان ” هكذا تكلم زرادشت  كتاب للجميع ولغير أحد”.

   وعندما صدرت ترجمة فليكس فارس، تم إعادة نشرها من خلال طبعتين الأولي كانت من خلال مكتبة هنداوي عام 2010  ، وهناك طبعة أخري جديدة صدرت عن المركز القومي للترجمة عام 2014، وفي هذه الطبعة قام الأستاذ مجاهد عبد المنعم مجاهد بتصدير له؛ وقال مجاهد في تصديره: إن مترجم الكتاب راعى أسلوب نيتشه فى التعبير الذى يأتي على شكل ومضة، وأحيانا على شكل جملة ليس لها فعل، أو فاعل، مؤكدا على أن عبارات نيتشه حافلة بالمعنى العميق، ومؤكدا على أن المترجم أبرز فى مقدمته أن نيتشه يريد خلق الإنسان المتفوق جبارا كشمشون وشاعرا كداود وحكيما كسليمان، كذلك اهتم المترجم بالإشارة إلى أن محور الدائرة في فلسفة نيتشه إيجاد إنسان يتفوق على الإنسانية، ومن ذلك عبارته “إنني لم أجد المرأة التي تصلح أما لأبنائي إلا المرأة التى أحبها” مشيرا إلى أن هذه العبارة من أعظم ما كتبه الفيلسوف الألماني (10)؛ أما فليكس فارس، فيشير في تمهيد الكتاب إلى أن “زرادشت”، صدم تيارات الفلسفات المتناقضة منذ نصف قرن فى أوروبا، موجها الإنسان إلى تلمس مواطن القوة فى نفسه (11).

  ثم قام الأستاذ ” علي مصباح بترجمته عن الألمانية كما ذكرنا في طبعته الأولي في عام 2007 ؛ وذلك ضمن منشورات الجمل ، كولونيا (ألمانيا) – بغداد ، وقال علي مصباح في مقدمة الكتاب : ” لعل الصعوبة الكبري التي يلاقيها مترجم ” هكذا تكلم زرداشت ” تكمن في ذلك التفرد اللغوي الذي جاء عليه . ويتمثل هذا التفرد في أن نيتشه يكتب هنا لغتين متلاحمتين مندمجتين داخل لغة واحدة :اغة الأناجيل من جهة ، وهو اختيار واع لأنه كان يضع نصب عينيه آنذاك غاية محددة من وراء هذا الكتاب الدي حوصل فيه وجمع كل أفكاره الفلسفية التي وردت في كتاباته الأخري ، في شكل أدبي مكثف أراد أن يجعل منه ” انجيلاً” جديداً أو “خامساً” ، أو انجيلاً معاكساً . وبكلمة واحدة ، نقض للأناجيل في كتاب يتكلم لغة الأناجيل (12).

   ومن خلال الترجمتين نجد أن كتاب “هكذا تكلم زرادشت” لنيتشه يمثل رواية فلسفية للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، تتألف من أربعة أجزاء صدرت بين 1883 و1885. تتكون من سلسلة من المقالات والخطب تسلط الضوء على تأملات زرادشت، وهي شخصية مستوحاة من مؤسس الديانة الزرادشتية.

   وقد صاغ نيتشه أفكاره الفلسفية في قالب ملحمي وبلغة شعرية، وقدم في كتابه مقاربة للفضائل الإنسانية كما يراها إلا أنه أخذ عليه تمجيده للقوة ؛ حيث يعد نيتشه من أوائل من صاغوا نظرية الرجل الخارق.

   والواقع أن نيتشه في هذا الكتاب كان شاعراً أكثر منه فيلسوفاً، إذ قال عنه الأديب الألماني الكبير “توماس مان” بأنه ” أفضل ما كتب باللغة الالمانية”. كما قال عنه نيتشه نفسه ” لقد أوصلت اللغة الألمانية إلى ذروة كمالها”. وفي هذا الكتاب كسر نيتشه جميع الحواجز التي وقفت أمامه، وحطم الإيمان بالحقيقة المطلقة، والقيم الانسانية. ومما قاله: ” ليس هناك وجود مطلق، وإنما وجود يتكون، وليس هناك تجديد لا نهائي، وإنما عودة ابدية، مثل الساعة الرملية الأبدية للوجود التي تعيد دورتها باستمرار، ولا يحتاج الإنسان فيه إلى شعور رقيق، لأن كل المبدعين يجب أن يكونوا أقوياء الإرادة (13).

   وقد ظهرت في هذا الكتاب أول إشارة للنظرية النيتشاويه التكرار الأبدي؛ حيث لخَّص «نيتشه» أفكاره الفلسفية في كتابه: “هكذا تكلم زرادشت” الذي قال عنه إنه “دهليز فلسفته”. ويعد هذا الكتاب بحقٍ علامة من علامات الفلسفة الألمانية، فعلى الرغم من مرور أكثر من مائة عام على تأليفه، إلا أنه لازالت لأفكاره صدًى كبير؛ لدرجة أن البعض يعدُّه من أعظم مائة كتاب في تاريخ البشرية. وقد أثرت أفكار هذا الكتاب في مجالات إنسانية عدة كالحرب، والسياسة، والفن؛ فعلى سبيل المثال: كان بعض الجنود في الحرب العالمية الأولى يضعونه في حقائبهم، ويرى أستاذنا الدكتور “حامد طاهر”، أن أفكاره عن “الإنسان المتفوِّق” مثَّلت الأساس الذي قامت عليه الأيديولوجيا النازيَّة فأشعلت الحرب العالمية الثانية. كذلك امتد أثر هذا الكتاب إلى الأعمال الفنيَّة، فكان من أبرزها مقطوعة الموسيقار “ريتشارد شتراوس” التي حملت نفس اسم الكتاب، وفيلم “أوديسة الفضاء” ﻟ “ستانلي كوبريك” (14).

   ويمثل الكتاب أحد أهم كتب الفيلسوف الألماني نيتشه، وأكثر الكتب إثارة للجدل، إذ حرص نيتشه (1844 – 1900) أن يناقش فيه قضايا فلسفية، فى قالب ملحمي، وصاغ فيه ” الفضائل الإنسانية، كما يراها معبراً عن فكرة الإنسان الخارق أو السوبرمان” (15).

    إن كتاب “هكذا تكلم زرادشت” هو رواية فلسفية كما قلنا، قسمها نيتشه إلي أربعة أجزاء وجعلها أقرب إلي رواية ملحمة ولكن بأسلوب شعري .. يتمحور الكتاب حول شخصية حقيقية وهو ” الفيلسوف الإيراني زرادشت الذي ولد وعاش في مناطق أذربيجان حوالي 650 ق.م. وأسس الديانة الزرادشتية وقد ظلت تعاليمه وأفكاره منتشرة في المنطقة حتي وصول الإسلام إليها” (16).

   كان الكتّاب بمعظم أفكاره موجهًا نحو تنمية الحضارة الأوروبية والاهتمام بحداثتها والابتعاد عن سيطرة الرأسمالية عليها، وقد بدأ الكتاب بفصول الإنسان المتفوِّق وهنا يظهر لنا تأثّر نيتشه بنظرية التطوّر فقد دعا ضمنيًا إلى هدم الأديان في سبيل تطوير جنس البشر وأنَّ النوع القادم هو الإنسان المتفوِّق الذي يأتي عن طريق مبدأ البقاء للأصلح والأكثر قوة (17).

     أمّا الجزء الثاني من الكتاب فقد جاء شارحًا لفلسفة الأخلاق التي نالت نصيب الأسد من أفكار نيتشه التي بُنيت على ضرورة تفعيل الفضيلة دون انتظار الثواب عليها، لأنَّ الفضيلة هي الثواب بحدّ ذاته. وقد بيَّن أنَّ الخير والشر نسبيان وضروريان بنفس المقدار فما تراه أنتَ خيرًا ربّما يكون شرًّا لغيرك والعكس صحيح (18).

    الجزء الثالث من الكتاب كان للحديث عن المرأة التي ذمّها نيتشة وحذَّر منها وأكّد على أنّها مجرَّد لعبة للرجل ومهمتها الوحيدة هي الإنجاب وحفظ الجنس البشري (19).

   في الجزء الأخير تحدَّث نيتشة عن الدّين الذي كان يدعو من بداية الكتاب إلى هدمه واستبداله بنظرية التكرار الأبدي فالإنسان لن يفنى وإذا صل إلى درجة الإنسان المتفوِّق فسيكون هو إله نفسه (20).

    والكتاب إجمالاً موجه نحو تنمية الحضارة الأوربية والاهتمام بحداثتها والابتعاد عن سيطرة الرأسمالية عليها .. وقد بدأ الكتاب بفصول الإنسان المتفوق، والذي طبق فيه نيتشه مبدأ البقاء للأصلح والأكثر قوة .. أما الجزء الثاني من الكتاب ، فقد جاء شارحا لفلسفة الأخلاق التي نالت نثيب الأسد من أفكار نيتشه، والتي بنيت علي ضرروه تفعيل الفضيلة دون انتظار التوابع لها، لأن الفضيلة هي الثواب بحد ذاته .

   وعندما بدأ نيتشه في تأليف الكتاب قال : بأنه سيكون أعظم كتاب يقدمه للبشرية، ولن يكتب شيئاً بعده ، وعلي الرغم من مرور أكثر 150 عام علي تأليف الكتاب، إلا أن أفكاره كانت ولا زالت، ذات صدي كبير .. كما أن الكتاب يحظي بمنزلة عالية وبآثار لا يستطيع أحد إنكارها، فقد جمع نيتشه في كتابه كثير من الأفكار الفلسفية في مختلف مجالات الحياة .. لذا يصنف الكتاب ضمن قائمة أعظم 100 كتاب في البشرية .. لا يخفي علي أحد بأن الكتاب ساهم في تغيير ايديولوجيات بعض المجتمعات .

     أما الأسلوب المتّبع في كتابة هذا الكتاب فيشار إليه على أنه عمل فلسفي من الخيال، والذي غالبًا ما يقلد العهد الجديد والحوارات الأفلاطونية بالإضافة إلى الأعمال ما قبل السقراطية، ويحقق نيتشه كل هذا من خلال شخصية زاراثوسترا في إشارة إلى النبي التقليدي للديانة الزرادشتية الذي يلقي خطابات حول مواضيع فلسفية، وبالانتقال إلى النقَّاد فقد قام الناقد هارولد بنقد كتاب هكذا تكلم زرادشت واصفًا الكتاب بالكارثة الرائعة وغير قابل للقراءة، بينما رأى آخرون أن أسلوب فريدرك نيتشه هو أسلوب ساخر عن قصد وأسلوبه الغير تقليدي الذي لا يميز بين الفلسفة والأدب.

    إن كتاب “هكذا تكلم زرادشت” هو أول بيان شامل لفلسفة نيتشه، وكُتبت فى شكل رواية نثرية كما قلنا ، بدأت بقصة زرادشت وهى نسبة إلى «زارا» وهو شخص جاء بعد سنوات من التأمل أعلى جبل ليقدم حكمته إلى العالم، يطرح نيتشه فى فلسفته، فكرة أن الإله قد مات، ولعله يشير بذلك إلى أن معبود الناس قائمًا من وهمهم، وأنه تعبير مجازى لم يقصد به الإله السماوى، وعلى الرغم من أنه عمل فلسفى بشكل أساسى، إلا أنه يعتبر تحفة فنية فى الأدب. وله تأثير كبير فى الفنون والفلسفة، وتأثر به عدد من المفكرين فى القرن العشرين. فى مُؤلفه، دعا إلى تحطيم ألواح الوصايا جميعها وإلى خلق دستور جديد، كان يرفض الأديان، فأراد أن يقيم من الإنسان إلهًا لا ينازع، وتصور الإنسان صانع قدره، فمجَّد فى كتابه «الإنسان المتفوق»، فيقول: “لقد علمتنى ذاتى عزة جديدة اُعلمها الآن للناس. علمتنى ألا أخفى رأسى بعد الآن فى رمال الأشياء السماوية، بل أرفعها رأسًا عزيزة ترابية تبتدع معنى الأرض»، ويقول: «غدا سيعتنق هذا الرجل عقيدة جديدة وبعد غد سيستبدل بها أجدّ منها، ففكرته تشبه الشعب تذبذبًا وتوقدًا وتقلبًا” (21).

    وعن الخير والشر، يطرح نيتشه فى فلسفته، فيقول: “لقد أقام الناس الخير والشر فابتدعوهما لأنفسهم، وما اكتشفوهما ولا أنزلا عليهم بهاتف من السماء.. لقد وضع الإنسان للأمور أقدارها ليحافظ على نفسه، فهو الذى أوجد للأشياء معانيها الإنسانية.. ما خلق الخير والشر فى كل عصر إلا المتهوسون المبدعون، وما أضرم نارهما إلا عاطفة الحب وعاطفة الغضب باسم الفضائل” (22).

    ويستكمل نيتشه فى فلسفته: “إنكم تنظرون إلى ما فوقكم عندما تتشوقون إلى الاعتلاء، أما أنا فقد علوت حتى أصبحت اتطلع إلى ما تحت أقدامى، فهل فيكم من يمكنه أن يضحك وهو واقف على الذُرى”.. في هكذا تحدث زرادشت يتكلم نيتشه عن بطل القصة زرادشت، والذي في سن الثلاثين عزل نفسه إلي الجبال من أجل الحصول علي التنوير والذي وجد في العزلة سبيلا لرقي روحه حتي يتمكن من حل معضلة الإنسان والوجود (23).

       بعد عشر سنوات ، وبعد أن أرهقه التفكير ، ومع فيض الحكمة التي اكسبها ، يخرج من كهفه لينظر إلي الشمس ، وهي تشرق ليقول لها :” أبتها الشمس ، إذا لم يكن هناك من يأخذ الدفء من نورك فما هي سعادتك ؟ .. عشر سنوات انرت فيها كهفي ، ولولاي ونسري وحيتي ، لأكان أصابك الملل من هذه الرحلة ، وها أنا الآن أصابني الملل من حكمتي ، مثل نحلة جمعت الكثير من العسل ، احتاج لمن يمد يده ويأخذ مني (24).

    اعتقد زرادشت أن الوقت قد حان لينزل من كهفه وليتشارك ما كسبه من حكمة مع إخوته من البشر ، رفع رأسه مخاطباً الشمس مرة أخري فقال: علي أن أهبط إلي أسفل ، مثلما تفعلين أنت عندما تغربين وراء البحار .. علي أن أنير للبشر ظلمتهم .. هذه الكأس تريد أن تفرغ .. وزرادشت يريد يغدوا إنساناً من جديد (25).

      ومع نزول من الجبل يلتقي زرادشت برجل كبير في السن ، فيسأله عما يريد من البشرية ؟ .. يجيبه زرادشت أنه يحب البشر ، وانه يحمل لهم أجمل هدية ، ألا وهي الحكمة ، فيحذره من أن البشر لم يأخذوا بكلامه ، وانهم سيردون عليه بالاستهزاء والكراهية ، لكن زرادشت لا يلقي له بالاً ويقرر إكمال طريقه (25).

     يصل زرادشت إلي مدينة قريبة ، حيث يري أن أهل المدينة اجتمعوا في الساحة العامة ، وهم ينتظرون بهلوانياً يستعد للسير علي حبل مشدود .. حاول زرادشت من خلال هذا التجمع انتهاز الفرصة ليشد انتباههم ، فشرع يخطب فيهم :” أريد أن أريكم الرجل الخارق ، الرجل الذي علينا تجاوزه ، فما الذي فعلتم لتجاوزه ؟ كل الكائنات حتي الآن تبدع لشئ فوق كيانها ، فهل تريدون أن تكونوا مرحلة الجزر في هذا المد العظيم ؟ .. هل تفضلون العودة إلي مرحلة الحيوان بدل مرحلة الرجل الخارق؟

    نحن نعلم جيدا جواز فكرة التطور الدارونية في القرن 19 ، والتي تعتمد علي مبدأ الانتقاء الطبيعي ، لكن نيتشه رفض هذا المبدأ ، ووضع نظريته الخاصة ” التطور الإبداعي” ، فهو يدعي أن التطور لا يحصل بسبب طفرات عشوائية في الجينات ، بل يحصل نتيجة القوة الغائية ، والتي تنقل الروح من مرحلة الدنيا إلي مرحلة مستنيرة ، هذه القوة تتمثل في الطموح ، وهذا الطموح الذي لو قبله الإنسان بدل ربه يستطيع الإنسان أن يتجاوز نفسه وأن يتطور(26).

      يحاول نيتشه بهذا الكلام الرد علي المؤسسة الدينية ؛ حيث إن الدين بشكل عام يعتبر أن من الخطيئة  التفكير بالنفس،  بل علي العكس يحرض التوجه نحو إنكارها، لذلك مشاعر مثل الكبرياء والرغبة في القوة كلها تعتبر من نواحي الشر والتي يجب محاربتها حيث وضح نيتشه قائلا : ” تحاول الكنيسة استئصال العاطفة بدل أن ترسخها ، وبدل أن تتقبل مشاعر كالرغبة والجشع وحب السيطرة ، تحاول إنكارها . لكن استئصال المشاعر هو استئصال لجذور الحياة وما ممارسات الكنيسة سوي محاربة الحياة (27).

     حاول زرادشت اقناع الجمهور امامه بتجاهل التعاليم القديمة ، ومحاولة إيجاد معني جديد للأرض والحياة ، وقوة الجسد حسب رأيه تأتي من الغرائز الطبيعية لتتسامي بهذا الروح لتتجاوز الإنسان نفسه.. وهو بالطبع الرجل الخارق (28).

   وبعد أن أكمل زرادشت كلامه اعتقد الجمهور أنه البهلوني الذي كان كانوا في انتظاره ، فضحكوا وقال بعضهم ، والآن سمعنا البهلواني .. حان الوقت لكي نري حركاته ، لكن البهلواني الحقيقي سمع هذا الكلام ، فاعتقد أن الوقت قد حان ليعرض فاعليته ، بينما الجمهور بدأ ينظر إلي أعلي (29).

     حاول زرادشت إكمال كلامه مستعينا بالبهلواني وحبله لعرض فكرته المجازية ما الإنسان سوي حبل بين الرجل الخارق والحيوان ما هو إلا حبل مشدود فوق العدم .. إن السير علي حبل مشدود هو رياضة خطيرة، ولذلك وحسب نيتشه إذا كان للإنسان أن يرتقي عليه أن يعيش حياة الخطر، وعليه ألا يبقي في حالة ركود بل عليه أن يسعي إلي أن يرتقي بنفسه (30).

   وأكمل زرادشت إن الذين يعيشون حياة الخطر هم يملثون بداية الرجل الخارق .. أحب الذين يشبهون قطرات المطر الثقيلة المعلقة علي رؤوس البشر والتي تهبط من الغيوم السوداء هم يمثلون النذير ويتنبؤون بقُدوم البرق .. أنظروا إليه أنا أول هذه القطرات .. أقول لكم إن البرق قد قادم هذا البرق هو الرجل الخارق (31) .

    بعد أن أنهي زرادشت كلامه انفجر الجميع بضحك هيستيري مرة أخري .. تفاجئ من ردة الفعل هذه .. لذلك قرر أن يغير أسلوبه .. أراد أن يبين لهم أن القيم القديمة بدأت تذبل وأن الحضارة البشرية تتوجه إلي الرجل الأخير .. الشخصية الأكثر مقتاً من كل الشخصيات وهو نقيض الرجل الخارق .. حان الوقا للإنسان أن يعدل أهدافه .. حان الوقت للإنسان أن يزرع بذور آماله العليا فالأرض ما زالت خصبة لكنها لن تبقي كذلك إلي الأبد . أقولها لكم . الإنسان بحاجة إلي الفوضي في أدخله لكي يظل نجمة متوهجة . أقولها لكم : ما زالت هناك فوضي في داخلكم . يا حسرة فالموعد بدأ يقترب ، عندما لا يتمكن الإنسان من أن يلد نجوماً . ها أنا ذا أريكم الرجل الأخير (32) .

     الرجل الأخير هو الذي يتخصص ليس في الابداع بل في الاستهلاك بإرضائه لغرائزه يعتقد الرجل الأخير أنه وصل إلي سعادة قصوي .. هذه الحالة تسوء يوما بعد يوم مع التقدم التكنولوجي والتوجه المستمر نحو المادية . لكنه بهذه المتع الحسية يحاول أن يغطي علي شعوره بالفراغ والتعاسة وبدون هدف حقيقي في حياته لا يستطيع الرجل الأخير أن يجد مبرراً للمعاناة التي يحتاجها الإنسان لكي يتجاوز نفسه ويرتقي بروحه .. هو لا يجرؤ علي الخروج من نطاق متعته لكنه لا يعلم أن المتعة هذه هي سبب تعاسته .. ولهذا السبب يجعل منه حاقداً علي الذين نجحوا في تطوير ذاتهم ويجعله كذلك يدعو إلي محاربة التميز بدعوي المساواة .. الرجل الأخير يريد لمجتمعه أن يكون متساوياً تماماً .. ليس من قبل حاكم أو نظاما مضطهد بل من داخل المجتمع حيث الحسد والغيرة والسخرية هي التي تحض من ارتقاء الآخرين .. لا يوجد راع وقطيع ، بل الكل هو من القطيع . الكل يريدون نفس الشئ ، والكل هم نفس الشئ . ومن يعتقد خلاف هذا ، يساق إلي مستشفي المجانين (33) .

     بعد أن أكمل زرداشت كلامه أجابه البعض بسخرية .. نريد أن نصبح ذلك الرجل الخير . واحتفظ بالرجل الخارق لنفسك ” وها هم الآن ينظرون إلي ويضحكون وهم يكرهونني . هناك جمود في ضحكاتهم” (34).

     أدرك زرداشت حينها أن الغالبية من البشر لا يستطيعون استيعاب كلماته .. بل ليس لهم الاستعداد لذلك .. لذلك غير خطته فبدل أن ينشر رسالته إلي الجميع .. قرر أن يخصصها للقلة المتميزين الذين هم أعلي من القطيع (35).

    غادر زرادشت المدينة يغمره أمل من نوع جديد مرحباً في طريقة بكل من يريد أي يتعلم منه شيئا ، لكنه وفي أثناء سيره في البرية رأي إشارة غريبة في السماء .. ففي وقت الظهيرة رأي نسرا وأفعي ملتفة حول عنقه ليس كفريسة بل كصديق .. هذه حالة غريبة فلطالما كان النسر تاريخيا يشير إلي الارتقاء بالعقل والروح وهو بذلك عكس الأفعي والتي تمثل الشر والغرائز الدونية ..لذلك كانت هذه إشارة لزرادشت حول ما يلي : بقدر ما علينا أن نبحث عما يقوي عقولنا يجب كذلك أن نعرف بالنفس ونتعلم عيوبها وكما يقول زرادشت لاحقا في القصة الإنسان حاله كحال الأشجار كلما ارتفعت إلي السماء وحظيت بضوء أكثر كلما كانت جذورها أقوي وكلما اخترقت الظلام أكثر .. بالطبع ندرك جيدا أن ما جاء به نيتشه ليس فقط يخالف الأعراف القديمة بل كذلك يخالف المفكرين والفلاسفة الآخرين فهو متفرد في مواضيعه التي يطرحها لذلك نتساءل : ما الذي كان يقصده نيتشه بحياة الخطر ؟ .. وكيف نفهم رسالته الرقي في الروح بينما نتقبل النفس وشرورها (36)

   ولعل من المفيد – بعد عرضتا لهذا الكتاب ومحتواه – أن نشير في عجالة إلي أهم التوجهات الضابطة في مسيرة نيتشه الفلسفية عبر فصول الكتاب العديدة .

   وأبرز هذه التوجهات وهو ما ظهر له من أن دراسة كتاب: “هكذا تكلم زرادشت” يمثل كما قلنا من قبل ،تجسيد لأفكار نيتشه انعكاس لعدائه الشديد للديمقراطية والاشتراكية والمسيحية، باعتبارها تمثل “أخلاق العبيد” ، هدف نيتشه كان تعرية الغريزة البشرية في الأخلاق من أجل هدم الأخلاق البرجوازية وتعريتها على حقيقتها ، مثلما حارب الأخلاق النفعية باعتبارها “فلسفة للخنازير”، حسب تعريفه ، تقوم على الجشع وتتميز بالحرص الممزوج بالجبن لتحقيق المآرب والمنافع ، وبهذا فالأخلاق عنده ليست سوى استراتيجية للدفاع عن مصالح محددة تمنع الفرد من إطلاق العنان لرغباته.

    وثمة توجه آخر لنيتشه يتمثل في أن الكتاب يمثل تجسيد لفلسفته في الإنسان المتفوق؛ حيث تأثر نيتشه بنظرية التطور، فبنى نظرياته التي تهدف إلى هدم الدين -المسيحية خصوصاً- وبناء الإنسان المتفوق وكذلك نظريته في التكرار الأبدي على ما نصت عليه نظرية التطور، ففي سلسلة التطور، كل نوعٍ أوجد نوعاً جديداً متفوقاً عليه – إلا الإنسان- وكان تطور تلك الأنواع ناتجٌ عن الانتخاب الطبيعي ، حتى وصلت حلقة التطور إلى نوع الإنسان، وهنا توقف التطور – بحسب نيتشه- ولا سبيل إلى إكمال مسيرته إلا عن طريق تطور الإنسان إلى نوعٍ جديد ، هو الإنسان المتفوق ولكن هذا التطور، ولأنه متقدمٌ جداً في سلم الحياة يتطلب كلا نوعي الانتخاب الطبيعي والاصطناعي، ولأن الانتخاب الطبيعي قائمٌ أساساً على القوة و” البقاء للأصلح” ، فلن يبقى إلا أقوى الأفكار وأقوى البشر، ومن هنا نتبين سبب تمسكه بأخلاق القوة وإرادة القوة التي بنى عليها نظرياته الأخلاقية.

    أما التوجه الثالث فيتمثل في ربط نيتشه بموقفه من المرأة ، فمن المعروف أن نيتشه ممن يزمون المرأة، رغم ترعرعه طيلة عمره مع أمه وأخته، حيث قضى أباه وهو بعمر الخامسة، والنتيجة كانت فلسفة مؤذية قليلاً للمرأة.. في كتابه نجده يحذر من اتخاذ المرأة صديقاً، فهي لا تصلح سوى للحب، وهي مجرد لعبة للرجل، ولا هدف منها ولا مهمة لها سوى الولادة، وهي لا تعرف الشرف ولا تدري ما هو. ثم إن هدف الزواج ينحصر في إنتاج “الانسان المتفوق”، لذا ينبغي أن يقام الزواج بأقصى قدرٍ ممكنٍ من الكمال، فيجب أن يسبق الزواج فترة يلتقي فيها المرأة والرجل ويتعايشان لينظرا هل بإمكانهما الاستمرار في زواجٍ يربطهما إلى الأبد.

    علي أن هذه التوجهات قد صاحبها ثلاث نزعات للمؤلف: إحداها نفسية، والثانية أخلاقية ، والثالثة عقلية . أما الأولي من هذه النزعات، فتتمثل في إفراط المؤلف في القول بأن :” الإرادة هي من تحدد اتجاهاتنا واتجاه الحياة نفسها، وهي من تقرر إذا ما كنا نفعل فضيلةً أم نفعل سواها. حسب نيتشه بإمكاننا تحويل الشهوة إلى فضيلة، عندما نضع فيها مقصداً سامياً. وكل ما كان -في الماضي- هو ما أرادته الإرادة أن يكون فعلاً، لذا لا حاجة بنا إلى ندب الماضي ولعنه، حسب نيتشه إنه ينبغي أن نفعل الفضيلة لذات الفضيلة، ولا ننتظر ثواباً عليها. لأن الفضيلة هي ثواب نفسها، فالوصول إليها هو ثوابها. ويقول أن أخطر الناس هم “أهل الصلاح والعدل”، لأنهم يحاكمون بكل إخلاص، ويقتلون بكل صلاح، ويكذبون بكل عدل، حسب قوله، وهم يعتقدون بأنهم يعرفون ما هو خيرٌ للبشر وما هو شرٌ عليهم، ومن هنا يمارسون وصايتهم الممقوتة. ولكن نيتشه يقرر لنا مخرجاً من أهل الصلاح هؤلاء بقوله: إن الخير والشر نسبيان، فما هو خير لك لا يعني بالضرورة خيرٌ لي، بل ربما يكون شر علي، فما تراه أنت خيراً أراه شراً في أحايين كثيرة. لذا فلكلٍ طريقه ولا توجد جادةٌ سليمة واحدةٌ يسير عليها العالمين. فالحكمة تقتضي على الإنسان أن يعرف خيره وشره, وأن يتكامل في خيره وشره. كما أن الشر الأعظم ضروري للخير الأعظم.

  وأما التوجه الثاني فتتبدي لنا بجلاء في مواضع عديدة من الكتاب يؤكد فيها المؤلف علي إرادة القوة، التي كثيرا ما يقدسها ويعبدها نيتشه، فهو يرى -دوماً- بأن من حق الأقوى أن يحكم، والشعب الأقوى أحق بمقدرات الأضعف. فهو يرى أنه “لا مساواة” لكن “نعم للعدالة”. وبدل العقل والعقلانية جعل الجسد هو العقل الأكبر، وأن اللاعقل هو المصدر الأصل، ففي كل مكان يكاد يكون الجنون هو الذي يفتح الطريق أمام الفكر الجديد، وعلى البشر أن يحققوا أهدافهم الكلية. والإنسان المتفوق هو الذي يستطيع تحقيق الأهداف والارتفاع إلى مستوى الحب القدري، وبهذا جعل نيتشه الإنسان “كمؤدب” للإنسان، ومن يستطيع تحقيق الأهداف عليه أن يعرف “أنه يحتاج إلى أسوأ ما فيه إذا أراد أن يصل إلى أفضل ما فيه”. وهو بهذا لا ينادي بتحرير الغرائز بقدر ما يريد إضفاء الصبغة الروحية عليها وتحويل الطبيعة إلى عمل فني والعودة إلى الأبدي. يمثل نيتشه في الواقع نزعة عدمية بأحلك صورها، فهو يقول بأن الحقيقة والكذب يوظفان دوماً من أجل الكائن المتفرد، كما أن الحقيقة والوعي والعقل والموضوعية والاخلاق، وكل ما على الأرض في هذا الزمن، إنما يبرهن، خطوة فخطوة بكونه تدهوراً امام قرف الحياة. وأمام هذا العجز والإحباط ليس هناك من مخرج سوى “تحرر الأنا والدخول في الفناء” .

     أما النزعة العقلية فتبدو لنا واضحة في الأسلوب المتبع في كتابة هذا الكتاب فيشار إليه على أنه عمل فلسفي من الخيال، والذي غالباً ما يقلد العهد الجديد والحوارات الافلاطونية؛ بالإضافة إلى الأعمال ما قبل السقراطية ويحقق نيتشه كل هذا من خلال شخصية زاراثوسترا في إشارة إلى النبي التقليدي للديانة الزرادشتية الذي يلقي خطابات حول مواضيع فلسفية، وبالانتقال الى النقَاد، فقد قام الناقد هارولد بنقد كتاب هكذا تكلم زرادشت واصفاً الكتاب بالكارثة الرائعة وغير قابل للقراءة..  بينما راي آخرون أن أسلوب فريدرك نيتشه هو أسلوب ساخر عن قصد وأسلوبه الغير تقليدي الذي لا يميز بين الفلسفة والأدب.. لقد عمد نيتشه في هذا الكتاب إلي الكتابة وفق الشذرات إنطلاقاً من كتابه إنساني مفرط في إنسانيته ، الذي يعتبر نقطة تحول في فلسفته ، وهو النص الذي يؤرخ عادة لما يسميه شارحوه ” المرحلة الثانية ” من فلسفته . لذلك يشهد الكل “بطرافة أسلوبه في الكتابة وغرابة بناء نصه . لكأنه يرغب في اختراق ما دأب عليه الفلاسفة من سنن في الكتابة الفلسفية . فكانت قراءته مستعصية نظراً لتعسر فهم ما يعنيه حيناً واحتجاب مقاصده حيناً آخر. إذ تمتنع “كلماته” عن الفهم عندما كانت معانيها متناثرة هنا وهناك بين شذرة وأخري” (36).

  وفي نهاية عرضنا يمكن القول بأن كتاب “هكذا تكلم زرادشت” لنيتشه، سياحة عقلية خالية من أي تعصب ، بعيدة عن أي إسفاف ، مجردة من أي هوي ، واعية متأنية في ذاكرة تاريخ الفلسفة الألمانية المعاصرة نقف من خلالها مع المؤلف علي أفول كل المقدسات / المتعاليات Transcendantale عبر مفهوم موت الإله Dieu est mort ، فبموته سيموت ركن أساسي من أركان اللوغوس ، ذلك أن نيتشه في فاتحة الكتاب الأول من هكذا تكلم زرداشت ” في ديباجية زرادشت يدرج فكرة أفول الله وفنائه ، وبالتالي فناء فكرة تقديس الصوت وتقديس ” الكلمة” ، يقول :” … لكن حالما وجد زرادشت نفسه وحيداً حدث قلبه بهذا الكلام : أيعقل هذا؟! هذا التقديس العجوز لم يسمع هنا في غابه بعد أن الله قد مات ! ” (37).   

    وأخيراً وليس آخراً أقول إنني استمتعت بقراءة هذا الكتاب الجاد الذي جعل صاحبه يُنظر إليه علي أنه أهم وأشهر الفلاسفة المعاصرين الذين استطاعوا أن يجسدوا بطريقة عملية العلاقة بين الشعر والفلسفة ، وذلك من خلال استخدامه اللغة الشعرية في تقديم الأفكار الفلسفية ، حتي بدت فلسفته شعرا ، وهذا ينم عن قدرته البالغة علي تطويع تلك اللغة الشعرية لتقديم الأفكار الفلسفية .. حقا لقد استطاع نيتشه في هذا الكتاب أن يأتي بمطرقه في يده ليحطم قيم التراث الغربي التي أضحت في رأيه بالية وعاجزة عن تقديم مضمون جديد ،بل وامتدت أمنيته هذه إلي التراث الإنساني كله الذي رآه في حاجة ماسة إلي إعادة البناء علي أسس جديدة لا تتغير .. إن هذا الكتاب أثار سؤال من هو نيتشه؟ .. فجاءت الإجابة أنه واحد من الفلاسفة الذين لا يدل أسمهم علي مجرد تراكم للنظريات أو إنتاج للمذاهب الفلسفية .. إن نيتشه لا يملك أن نحصر فكره وفلسفته ضمن تراتبية نسقية  تحيل علي انتظام للمواقف والأفكار والأطروحات ، لأنه فيلسوف ” اللانسق” أصلا.


الهوامش

1-وليم كلي رايت: تاريخ الفلسفة الحديثة ، المترجم / المحقق: محمود سيد أحمد ، دار التنوير، الطبعة الأولى، 2010 ، ص 384.

2- عبد الوهاب المسيري :  نيتشه فيلسوف العلمانية الأكبر ، مجلة الملتقى ، العدد 16 ، 2007، ص 110.

3- محمد سيد أحمد المسير : المجتمع المثالي في الفكر الفلسفي وموقف فلاسفة الإسلام منه، مؤسسة علوم القرآن، دمشق وبيروت ، ص 418.

4-فريدريك نيتشه : هكذا تكلم زرادشت ، مؤسسة هنداوي ، القاهرة ، 2014، ص 14.

5- يسري إبراهيم: نيتشه عدو المسيح ، سينا للنشر ، القاهرة، 1990، ص 45.

6- برتراند رسل : تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الثالث – الفلسفة الحديثة ، ترجمة د. محمد فتحي الشنيطي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1977، ص 393.

7- عبدالمجيد عبدالتواب شيحة: فريدريك نيتشه فيلسوفاً ومربياً، حولية كلية التربية، جامعة قطر – كلية التربية، س 14 , ع 14، 1997، ص 289.

8- كامل محمد محمد عويضة : فريديريك نيتشه ( نبي فلسفة القوة) ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1993.

9- نيتشه : ما وراء الخير والشر تباشير فلسفة المستقبل ، ترجمة جيزيلا فالور حجار ، مراجعة د. مراد وهبة، دار الفارابي ، بيروت ، لبنان ، 2003، ص 257.

10-فردريك نيتشه: هكذا تكلم زرادشت “كتاب للكل ولا لأحد”، ترجمة، تحقيق: فليكس فارس، تقديم: مجاهد عبد المنعم مجاهد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2014، ص 19.

11- نفس المصدر ، ص 23.

12- فردريك نيتشه: هكذا تكلم زرادشت “كتاب للكل ولا لأحد”، ترجمة، علي مصباح ، منشورات الجمل ، بيروت ، لبنان، 2007، ص 14.

13- أنظر مقدمة علي مصباح لكتاب هكذا تكلم زرادشت “كتاب للكل ولا لأحد،  نفس المصدر، ص 9.

14- حامد طاهر : فلسفة القوة بين المتنبي ونيتشه، فكر وإبداع، رابطة الأدب الحديث، الجزء 88، 2014، ص 43-55.

15- سليمة فايد : الدلالات الدينية والفلسفية لفكرة موت الإله عند نيتشه ، أماراباك، الأكاديمية الأمريكية العربية للعلوم والتكنولوجيا، المجلد 11، العدد 38، 2020، ص 154-155.

16-د الشفيع الماحي أحمد: زرادشت والزادشتية، حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية- الحولية الحادية والعشرين- 1422-2001، ص 18-28.

17-د. فؤاد زكريا: نيتشه، سلسلة نوابغ الفكر الغربي ، دار المعارف ، القاهرة، ص 133-145.

18- فريدريك نيتشه : هكذا تكلم زرداشت ، ترجمها عن الألمانية : علي مصباح ، منشورات الجمل ، كولونيا –  ألمانيا ، ط1، 2007، ص 159 وما بعدها.

19- نفس المصدر، ص 291 وما بعدها.

20- نفس المصدر ، ص437 وما بعدها.

21- نفس المصدر ، ص 133-137.

22- نفس المصدر ، ص 144-149.

23- نفس المصدر ، ص 154-158.

24- نفس المصدر ، ص 188-198.

25- نفس المصدر ، ص 221-230.

26- نفس المصدر ، ص 245-248.

27- نفس المصدر ، ص 310-322.

28- نفس المصدر ، ص 355-358.

29- نفس المصدر ، ص 387-391.

30- نفس المصدر ، ص 411-421.

31- نفس المصدر ، ص 454-466,

32- نفس المصدر ، ص 471-479.

33- نفس المصدر ، ص 481-484,

34- نفس المصدر ، ص 791-495.

35- نفس المصدر ، ص 512-532.

36-فوزية ضيف االله : نيتشه من الفيلولوجيا إلى الفلسفة، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، العدد 6، 2015، ص 263.

37- نيتشه: نفس المصدر ، 15

 

 

 

 

 

مقالات أخرى

نظريّة العدالة كأنصاف عند” راولز”

لمحة عن مظاهر التّسامح والتّطرّف بين المكوّنات الدّينيّة  في المغرب

تسريد القيم

2 تعليقات

نورالدين الطالبــــــي 20 فبراير، 2021 - 9:28 م
فلسفة نيتشه كانت ثورة ضد الكوجيطو الديكارتي، ضد مؤسسة العقل والدين وضد المواضعات الاجتماعية، وجعل العقل تابعا للجسد وخادما له في تحقيق رغباته. فالجسد هو الي يحدد ماهية الانسان وجوهره ، الجسد بوصفه رغبة،وبوصفه مستقرا لإرادة القوة
محمد علي جابر 2 مارس، 2021 - 10:00 م
كان لنيتشه دور عظيم في مجالا عدة تتعلق بالفكر الانساني ، خاصة الدين والسياسة والاخلاق والفلسفة والاجتماع ، والتربية ، وبشر بثقافة جديدة وإنسان جديد . ولقد أحدث نيتشه ثورات عظيمة في مجال الفكرالإنساني ؛ وبخاصة في الدين والأخلاق ، والفلسفة ، والسياسة والاجتماع ، والتربية ، وبشر بثقافة جديدة وإنسان جديد .
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. اقراء المزيد