ترجمة: محمد الإدريسي، باحث مغربي في الفلسفة والتربية وعلم الاجتماع
يعرف Fabien Granjon فابيان غرانجون السوسيولوجيا النقدية- في مقالته “هل يستحق النقد اهتمام السوسيولوجيا؟”- انطلاقا من مفهوم النقد المستوحى من النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت. إلاّ أنّ هذه العملية، في حدّ ذاتها، متناقضة، لأن فكرة السوسيولوجيا النقدية تظلّ مرتبطة، في السياق الفرنسي، بالأعمال البورديوية، التي لا تدين في نموذجها الابستيمولوجي بأي شيء لمدرسة فراكفورت. بالإضافة إلى اختلاف الظروف الابستيمولوجية بين التيارين، بما في ذلك الانفتاح والاستقبال المتأخر وغير المنظم للسوسيولوجيا النقدية الألمانية، الأمر الذي ساهم في تحويل النظرية النقدية إلى نوع من “الفزاعة” الابستيمولوجية، استنادا إلى “وساطة الأسطورة الكارثية لأدورنو، الذي من المفروض أن ينخرط في فلسفة للتاريخ الغابر وميتافيزيقا الشمولية الاجتماعية[1]“.
تحالف متناقض
إن هذا التحالف المتناقض مثمر جدّا لتطور النظرية النقدية إن هي اعتمدت على القاعدة الانعكاسية الذاتية في بعدها الابستيمولوجي (على مستوى المبادئ والمناهج) والسوسيولوجي (على مستوى الوضع الاجتماعي للباحث) والسياسي (على مستوى القيمة الاجتماعية لاختيار المواضيع والعواقب السياسية لبناء موقف منها )، والكفاح من أجل بناء تنظير يتجاوز الحدود الضيقة لمنطق التخصص، مما يدفع إلى الشك في مدى صلاحية منطق التخصص والتقاطع بين التخصصات والحقول المعرفية، أمام التداخل بين مختلف التوجهات والأفكار النظرية، إلى الحد الذي أصبح معه الحديث بشكل مستمر عن تناغم بين التخصيصة والتقنوية، التي أصبحت تؤثّر سلبا على القيم النظرية كما القيم الاجتماعية للمعرفة السياسية، لذلك يمكن أن ننظر إلى فكرة النظرية النقدية كإعادة تصحيح لهذا الواقع.
علاوة على ذلك، فإن فكرة النظرية النقدية شكلت بديلا من البدائل المغلوطة التي يتم التلويح بها ضد السوسيولوجيا النقدية: السوسيولوجيا النقدية أو سوسيولوجيا النقد. تحيل “النظرية النقدية”؛ في الآن نفسه؛ إلى ذلك الامتداد النظري للممارسة الاجتماعية النقدية ما قبل النظرية، والانعكاسية الابستيمولوجية، والسوسيولوجية والسياسية للوضع والشكل، ومختلف آثار هذا الامتداد النظري. يمكن القول إن النظرية النقدية في الآن نفسه، سوسيولوجيا نقدية انعكاسية لذاتها، على شاكلة سوسيولوجيا النقد، وسوسيولوجيا للنقد الانعكاسي في مضامينها الاجتماعية والسياسية.
ليس من المستغرب أن نجد فابيان غرانجون يجمع بين فكرة النظرية النقدية كأساس ضروري للانعكاسية والذاتية، وبين ما نسمعه في المعنى السياسي والسوسيولوجي من “انعكاسية ذاتية”. يبدو أن أدورنو كان على حق في مسعاه المعارض لمطالب السوسيولوجيا الملتزمة، التي ازدهرت خلال ستينيات القرن العشرين، إذ لا يمكن للنظرية النقدية أن تعطي ثمارها في حقل العلوم الاجتماعية، لأنها لم تنخرط –ليس فقط- في منطق الانعكاسية الذاتية، بل لم تنخرط أيضا في “مشروع” النظرية الاجتماعية[2]، فمؤشرات الاختلاف الاجتماعي، وديناميات التخصص في العلوم الاجتماعية، والنماذج الميتودولوجية الصاعدة، لا تتلائم مع أي تنظير حول المجتمع (على الأقل إننا نجد التنظير متمظهرا بشكل كبير في الانعكاسية الذاتية الابستيمولوجية، وفي التعبير الدقيق عن المبادئ والمفاهيم وخلاصات المعارف) عندما تفشل السوسيولوجيا النقدية في استبعاد النظرية الاجتماعية التي تريد “نقدها”، وأود هنا أن أفتح النقاش أمام مسألتين أساسيتين: الأولى مرتبطة برفض السوسيولوجيا النقدية، والثانية مرتبطة بإقصائها من مرتبة الفئة المهيمنة.
رفض السوسيولوجيا النقدية
كيف يمكن تفسير تزايد خصوم “السوسيولوجيا النقدية”، ضمن سياق السوسيولوجيا الفرانكوفونية بين السنوات 1990 و 2000، وإجماع السوسيولوجيين على مبدأ “الكل قابل للمعارضة”، الذي تم التعبير عنه في كثير من الأحيان بواسطة السخرية الكاريكاتورية؟ يأخذ فابيان غرانجون هذه القضية على محمل الجد؛ ومعه كامل الحق؛ ففي الواقع، ارتبطت فكرة السوسيولوجيا النقدية ببيير بورديو، في الوقت الذي تمكن فيه من ممارسة هيمنة جزئية على مختلف التغيرات: من أجل العمل على إحياء كثير من البرامج والبحوث الأخرى، رغبة في تأسيس الالتزام والهيمنة النوعية. رغم انقطاع السبل فإن القراءة المختارة التي قدمها فابيان غرانجون (نعلم أنه عمل مضن) لا يمكن أن تساعد على بناء تصور مرجعي أكثر دقة؛ ربما فقط بعض التصورات العامة المرتبطة بتغيرات المشهد السياسي والثقافي. “يستحيل” تحليل “الحروب” [الإنتقادات]التي شنت ضد السوسيولوجيا، من منظور سوسيولوجيا المعرفة، أو سيكولوجيا ديناميات العمل[3]، أو حتى تاريخ الأفكار. سوف أحاول التدقيق في ثلاث حجج يمكن أن تؤسّس لأطروحة أن السوسيولوجيا لا يمكن أن تقوم بدور النقد دون أن تناقض مصداقية صلاحيتها.
يمكن أن يعتمد نقد السوسيولوجيا النقدية (بشكل عام، وليس فقط ضمن النسخة البورديوية) على حجج المثقفين الوصفيين وكذلك التعدديين؛ منذ (ديوي)؛ سيرا على تقليد يعارض المثقفين الذين يزعمون أن المعرفة غاية في حد ذاتها منذ النزعة البراغماتية التي تصر على أنها أساسا وسيلة لتلبية حاجات و الأفراد والمجموعات الاجتماعية ومصالحها. لا يقتصر انتقاد السوسيولوجيا النقدية على الرهانات النظرية أو التجريبية المحددة للسوسيولوجيا كفضاء استدلالي دقيق يفرض جدلا نموذجية المثقفين ضد كل من يقوم مقامهم . بعد ديوي، وهوركهايمر، وادورنو، وابرماس، حيث تقاس المعرفة بغاياتها العملية والمصلحية، يجب أن ترتبط المعرفة بانعكاسية نقدية لطبيعة هذه المصالح وقدرة المعرفة نفسها على تحقيق تلك المصالح.
تتطلب الحجة الوضعياتية من السوسيولوجي أن يرضى بالأحكام الواقعية، ويستبعد كل أحكام القيمة. هذه الحجة نفسها لم تستفد من الشرط “الفيبري “المرتبط “بالحياد فيما يتعلق بالقيم” كما أشار إلى ذلك فابيان غرانجون، عن طريق اتخاذه كواحدة من الموضوعات الرئيسية لنقد أدورنو لبوبر: كل مواضيع الاستطلاعات غير متساوية، ولا ينبغي على السوسيولوجيا أن تخجل من الاهتمام بموضوع الإشكاليات العميقة للحياة الاجتماعية، من أجل المساهمة في الأحسن وتجاوز الأسوأ[4].
في النهاية، إن حجة التعددية هي الحجة الوحيدة التي تستحق أن تأخذ على محمل الجد، حيث تعتبر أن العلوم الاجتماعية يجب عليها أن تأخذ الطبيعة الجزئية للمعرفة من منطلق عدم اختزال: أ-تعدد طبقات الحياة الاجتماعية (في التفاعلات الميكرو-اجتماعية، والمؤسسات المتوسطة، والهياكل الكبرى والقيود النظامية)، ب- لا تجانس الأشكال الواضحة للظواهر الاجتماعية (التغيرات الاقتصادية، السوسيولوجية، السيكو-اجتماعية..الخ)، ج- تنوع وجهات النظر الاجتماعية حول نفس الحدث. من المستحيل تبني تمفصل مع النقد الذي يرتبط بدوره بهذه المواضيع بشكل عام (لأنه يفترض عدم إمكانية تبريره من منظور مختلف). كرد على هذا النوع من الاعتراض، نفترض أننا أخذنا مسار النظرية الاجتماعية في تصورها العام لطبقات الحياة الاجتماعية وصياغة أشكال العقلانية ووجهات النظر الاجتماعية، سنجد أن الأمر لا يتم إلا عبر وسيط بين نظام الأولوية وقاعدة التبعية. إنه استعراض موجز إذا للنقاش حول أصناف الهيمنة الرائجة.
إقصاء أصناف الهيمنة
تعد مسألة الهيمنة، نقطة التقاء واضحة بين السوسيولوجيا النقدية والنظرية النقدية، لكون الأولى غالبا ما تحدد كسوسيولوجيا للهيمنة، بينما تؤول الثانية أحيانا، إلى محاولة لتجاوز التقليد الماركسي للهيمنة الاقتصادية (العمليات)، والسياسية (مختلف أشكال سلطة الدولة) والإيديولوجية[5]. تمر الهيمنة أيضا عبر أنواع مختلفة من الروابط الاجتماعية (من هنا ارتبطت دراسات “هوركهايمر” و”أدورنو” بالأسرة والشخصية السلطوية، ثم ارتبطت دراسات “هابرماس” و”هونتش” ب”المجالات” الاجتماعية”) وعبر الثقافة (من هنا نجد سوسيولوجيا الموسيقى وتحليل الصناعات الثقافية لدى أدورنو). كان من النادر وجود نقطة تقاطع بين هذه الاهتمامات حتى وقت قريب، حيث كان من الشائع النظر في نقطة الهيمنة كنمط ماضوي.
إن رفض مسألة الهيمنة من قبل السوسيولوجيا الفرانكوفونية، ظاهرة أكثر إثارة للدهشة من تلك “الحروب التي شنت” ضد السوسيولوجيا النقدية. كيف يمكن أن ينشأ تخصص رافض لمفهوم من المفاهيم الأساسية منذ “فيبر، ويحاول استبداله؟ بلا شك، كان لانهيار الماركسية، والدول المتبنية لها، دور حاسم في ذلك، والحقيقة أن نقد الهيمنة كان مركز الجرح النرجسي للإنسانية الذكورية، أما بالنسبة إلى النسائية فمن المحتمل أنّ هناك عاملا حاسما آخر. إن منطلق مسألة الهيمنة يكمن في جعل النقد متعدد الجوانب[6]، وبالخصوص قمع قدرة الفاعلين على المقاومة (كما لو أن نقد الهيمنة لا يخدم الوظيفة الرئيسية للدفاع أو تعزيز مقومات الهيمنة)، وينطوي على انحراف سلطوي؛ وتسييسي [سياسي]؛ عبر تخصيص السوسيولوجيا بميزة التشخيص السياسي (وكأن نقد الهيمنة لم يظهر في المقام الأول عبر الحركات السياسية والحركات الفوضوية على وجه الخصوص). يمكن أيضا أن نسجل على نظريات الهيمنة كونها تفترض أن كل شيء مرتبط بالهيمنة ( كما أن استخدام هذه المسألة كان ضروريا وفي محله).
يبدو من المشكوك فيه بروز إمكانية الاستغناء عن النظرية النقدية للمجتمع عبر تحليل نقدي لعلاقات الهيمنة، لكن الأمر لا ينظم سؤال مكان الهيمنة في العالم الاجتماعي، ولا النماذج المستخدمة في هذا الوصف. تحمل “الهيمنة” حسب بورديو نموذجين، اعتمادا على ما إذا كانت تندرج ضمن العلاقات الاجتماعية (كما هو الشأن بالنسبة للهيمنة الذكورية) أو ضمن منطق نظرية “الحقول”[7]، وتتقاطع النقاشات وتتشارك في النمط نفسه المرتبط بمختلف العلاقات الاجتماعية للهيمنة[8]، الأمر الذي يصعّد من حدّة تعقيد النقاش وتركيبه. بالإضافة إلى ذلك، فإن النموذج البورديوي للهيمنة المشتغلة في الخفاء يتعارض مع النموذج الفيبري للهيمنة التي تحتاج إلى الشرعية. يبدو واضحا أن هذين النموذجين مكملان لبعضهما البعض[9]، وأن هذه الأسئلة أساسية للسوسيولوجيا النقدية، التي لم يتناولها فابيان غرانجون بطريقة مختلفة في مقالاته. إننا اليوم في ميدان للنظرية الاجتماعية، حيث الفضاء خصب للاستثمار.
*– هذا المقال هو ترجمة عن النص الفرنسي المنشور بعنوان:
Emmanuel Renault, « De la sociologie critique à la théorie critique ? », Sociologie, N°1, vol. 3 | 2012.
[1]– أود أن أحيل، بخصوص وصول النظرية النقدية إلى فرنسا، إلى ايمانويل رونو “فوكو ومدرسة فرانفورت” (2006)، و”هابرماس، فوكو: مسارات متقاطعة، منشورات CNRS، وإلى “مع وضد النظرية النقدية باسم ثورة 1968” (http/ / colloque-mai68.ens lyon.fr/spip.php?article-88). لنقد شامل للأفكار التشاؤمية لأدورنو وفلسفته الاجتماعية الكلية، أنظر خاصة: موتو (2010)، “مقالة عن ادورنو”، بايوت . الترجمة الاخيرة للكتابات السوسيولوجية (ادورنو [2011]، المجتمع: التكامل والتفكك، بايوت). يجب العمل على التصحيح التدريجي لسوء التفسير الذي قد اعتمده فابيان غرانجون ؛ أحيانا؛ لتجاوز القراءة المتناقضة للمعطيات المقدمة.
[2]– T.W.Adorno PhilosophischeElementeEinertheorie Der Gesellschaft, Suhrkanp. ومن أجل تكوين فكرة على النظرية الاجتماعية لدى ادورنو أنظر: E. Renault (2011), « Adorno : Dalla FilsophiaSociale Alla Teoria Sociale » Quaderni Di Teoria Sociale, 11 (ستنشر النسخة الفرنسية في دورية بحوث في اللغة والمعرفة “من الفلسفة الاجتماعية إلى النظرية الاجتماعية”).
[3]– ربما نجد عناصر مفيدة ضمن تحليلات ديفرو (1980) لأصول التداخل بين التخصصات،من قلق المنهج في العلوم السلوكية، أوبير، أو في وصف “الايديولوجيات الدفاعية عن المهنة” لدى دجور (2008)، “العمل استيلاب عقلي”، بايار و مولينير (2008)، و”الرهانات النفسية للعمل” بايوت.
[4]– حول هذه النقطة انظر :
Adorno (1979), « Introduction ». In De Vienne à Francfort. La Querelle Allemande Des Science Sociales, Complexes, p.52-55.
[5]– T.Schoyer (1980), Critique De La Domination. Origines Et Développement De La Théorie Critique, Payont.
[6]– للمراجعة النقدية أنظر:
C.Gautier (2011), « La Domination En Sociologie n’est-elle Qu’une fiction ? »,Actuel Marx, N° 49.
[7]– نقطة أرزها B.Lahire لاهير، خصوصا في كتابه الأخير:
B.Lahire (2012),Monde Plurie. Penser L’unité Des Sciences Sociales , Le Seuil.
[8]– أنظر بالخصوص إلى:
E.Dorlin (dir), Sexe, Race, Classe. Pour une épistémologie De La Domination, PUF.
[9]– كما اقترح:
M.Burawoy (2011), « La Domination est-elle si Profonde ?Au-delà De Bourdieu Et De Gramsci »,Actuel Marx, N50.