منذ نهاية السنة الماضية، بدأ ما يسمى تنظيم «داعش» الإرهابي يبحث عن ملاذ آمن له في ليبيا لكونها دولة فاشلة, فهناك جملة من الأسباب تدفع بهذا التنظيم إلى التمدد داخل الأراضي الليبية، لعل أبرزها مبايعة تنظيم «أنصار الشريعة» المسيطر على مدينة «درنة» المتميّزة بجبالها المترامية وهو ما يسهّل اختباء المسلحين فيها، هذا إضافة إلى المعسكرات«الجهاديّة» الحديثة في شرق ليبيا.
ومن الأسباب الأخرى التي تجعل ليبيا مركزاً لنشاط تنظيم «داعش»: مساحة البلاد الشاسعة، و موقع ليبيا الجغرافي الاستراتيجي المطل على ست دول هي مصر، تونس, الجزائر, تشاد, السودان والنيجر، إضافة إلى قرب ليبيا من أوروبا، وإطلالها على جنوب أوروبا ودول شمال إفريقيا وقربها الجغرافي من دول الساحل الإفريقي، وحجم ثرواتها، وشبه انهيار الدولة كلها، وكثرة الرحلات المنطلقة من الأراضي الليبية باتجاه جنوب أوروبا في إطار الهجرة السرية التي تثبت سهولة ولوج القارة العجوز عن طريق الزوارق الصغيرة لتنفيذ أعمال إرهابية، وهي كلها عوامل ترشّح ليبيا لتكون مركز عمليات تنظيم «داعش».
إضافة إلى إن لِبَلَدِ عمر المختار إمكانات ضخمة تمكن الاستفادة منها بشكل كبير واستغلالها من قبل هذا التنظيم الإرهابي، فقد كان القذافي طوال فترة حكمه يستغل عائدات النفط في التسليح وشراء العتاد الحربي وتخزينه، وان جزءاً مُهِّماً من هذا السلاح وقع في يد الميليشيات المسلحة التي تحارب بعضهابعضاً, وكان السلاح المهرب عاملاً حاسماً في المعارك التي دارت في مالي منذ بداية سنة 2012، إذ قلب المعادلات في مدة قصيرة في هذا البلد وجعل التكفيريين يسيطرون على أكثر من ثلثي هذه الدولة .
وتمثل ليبيا لتنظيم «داعش» أرضاً خصبة لعملياته ،إضافة لوجود العديد من التنظيمات والجماعات الإسلامية المتشددة، والميليشيات، التي يمكن استقطابها، وجعلها جزءاً من الاحتياطي الاستراتيجي لتنظيم «داعش»، فضلاً عن أن هناك مساحات شاسعة في ليبيا غير خاضعة لضبط الدولة، وتوجد فيها ثروات هائلة، ولاسيما النفط تمكنه من «رغد العيش» فترة طويلة. ولعل طلب ليبيا الانضمام إلى «الائتلاف الدولي لمحاربة داعش» سيجعل من هذا البلد إحدى أهم الساحات المقبلة للحرب بين التنظيمات التكفيرية و«الحلف الدولي» ضد الإرهاب.
وقد أعلنت عدّة تنظيمات «جهاديّة» متطرّفة في دول جوار ليبيا الستّ، ولاءها للإرهابي المدعو «البغدادي» على غرار حركة «التوحيد والجهاد» في الجزائر المعروفة بتمركزها على الحدود الجنوبية والجنوب شرقية بين البلدين، إضافة إلى انضمام كتائب «جهادية» أخرى تابعة لتنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي » وجماعة «بيت المقدس» في شبه جزيرة سيناء المصرية، و«جماعة الاعتصام بالكتاب والسنّة» في السودان، كلّ ذلك يضمن لتنظيم «داعش» الإرهابي التمدّد واستغلال خلاياه النائمة في هذه الدول لتنفيذ مخططه التوسعي في منطقة المغرب العربي.
ويستغل تنظيم «داعش» غياب استراتيجية واضحة من جانب «التحالف الدولي» لمحاربته، فمواصلة الضربات الجوية المحدودة الفعالية هي ذاتها من قبل الطيران الأميركي، ولا تغيير في ذلك، والضغط على الحكومة العراقية لتحجيم «الحشد الشعبي» ودوره، وتكبير دور العشائر لضمّهم إلى جبهات القتال، والإبقاء على الجيش العراقي من دون سلاح ومعدّات لقتال «داعش»،كلها عوامل تزيد من تقوية «داعش» لكي يتمدّد في قلب المشرق العربي، وفي المغرب العربي أيضاً.
وتؤكد التقارير الاستخباراتية الصادرة من عدة دول غربية، أن عدد المنضمين إلى صفوف «داعش» قد ارتفع بنحو 70 % خلال الأشهر التسعة الماضية. وأن هناك ثلاثين ألف مقاتل أجنبي جاؤوا من مئة دولة في العالم, من بينها دول كانت إلى وقت قريب في منأى عن عمليات الجماعات الإرهابية مثل تشيلي وفنلندا وجزر المالديف. ولم تنجح ضربات «التحالف» الجوية بقيادة الولايات المتحدة منذ انطلاقها في أيلول من العام الماضي في وقف تمدد «داعش»، بل إن التطورات التي شهدتها المنطقة خلال شهر أيار الماضي، تؤكد ان المعركة مع «داعش» هي أصعب مما يتصور البعض, والأدهى من ذلك أن ماكينة هذا التنظيم الإعلامية تنشط في استقطاب آلاف المجندين والموالين له من شتى أنحاء العالم. فوفقاً لتقرير مجلس الأمن يوجد حوالي 700 إرهابي قدموا من بريطانيا خلال السنوات الماضية وهناك حوالي3400 شخص من دول غربية سافروا إلى العراق وسورية للالتحاق بهذا التنظيم الإرهابي. وقد ربط التقرير هذا الازدياد المفاجئ في أعداد المقاتلين الأجانب بالوضع في ليبيا التي تحولت أراضيها إلى مركز مهم لتدريب الإرهابيين ومحطة مهمة من دون رقابة أمنية قبل إرسالهم إلى سورية والعراق. كما كشف تقرير استخباراتي بريطاني تزايد توجه البريطانيين إلى ليبيا برا عبر إيطاليا وتونس بقصد الانضمام إلى تنظيم «داعش».
ويزيد من خطورة تمركز «داعش » في ليبيا، تخطيط جماعة «بوكو حرام» النيجيرية إلى التمدد باتجاه الأراضي الليبية، ولاسيما أن هذه الأخيرة أعلنت «مبايعتها» للإرهابي البغدادي، بهدف الحصول على التمويل، علماً بأن الراتب الشهري للإرهابي الذي يقاتل في صفوف تنظيم «داعش» داخل ليبيا يتراوح ما بين ألف وأربعة آلاف دولار ، وهو ما يغري عناصر جماعة «بوكو حرام» لنقل نشاطها إلى داخل ليبيا, والحال هذه، أصبح تنظيم «داعش» بعد دخول «بوكو حرام» ليبيا والتحاق «أنصار الشريعة» المحظور محلياً ودولياً بالتنظيم، وتوافد الأجانب من مختلف الجنسيات، قويا ًوقادراً على بسط سيطرته على مزيد من المدن الليبية.
وفي هذا السياق، فقد سيطر«داعش» على مطار مدينة سرت شمال ليبيا، بعد مغادرة القوات الموالية للحكومة في طرابلس «فجر ليبيا» القاعدة الجوية القرضابية في المدينة، التي تقع على بعد نحو 20 كيلومتراً جنوب سرت مسقط رأس الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، وتضمّ مطار المدينة، التي تمكّن «داعش» من السيطرة على الأجزاء الكبرى منها ومعظم المباني الحكومية فيها في شباط الماضي، والتي تبعد عن طرابلس نحو 450 كيلومتراً , كما حصل «داعش» على ثماني طائرات حربية مقاتلة, منها اثنتان فقط معطلة وست جاهزة للخدمة. فقد أخلت قوات «فجر ليبيا» مواقعها في القاعدة، في إطار عملية إعادة تمركز تهدف إلى التركيز على تأمين منطقتي المحطة البخارية (15 كيلومتراً غرب سرت) وهراوة شرقها. وبذلك بسط التنظيم الإرهابي نفوذه بطريقة مثيرة وغريبة، كالتي حدثت في الرمادي، ما يعني إن التنظيم يسعى للتوطين والتمدد اكثر في الأراضي الليبية، خاصة في الوسط والغرب الليبي والجنوب.
الأهمية الاستراتيجية لمدينة سرت والمدن المجاورة هي أنها تحتوي على أكبر نسبة من احتياطي النفط الليبي فحوض سرت يضم 80 % من الاحتياطات المؤكدة للنفط في ليبيا التي تقدر بـ46 مليار برميل. وقد لعبت هذه المدن دوراً بارزاً في 2011 عندما توجهت كتائب القوات الليبية نحوها لليقين بأن من يبسط نفوذه على النفط يمكنه أن يكسب ورقة رابحة في أي صراع يدور في ليبيا،وطبرق والزويتة والبريقة وراس لانوف وميناء سدرة تبقى أهم الموانئ النفطية في ليبيا. فمصفاة راس لانوف مثلاً كانت تنتج في 2011 نحو 200 ألف برميل يومياً وتبقى بذلك المنطقة الشرقية في غاية الأهمية لاحتوائها على أهم موانئ تصدير النفط وأكبر نسبة من الاحتياطي النفطي ولكن ذلك لا ينفي أهمية عدد من مصافي النفط غرب البلاد من بينها مصفاة الزاوية القريبة من الحدود التونسية التي كانت تنتج في 2011 نحو 250 ألف برميل وكانت تعد ثاني أهم مصفاة في البلاد…
كل ذلك يفسر القيمة الاستراتيجية لسيطرة «داعش» على سرت والمدن المجاورة وكل ذلك يوضح أن معركة الهلال النفطي هي المعركة الحاسمة التي سيتحدد بعدها مصير «داعش» في ليبيا, فإما أن يتمكن الفرقاء الليبيون من التوحد ضده وإما أن ينجح التنظيم في بسط نفوذه على معظم الأراضي الليبية.
وقد أشارت تقارير استخباراتية ليبية إلى تخطيط «الدواعش» للاتجاه انطلاقاً من سرت نحو المناطق الوسطى والجفرة ليتمكن من تقسيم ليبيا إلى شطرين وبذلك يكون التنظيم قد وضع يده على المواقع النفطية وسط وجنوب البلاد التي أنهكتها الحرب الأهلية والصراعات المسلحة على السلطة, وبسيطرة «داعش» على سرت الاستراتيجية التي تتوسط ليبيا جغرافياً أصبح في إمكانه التحرك نحو الهلال النفطي مستغلاً ضعف تسليح حرس المنشآت النفطية والخلافات بين إبراهيم الجظران رئيس حرس المنشآت النفطية والقائد العام للجيش الليبي خليفة حفتر.
التقدم السريع لتنظيم «داعش» لم يكن مفاجئاً على الإطلاق ولاسيما في ظل تشتت جهود الليبيين وانغماسهم في الحرب الأهلية وعدم توحدهم وتهاون المجتمع الدولي فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب في ليبيا على غرار تهاونه بشأن مكافحة الإرهاب في العراق وسورية.
ويبقى السبب الأول لتمدد «داعش» بتلك السرعة المذهلة هو تمسك مجلس الأمن الدولي بسريان قرار حظر تسليح الجيش الليبي بما منعه من مكافحة «داعش» وغيرها من الجماعات الإرهابية، ولم تفلح الحكومة المؤقتة ولا مجلس النواب المعترف به دولياً ومندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة إبراهيم الدباشي في إقناع المجتمع الدولي برفع الحظر المفروض منذ 2011 ، من دون نسيان «الفيتو» الغربي المرفوع في وجه القائد العام للجيش الليبي خليفة حفتر, إذ سبق لدول عظمى وحتى بعض دول الجوار أن طالبت بإقصاء حفتر من المؤسسة العسكرية ومن المشهد الليبي.
وَوَجَّه «داعش» عبر مواقع التواصل الاجتماعي تهديدات مباشرة بعد استيلائه على قاعدة سرت الجوية إلى الدول الأوروبية وخاصة إيطاليا، إذ قال: «أصبحنا على بعد 1200كلم من روما».وفور الكشف عن هذه المعلومات أعلنت حالة الاستنفار القصوى في ليبيا، وبدول الجوار ولاسيما تونس والجزائر، خوفاً من تنفيذ هذا التنظيم الإرهابي تهديداته التي لطالما أطلقها والمتمثلة بالقيام بهجمات انتحارية بالطائرات. وتأخذ الدول المعنية تهديدات «داعش» بصورة جدية، بغض النظر عن امتلاك هذا التنظيم الإرهابي إمكانات بشرية تسمح له باستعمال هذه الطائرات أو لا، فإن التنظيم بالتأكيد، يمتلك ذلك لأنه كثيراً ما هدد بتنفيذ عمليات إرهابية من الجو.
و تشير أوساط من داخل المخابرات الجزائرية، إلى أن تنظيم «داعش » يوجه ضربات انتقامية للجزائر ومصر ويتمدد في تونس، بعد نجاحه في ليبيا، وهو ما يتطلب تحركاً سريعاً من الجانب الجزائري، وذلك من خلال التنسيق مع تونس والحكومة الليبية لتوجيه ضربات وتدمير الطائرات في مطار سرت قبل استعمالها. وتملك الجزائر الإمكانات التي تسمح لها بذلك أفضل من أن تنتظر الضربة لأن الأهداف الحيوية للتنظيم في الجنوب متوافرة ويمكن أن يستهدفها في أي وقت، رغم أن سلاح الجو الجزائري على أهبة الاستعداد لصدِّ أي محاولة اختراق للمجال الجوي الجزائري انطلاقاً من ليبيا.