القيمة المطلقة: قيمة اعتبارية قائمة بذاتها ضمن القيم الأخرى ولكن لا تتأثر بها ولا تؤثر فيها. ولكل شيء أو حدث قيمة مطلقة، محايدة، مجردة هي قيمته بحد ذاته منفصلة عن موقفنا أو موقف غيرنا منه.
فالكمال المطلق صفة خاصة من صفات الله التي لا يتمتع بها أحد سواه. له وحده الأسماء والصفات الحسنى الكاملة. ولا يستطيع أحد أن ينقص أو أن يزيد في هذه الصفات الخاصة بالله. إن القدرة على رؤية القيم المطلقة في الأشياء والحوادث والأفعال والأفكار هي القدرة على رؤيتها وتقديرها حق قدرها قبل أن نتأثر بها أو أن نؤثر فيها. أي رؤيتها رؤية مجردة، محايدة بعيدة عن عواطفنا وعن عواطف الجهة التي هي صاحبتها. فالحدث مثلا نقيمه كحدث فقط ماذا يعني حصوله لنفسه ولذاته ما صفاته و ما سماته الخاصة وهويته الشخصية دون النظر في أسبقياته وخلفياته. بل نحن ننظر إليه كمولود جديد نبحث فيه لنكشف عن إيجابياته ثم عن سلبياته ونحدد معالمه. و نقوم بتحليله تحليلا منطقيا علميا منهجيا خالصا ودراسته دراسة خاصة به دون النظر إلى من يقف وراء هذا الحدث ومن هو الفاعل المؤثر فيه ما غاياته وما أهدافه و دوافعه بل كحدث حصل وهو قائم وفعال وموجود كرهنا أم رغبنا وأحببنا.
أي إنه علينا أن نتعامل بداية مع الحدث كحدث مجرد، ظهر إلى الوجود فهو موجود، له ماله، وعليه ما عليه، وله عمقه وأبعاده وصفاته وميزاته الخاصة به وعلاقاته الخاصة بكل الأشياء، ولكن نحن أولا نراه
منفصلا عن كل شيء سواه ثم نقبل به أو نرفضه ولكن بعد فهم قيمته المطلقة أولا دون عواطف والخطوة الثانية هي تحديد الموقف منه. وهذا يعني فصله وتحديده وتحييده و رسم جميع أبعاده وفهمه بحجمه الحقيقي
لنراه رؤية طبيعية جوهرية تميزه عن غيره تجعلنا قادرين على الإلمام به إلماما تاما. وبعدها تأتي مرحلة النظرة الشمولية والنسبية له أي رؤية علاقته بغيره من الظواهر والأحداث والدوافع والأسباب.
مثلا العلاقة بين شخصين قام الأول بظلم الثاني في موقف معين ،واغتصب منه حقا من حقوقه ، وفي مرة ثانية قام الأول بفعل ما فهذا لا يعني أن نعد هذا الفعل هو فعل ظلم لأنه صادر عن ظالم. ولا يجوز أصلا أن نعد الأول ظالما وننظر إليه من هذه الزاوية كظالم ولو أنه ظلم مرة أو أكثر، بل نحن نقيم الفعل كفعل ظلم أما هو فيبقى إنسانا قد يكون ظالما أحيانا وقد يكون مظلوما في أحيان أخرى إنما نحن يجب أن نقيم الظلم كظلم ونقدره حق قدره ونرفعه عمن لحق به ونأخذ الحق ممن اغتصبه ونعيده لصاحبه وبهذه الحالة يتساوى الظالم والمظلوم من الناحية الإنسانية. فكما هما كانا متساويان قبل حدوث فعل الظلم فقد عادا متساويين بعد إزالة فعل الظلم وأثاره. لأن الظالم أعاد الحق إلى صاحبه فهو لم يعد ظالما، والمظلوم وصل إليه حقه فهو ليس مظلوما الآن، وكل ما يتوجب علينا هو إعادة الحق إلى صاحبه ومنع المغتصب من اغتصابه. أي أن المرحلة الأولى لأي حدث هي كشف قيمته المطلقة أي تحديد أبعاده الزمانية والمكانية بعيدا عن الظروف النفسية والاجتماعية والتاريخية التي أوجدته أو التي أوجدتنا، أي أن التقييم الأولي والميزان في المرحلة الأولى يكون تعريفيا استكشافيا توضيحيا لا فاعلا ولا منفعلا بل مراقبا فقط وهذه مرحلة إعطاء هذا الحدث حقه في التعبير عن ذاته ومساعدته في أن يستقر في موضع قيمي، معياري يتناسب وطبيعته التي ولدبها و لها.
والمرحلة الثانية هي موقفنا منه، بناؤنا عليه، نظرتنا فيه، ضررنا أو فائدتنا منه، رد فعلنا عليه. وإذا كانت المرحلة الأولى كما افترضنا هي مرحلة محاكمة عقلية تفحصية تمحيصية بحثية علمية بحتة، ففي المرحلة الثانية نستخدم المنهج المنطقي نفسه ونضيف إليه ما نستطيع أن نحمل الحدث من احتمالات من مختلف الوجوه دون زيادة ومبالغة وبدون نقصان أيضا وهنا يأتي دور العقل الباطن ليشارك في ما يفعله العقل الظاهر فيترك بصماته على النتيجة، على شكل لون معين أو ظل معين يضفيه المراقب للحدث على صورة الحدث النهائية وانطباعه عنه، رضاه أو غضبه ومجمل عواطفه عنه. ولا يستطيع المرء أن يتخلص من ذلك لأنه إنسان وله وجوده وأحداثه وإحداثياته وأبعاده الزمانية والمكانية الخاصة به التي يدافع عنها ويتمسك بها ليس من دوافع عقلانية فقط بل من دوافع غريزية خلقية أيضا.
المهم أنه إذا استطاع تنفيذ المرحلة التعريفية ( لقاء الصدمة الأولى بجدارة وإدارة فنية واعية ومسئولة) أي بعدالة، فإن المرحلة الثانية ستكون عادلة أيضا. ولن ينال الحدث إلا ما يستحق من عناية و تأييد و تأكيد وقبول وتشجيع أو لا مبالاة وعدم اكتراث أو رفض ومقاومة وإبطال أو منع. المهم أن نفهم ونقر ونرى أن لكل شيء حولنا قيمة اعتبارية مطلقة قد لا تهتم بنا ولا تعترف بنا ولا تقر وجودنا، كما أنه قد لا نهتم بها إن حلت أو رحلت، ظهرت أو اختفت أي إنها قد لا تؤثر فينا ولا نؤثر فيها. لها مجراها ولنا مجرانا وقد لا نلتقي ولا نتقاطع، لا نختلف ولا نتفق أبدا، وقد لا يضر وجود أحدنا أو عدمه على الآخر بشيء.
وهكذا ففي نطاق المعاملة مع الآخر. يجب أن لا نقيم معاملتنا معه على أساس أنه من عنصر معين أو أنه من طائفة معينة أو من جنسية معينة أو حسب شكله وطوله، بل حسب إنسانيته، و حسب ما له من أبعاد حدثية إحداثية خطوة بخطوة على انفراد. نأخذ كل حدث له بانفراد، نتعامل معه بعدل، مرحلة التعرف على الحدث ومرحلة الموقف من الحدث، أما هو فيبقى موقفنا منه كإنسان والإنسانية قيمة اعتبارية مطلقة يتساوى فيها جميع بني آدم. أي إننا لا نتخذ موقفا إيجابيا أو سلبيا من هذا أو من ذاك الشخص بل موقفنا يكون سلبيا أو ايجابيا نحو ما صدر من هذا الشخص من قول أو فعل أو حدث، نحن ننتقد الحدث لا المحدث، نحن نحب أو نكره الفعل لا الفاعل. وإذا كان يحق للإنسان أن يرد على الإساءة بإساءة مثلها فإن الإسلام ينادي: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). ولذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينتصر ولم يغضب لنفسه قط. إنما كان يغضب فقط إذا انتهكت حرمة الدين.
يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في إحدى المناسبات عندما سب أحد الصحابة مذنبة “لقد تابت توبة لو قسمتها على جميع أهل الأرض لوسعتهم. أي إن خطيئتها قد تخلصت منها بإيقاع العقوبة المناسبة فيها، وهي بهذا مساوية تماما من الناحية الإنسانية لهذا الصحابي الجليل. ويعني إذا كنا نكره الظلم ونكره كل أنواع الشر ونعاقب من يفعل الظلم والمنكر إنما نحن لا نكره الشخص الفاعل بذاته كما لم نكن نكرهه قبل قيامه بهذا الفعل. إنما نكره الشر و فعل الظلم فقط، أما هو فيبقى أخا لنا في الإنسانية نحبه ونرعى مصالحه وحقوقه، فقط كما يقال عقوبات تأديبية لمنع الظلم لا إيقاعه ولردع الظالم ورد الحق لصاحبه، أي إن القصاص العادل من الظالم ليس غاية بحد ذاته فنحن لا نتلذذ بتعذيبه ولا نريد إيذاءه وإلا فنحن نظلمه – نماثله في الفعل. كل غايتنا هو ردعه عن الظلم و نحن نأسف له كإنسان قد ظلم نفسه أولا عندما ظلم غيره.